ترجمة وتحرير: نون بوست
أعاقت فكرة التواطؤ مع روسيا دونالد ترامب طوال حملته الانتخابية وفترة رئاسته، وزاد تعامله مع المساعدات العسكرية الأمريكية الموجهة لأوكرانيا من حدة النقاش. في هذا الصدد، جادلت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي بأن حجب المساعدات عن أوكرانيا لم يأت بالنفع سوى على روسيا وأن “كل الطرق تؤدي إلى بوتين”. وفي الوقت نفسه، أشار المدافعون عن السياسة الخارجية للرئيس إلى سياسات إدارة ترامب المختلفة المتخذة تجاه روسيا كدليل على أن إدارته حافظت على موقف صارم ضد موسكو.
يفتقر كلا الجانبين من هذا النقاش إلى نقطة أساسية. وتدل حقيقة قدرة ترامب على التعامل مع المساعدات المقدمة لأوكرانيا بطريقة متعجرفة على مدى قلة اهتمامه بأوكرانيا أو بصراعها مع روسيا. وعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، تجلى موقف “أمريكا أولاً” لترامب كإستراتيجية تجارية حديثة شبه انعزالية ترى العديد من التزامات أمريكا الاقتصادية والعسكرية والسياسية في جميع أنحاء العالم على أنها فرص يمكن استغلالها لتحقيق مكاسب قصيرة الأجل، و”صفقات فاشلة” يجب إعادة التفاوض عليها بشروط أكثر ملاءمة، أو ببساطة كأعباء يجب التخلص منها.
يعمل بوتين على استعادة النفوذ والهيبة الدوليين اللذين فقدتهما البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي
يهتم ترامب بمعارك أوكرانيا ضد الانفصاليين والفساد فقط مادامت هذه الأشياء تؤثر على السياسة الأمريكية الداخلية. وبالمثل، يمكن أن يكون حلف الناتو مفيدًا لجدول أعمال ترامب في بعض الأحيان ــ ففي الوقت الحالي، يدافع ترامب عن سياساته في الشرق الأوسط ويريد من الحلفاء تقاسم العبء - لكن يمثل حلف شمال الأطلسي عبئًا ماليًا في نظر ترامب، بصرف النظر عن دوره في إبقاء التوسع الروسي تحت السيطرة.
من ناحية أخرى، أمضى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين العقدين الماضيين في تحصين نفسه في السلطة داخل روسيا بينما كان يعمل على استعادة النفوذ والهيبة الدوليين اللذين فقدتهما البلاد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. وفي “التلغرام الطويل”، رسم جورج كينان صورة عن روسيا كقوة غير آمنة وانتهازية تسعى إلى توسيع قوتها أينما ومتى استطاعت، ولكن تتراجع في مواجهة المقاومة. والجدير بالذكر أن سياسة فلاديمير بوتين الخارجية تتفق إلى حد كبير مع أفكار كينان، والتي تميزت بالاستيلاء على السلطة العرضية والانتهازية، والمقيدة بيقظة الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين.
خلال فترة رئاسته، سعى بوتين إلى استعادة سيطرة روسيا الإقليمية على الأراضي أو هيمنتها السياسية على أجزاء من الاتحاد السوفيتي السابق، مثل جورجيا وأوكرانيا وبيلاروس، ولكن أحبطت هذه المساعي من خلال توسعات الناتو والاتحاد الأوروبي في منطقة الاتحاد السوفيتي السابق. كما طور بوتين أو حافظ على شراكات مع جملة من المستبدين الودودين في بلدان مثل كوبا والسودان، لكنه كان حذراً بشكل عام من الانخراط في أشكال المغامرة الخارجية التي تجاوزت الاتحاد السوفيتي في نهاية المطاف.
لكن خلال السنوات الثلاث الماضية، قوضت إدارة ترامب التزام الولايات المتحدة باحتواء النفوذ الروسي، مما وفر لروسيا فرصًا جديدة لتوسيع نطاقها العالمي. ويمكن ملاحظة هذا التحول الجذري على مستوى أولويات السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط.
عموما، تملك إدارة ترامب عددا ضئيلا من المصالح في الشرق الأوسط – الحفاظ على قبضتها على النفط، وبيع الأسلحة إلى المملكة العربية السعودية والتفوق على الرئيس باراك أوباما من خلال عقد صفقة “أفضل” مع إيران. يعد كل شيء آخر حول التزام الولايات المتحدة تجاه المنطقة ببساطة حسابا غير مرغوب فيه في نظر ترامب، حيث أنه سعيد بالتنازل عن نفوذ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لروسيا إذا كان ذلك يسمح للولايات المتحدة بالانسحاب بثمن بخس وبسرعة. (قال ترامب ما يكفي في ما يتعلق بتعويض روسيا لانسحاب القوات الأمريكية في شمال سوريا).
في المقابل، تعد روسيا التي تحرص على عدم الإفراط في التدخل العسكري واسع النطاق في المنطقة، سعيدة للغاية بإنشاء دولة عميلة في سوريا وتوسيع نطاق الوصول إلى العراق فضلا عن تحمل دور أكبر كوسيط في الشرق الأوسط.
من جهة أخرى، تتزايد لامبالاة ترامب وانتهازية بوتين في أماكن أخرى من العالم. من جهتهم، حذر كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين في إدارة ترامب، مثل مستشار الأمن القومي آنذاك جون بولتون ورئيس القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا الجنرال ستيفن تاونسند من تنامي نفوذ كل من الصين وروسيا في إفريقيا. لكن بالكاد أبدى ترامب أي اهتمام بأفريقيا، وتشكل أكبر قدر من الاهتمام تلقته القارة من الرئيس في صورة تشويه هجومي للدول الإفريقية التي نعتها بـ “دول الحفرة المقرفة”، ورد فعل يتسم بالذعر على قصة مضللة لفوكس نيوز حول إمكانية إجراء عمليات مصادرة لمزارع البيض في جنوب أفريقيا.
الولايات المتحدة تخطط لتقليص مشاركتها في القيادة العسكرية المشتركة في غرب إفريقيا
لذلك، لا يعد تردد إدارة ترامب في تخصيص الموارد لأفريقيا أو الاهتمام بها أمرا غريبا. لقد أجرت الإدارة عددًا قليلاً جدًا من الزيارات رفيعة المستوى إلى القارة واستغرقت الكثير من الوقت لشغل مناصب السفراء في عدد من الدول الأفريقية. أما المناصب التي شُغلت فقد عرضت بعض الخيارات المشكوك فيها. على سبيل المثال، اختار ترامب لمنصب السفير في جنوب إفريقيا مصممًا لحقائب اليد الفاخرة، والذي لم يكن لديه خبرة دبلوماسية ولم يقيم في هذا البلد منذ أربعين عامًا (ولكن كانت لديه عضوية في نادي مارالاغو الحصري لترامب في فلوريدا). مكّن عدم الاهتمام بأفريقيا روسيا من التدخل في دول مثل ليبيا، حيث سمح موقف ترامب العلني بعدم لعب الولايات المتحدة لدور في تحقيق الاستقرار في هذه البلاد لموسكو بمساندة خصم الحكومة المدعومة من قبل الأمم المتحدة علناً.
جادل ديفيد أندلمان بشأن التقارير التي تفيد بأن الولايات المتحدة تخطط لتقليص مشاركتها في القيادة العسكرية المشتركة في غرب إفريقيا، وهي جبهة رئيسية في الحرب ضد تنظيم الدولة وشبكات الإرهاب الأخرى، حيث يمكن أن يعزى القرار بسحب الالتزامات العسكرية الأمريكية في غرب إفريقيا أيضًا بشكل أكثر تعمقًا إلى رؤية ترامب الكاملة للمعاملات المتعلقة بالسياسة الخارجية والعسكرية. وفي ظل التأثير الملموس الضئيل لأفريقيا على المصالح الأمريكية، حسب اعتقاد ترامب، ومع عدم وجود أي دولة أخرى قادرة على تسديد فاتورة عمليات نشر القوات الأمريكية في القارة، لا يوجد سبب كاف للبقاء.
من ناحية أخرى، غيرت روسيا مشاركتها في العلاقات الثنائية المتباينة إلى استراتيجية أوسع، حيث استضاف فلاديمير بوتين أول قمة روسية – إفريقية على الإطلاق في سوتشي في الخريف الماضي، واستقطب قادة ثلاثة وأربعين دولة إفريقية دفعوا أكثر من 12 مليار دولار في صفقات جديدة. على رأس هذه المبادرات الملموسة، نفذت روسيا حملة مكثفة ساحرة جديدة في أفريقيا، وذلك استنادا إلى تاريخ التعاون بين الدول الأفريقية وموسكو في فترة الحرب الباردة، ولإظهار روسيا الحالية كبديل جذاب للاستغلال من قبل الولايات المتحدة والصين أو القوى الاستعمارية السابقة لأوروبا الغربية.
لقد كان نهج إدارة ترامب تجاه أمريكا اللاتينية بمثابة نهج إقصاء وانسحاب، وهو ما خلق فرصا لموسكو. وقد أعطى ترامب الأولوية للحد من الهجرة من المكسيك وأمريكا الوسطى من خلال سياسات صارمة للهجرة واللجوء، حيث قلص من المساعدات المقدمة إلى دول المنطقة للضغط عليها لوقف تدفق طالبي اللجوء إلى الولايات المتحدة، وبالطبع من خلال بناء الجدار الحدودي الجنوبي.
كان نهج ترامب تجاه أمريكا الجنوبية غير اعتيادي وسريع، حيث أصبح الرئيس اليساري المخلوع نيكولاس مادورو في فنزويلا لفترة وجيزة دافعا شخصيًا لترامب. لكن بحلول صيف سنة 2019 وقع الإجماع على أن ترامب “فقد الاهتمام” بفنزويلا بمجرد أن أصبحت حقيقة أن حكومة مادورو لا تواجه خطر الانهيار الوشيك واضحة.
عانت العلاقات مع كولومبيا التي تمثل أقوى شريك لأمريكا الجنوبية من عدم اهتمام ترامب وافتقاده للبصيرة، حيث أنه اشتكى بشدة من أن الرئيس الكولومبي الجديد إيفان دوكي “لم يفعل شيئًا للولايات المتحدة” في مكافحة تصدير المخدرات من ذلك البلد، ويبدو أن الرئيس الأمريكي لم يكن على دراية بالتهديدات الأخيرة لاتفاق السلام بين الحكومة الكولومبية ومتمردي القوات المسلحة الثورية الكولومبية السابقين.
كما يقول زميل مجلس العلاقات الخارجية بول جوزيف أنجيلو، “يبدو أن العلاقات بين الولايات المتحدة وكولومبيا قد تحولت خلال فترة ترامب، من شراكة متعددة الأوجه إلى علاقة لا تُرى إلا من خلال عدسة الحرب على المخدرات”. وكما فعلت في مناطق أخرى، تدخلت روسيا لملء الفراغ الذي خلقته الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية، وذلك من خلال منح مساعدات عسكرية كبيرة والتعاون مع مادورو وإصدار تهديدات لكولومبيا لثنيها عن التدخل في أزمة فنزويلا.
بعد تدخلها في سباق الرئاسة الأمريكية سنة 2016، أصبحت روسيا أكثر وضوحًا في محاولاتها للتلاعب بالأصوات في جميع أنحاء العالم
لقد أصبح فلاديمير بوتين أكثر جرأة بما يكفي ليعلن انتهاء عصر الليبرالية الغربية كأيديولوجية سياسية مهيمنة في العالم. يريد بوتين منا أن نصدق أن كل من التراجع الجيوسياسي لموسكو ونهاية التاريخ الذي اقترحه فرانسيس فوكوياما كانت في الواقع ظواهر مؤقتة يجري تصحيحها بالفعل.
يعد عداء روسيا للديمقراطية الليبرالية أكثر من مجرد خطاب أو أيديولوجية، حيث يتمتع عملاء بوتين بتاريخ طويل من التدخل في الانتخابات حول العالم. بعد تدخلها في سباق الرئاسة الأمريكية سنة 2016، أصبحت روسيا أكثر وضوحًا في محاولاتها للتلاعب بالأصوات في جميع أنحاء العالم لصالح المرشحين المفضلين من موسكو أو لبث الفتنة داخل خصومها الغربيين المحتملين. وأثناء اتخاذ مثل هذه التحركات، لاقى بوتين رد فعل بسيط من ترامب الذي لم يكتف فقط بشن موجة من الشعبوية اليمينية في الغرب (وجرعة من التدخل الروسي في الانتخابات) لتولي الحكم، لكنه أظهر أيضًا ولعًا مفرطًا بالديكتاتوريين والرجال الأقوياء، بما في ذلك بوتين بالطبع.
لا يعني كل هذا أن بوتين سينجح في كل هذه المساعي. في أفريقيا، على سبيل المثال، أدت العديد من عمليات التدخل الروسي المضلل والمتشدد في السياسة المحلية إلى تشويه صورة روسيا في نظر الناس في عدد من البلدان مثل جنوب أفريقيا والسودان ومدغشقر. وبالمثل، بخلاف فنزويلا وحليفتها منذ زمن طويل، يظل تدخل روسيا في أمريكا اللاتينية بسيطا من حيث التعاون الاقتصادي أو العسكري. قد تتطلب محاولات بوتين لإدارة الاضطرابات الداخلية في روسيا وإعادة هيكلة النظام السياسي الروسي قدرا متزايدا من اهتمام الزعماء الروس وطاقتهم، وصرف الانتباه عن المساعي الدولية، ولكن روسيا تفتقر إلى القوة الاقتصادية الكلية لتتناسب مع وضع القوة العظمى للولايات المتحدة أو الصين الصاعدة.
لقد كان فلاديمير بوتين يتفاخر في الماضي بتحقيق أقصى استفادة من الدول الضعيفة، مؤكدًا النفوذ الروسي في جميع أنحاء العالم بما يتجاوز ما يمكن أن تتوقعه البلاد. بالنسبة لترامب، وجد بوتين نظيرًا أمريكيًا جعل تركيزه المحدود وسياساته التطلعية الداخلية الولايات المتحدة تتخلى عن نفوذها في أنحاء مختلفة من العالم. في عملية الانسحاب هذه، رحب ترامب أحيانًا بتدخل روسيا كبديل لمشاركة الولايات المتحدة من أجل الإسراع في عملية الانسحاب، لكنه لم يهتم في معظم الأوقات بعواقب الانسحاب الأمريكي.
مع اقتراب نهاية ولاية ترامب الأولى في منصبه، ثبت أن هدفه في التراجع عن الارتباطات الأمريكية صعب التطبيق. في الشرق الأوسط مثلا، التزم ترامب فعليًا بإرسال المزيد من القوات إلى المنطقة للدفاع عن المملكة العربية السعودية ومواجهة إيران بطريقة أخرى، واستخدم تهديدات للحفاظ على وجود القوات الأمريكية في العراق بعد مقتل جنرال قاسم سليماني على الأراضي العراقية، وانخرط من جديد مع حلف الناتو كجزء من استراتيجية الشرق الأوسط الأمريكية المتطورة.
عبر ترامب من خلال مقتل الجنرال سليماني عن رغبة جديدة في استخدام القوة العسكرية الأمريكية بدلاً من مجرد التهديد باستخدام القوة. قد يحد هذا التأكيد الجديد لإدارة ترامب من التوسع الروسي في الشرق الأوسط، ويشكل بشكل عام مخاوف لموسكو من أن تعارض الولايات المتحدة التوسع الروسي الأكثر عدوانية في المستقبل.
للتحقق من الطموح الروسي حقًا، سيتعين على إدارة ترامب أو الحكومة اللاحقة إعادة تركيز الاهتمام على اعتبار روسيا تهديدا يستحق استراتيجيات وإجراءات محددة. إذا استمرت رئاسة ترامب في عدم المبالاة بمساحات شاسعة من العالم، أو إذا شتتت تهديدات مثل الصين أو إيران أو كوريا الشمالية أو الحرب المستمرة ضد الإرهاب إدارة أميركية جديدة، وإذا فشلت هذه الإدارة في التصدي لموسكو عند الضرورة، فيمكن لروسيا أن تستمر في تحقيق انتصارات سهلة المنال في جميع أنحاء العالم. من دون تجدد اليقظة من جانب الولايات المتحدة، قد يقترب بوتين من جعل بلاده القوة العظمى التي لطالما حلم بها، لتقوض بذلك المصالح الأمريكية والقيم الديمقراطية في هذه العملية.
المصدر: ناشيونال انترست