بلدٌ إفريقيٌ ينمو بشكلٍ متسارعٍ، والأهم من ذلك أنه يشهد استقرارًا سياسيًا واجتماعيًا يندر أن تجد مثله في القارة السمراء جنوب الصحراء الكبرى، فمعدل النمو جيد في عدة دول في المنطقة لكن أغلبها يعاني من تفاقم الصراعات الداخلية كإثيوبيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا. على النقيض من هذه الدول تبدو الصورة مختلفة إلى حدٍ كبيرٍ في رواندا التي ارتبطت في أذهاننا بالمذابح والدمار في تسعينيات القرن الماضي، فمن ما لا يتذكر الحرب الأهلية بين عرقية الهوتو التي تمثل الأكثرية على المستوى الديموغرافي، وعرقية التوتسي التي تعتبر أقلية مقارنة بالأولى، حيث نفذت الهوتو إبادة جماعية في حق التوتسي.. تشير الإحصاءات إلى أنه في غضون 3 أشهر فقط، قُتل ما يناهز 800 ألف رواندي بسبب تناحر القبيلتين، بالإضافة إلى حالات الاغتصاب التي قدرت بعشرات الآلاف.
بعد نهاية سنة 1994 شهدت بلد “الألف تل” تحولات جذرية على مستوى النمو الاقتصادي والسياحي، لتتحول العاصمة كيغالي إلى “أنظف” بل و”أجمل” مدينة إفريقية، بالإضافة إلى استقطاب الجمهورية لعددٍ كبيرٍ من السياح والاستثمارات الأجنبية.
ثورة تطويرية قادها المناضل كاغامي
بدأت مسيرة التحديث والنهضة في رواندا منذ عهد الرئيس السابق باستور بيزيمونغو الذي وضع اللبنات الأولى للتغيير إلا أن نهضة البلاد وثورتها التطويرية ارتبطت بالرئيس الحاليّ بول كاغامي الذي قاد “الجبهة الوطنية الرواندية” إلى النصر على النظام المنسوب إلى مجموعة الهوتو، ومنذ ذلك التاريخ أضحت رواندا سوقًا ناشئة جاذبة للسياحة والاستثمار وريادة الأعمال تتنافس عليها دول العالم والإقليم.
خير دليل على الطفرات التي تشهدها رواندا والجاذبية الكبيرة التي تتمتع بها في مجال الاستثمار، إعلان الرئيس التنفيذي للخطوط الجوية القطرية أكبر الباكر في مؤتمرٍ صحفيٍ الأربعاء الماضي، أن الناقلة بصدد إجراء محادثات لشراء 49% من شركة رواند إير، وذلك بعد أن وقعت قطر عقدًا لتملك 60% من أسهم مطار بوجيسيرا الدولي الجديد بالعاصمة كيغالي في أثناء زيارة للأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، حيث سيستوعب المطار بعد اكتماله 10 ملايين مسافر، وأكد رئيس الخطوط الجوية القطرية ما ذكرناه سابقًا، أن اختيار رواندا لتلك الاستثمارات نابع من آفاق وفرص الاستثمار الواعدة فيها والاستقرار الأمني والسياسي الذي تتمتع به.
بطبيعة الحال لم تكن العقود التي وقعتها الدوحة مع رواندا وليدة اللحظة، بل جاءت بعد تنامٍ واضحٍ في العلاقات بين البلدين خلال العامين الماضيين، وهو ما ظهر في الزيارات المتبادلة بين القادة السياسيين على أعلى المستويات والعمل المشترك لتطوير التعاون وتعزيز الاستثمار والتجارة في عدد من المجالات وصلت إلى المستوى العسكري والدفاعي.
اتفاقات مهمة لقطر ورواندا
تكتسب اتفاقية استحواذ قطر على 60% من أسهم مطار بوجيسيرا الدولي في كيغالي، إضافة إلى المفاوضات الجارية لتملك القطرية نحو 49% من أسهم رواندا اير، أهمية سياسية واقتصادية كبرى للدوحة، فقطر تتعرض إلى حصار سياسي ودبلوماسي منذ العام 2017، حيث أثر منع شركتها الوطنية من التحليق في أجواء عدد من الدول على حصتها في سوق النقل الجوي خاصة في السوق الإفريقية، فقد أجلت القطرية خطط التوسع في القارة السمراء، بل أوقفت رحلاتها إلى عدد من المحطات مثل أسمرة والخرطوم لعدم الجدوى الاقتصادية إذ تقوم طائراتها بالالتفاف الطويل على الحظر السعودي والإماراتي عن طريق أجواء إيران وسلطنة عمان.
فإذا امتلكت القطرية 49% من أسهم الشركة الرواندية فإن ذلك قد يؤهلها للتغلب على الأزمة والمرور فوق أجواء دول الحصار، لتسيير الرحلات المباشرة بسهولة إلى القارة السمراء عن طريق شريكتها “رواند إير”.
كما أن صفقتي المطار وشركة الطيران تجلبان فوائدة كبيرة للحكومة الرواندية، حيت تعد كيغالي من أهم العواصم المستقبلية في إفريقيا، وتسعى روندا من خلال المطار الجديد لتسجيل الحضور دوليًا في مختلف المجالات منها السياحة والفعاليات، حيث حجزت لنفسها المرتبة الثانية في معدل استقطاب المؤتمرات والفعاليات بعد جنوب إفريقيا متفوقةً على دولٍ إفريقية رائدة في المجال مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا.
مشروع مطار بوجيسيرا الجديد في كيغالي
وفيما يتعلق بالسياحة، سجلت رواندا إيرادات بلغت 438 مليون دولار أمريكي في العام 2017، ويؤشر معدل نمو السياحة لصعوده بمقدار 5% كل عام، خلال الأعوام الـ10 الماضية، لذا تطمح رواندا أن تقفز عائدات السياحة لتصل إلى 800 مليون دولار خلال العام 2024، وقد دخلت رواندا في تكتل ثلاثي مع كينيا وأوغندا أطلقت بموجبه الدول الثلاثة تأشيرة سياحية موحدة تحت اسم “تأشيرة شرق إفريقيا” التي تتيح لحاملها التجوال بين الدول الثلاثة مقابل 100 دولار أمريكي صالحة لمدة 90 يومًا على أن يتم معالجة الطلب إلكترونيًا عن طريق الموقع المخصص للخدمة، أو بزيارة أي موقع إلكتروني من مواقع الهجرة والجوازات للدول الثلاثة.
ولبيان أهمية السياحة للمجتمع المحلي في رواندا، أكدت مسؤولة حكومية أن ما نسبته 10% من عائدات السياحة تدعم بشكل مباشر مشروعات في المجتمع المحلي، حيث أسهمت السياحة في بناء المدارس وتحسين التعليم وتعبيد الطرق وافتتاح المشافي والمراكز الصحية.
بالعودة إلى اتفاقية تملك الخطوط القطرية لـ49% من أسهم رواندا إير فإن الأخيرة ستكون موعودة بفرصة ذهبية لتوسيع شبكتها بعد دخول القطرية شريكًا وممولًا، فيمكن للشركة الرواندية أن تتوسع وتنافس شركات الطيران الرائدة في القارة السمراء مثل الخطوط الإثيوبية ومصر للطيران وخطوط جنوب إفريقيا.
ففي الوقت الحالي، تعاني الرواندية من نقص الأسطول وقلة الوجهات التي تطير إليها، إذ تمتلك أسطولًا صغيرًا من 12 طائرة فقط، من ضمنها طائرتان من طراز “إيرباص A330″، وست طائرات من طراز “بوينغ 737″، وتسيّر “رواندا للطيران” رحلات إلى 27 وجهة بإفريقيا وآسيا وأوروبا والشرق الأوسط.
بينما تمتلك القطرية أسطولًا ضخمًا من 250 طائرة حديثة، وتسير رحلات إلى أكثر من 160 وجهة عالمية، وتعتزم إطلاق 11 وجهة جديدةً العام الجاري”. كما أنها حائزة على جائزة أفضل شركة طيران في العالم، خلال حفل توزيع جوائز “سكاي تراكس” العالمية 2019.
وحصدت الناقلة الوطنية لدولة قطر جائزة أفضل شركة طيران بالشرق الأوسط، وجائزة أفضل درجة رجال أعمال في العالم، وجائزة أفضل مقعد على درجة رجال الأعمال عن مقاعد “كيو سويت”.
تعزيز مكانة الرئيس كاغامي
إذن، تُحقق الاتفاقيات الأخيرة بين قطر ورواندا فوائد كبيرة للبلدين، اقتصاديًا كما أوضحنا بالأعلى، وسياسيًا تمثل الصفقتين والزيارات المتبادلة بين أمير قطر والرئيس الرواندي نجاحًا سياسيًا متصاعدًا للدوحة التي تعاني من تبعات الأزمة الخليجية ومحاولة الدول الأربعة عزلها عن المجتمع الدولي والإقليمي.
وبالنسبة لرواندا تعزز الاتفاقيات من مكانة الرئيس كاغامي وصورته داخل البلاد، فالعلاقة القوية التي باتت تجمع بين قطر وبلده، من شأنها التأثير حتى على حركة المواطنين بين العاصمتين الدوحة وكيغالي، وذلك عن طريق اتفاقية تسمح للمواطنين الروانديين الوصول إلى قطر مع إعفائهم من التأشيرة لمدة 30 يومًا عند بلوغهم مطار حمد الدولي، بشرط أن يكون جواز المسافر ساري المفعول لمدة ست أشهر على الأقل، مع ضرورة امتلاك المسافر لتذكرة عودة مؤكدة إلى رواندا في فترة تقل عن شهر، مع حجز فندقي للأيام التي سيقضيها هناك.
الإعلام الإماراتي يهاجم
الدبلوماسية القطرية نجحت في الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة مع معظم دول العالم متغلبةً على حملاتٍ إعلامية شرسة، فالاتفاقيات التي وقعتها قطر مع رواندا أثارت حنق الإعلام الممول إماراتيًا، فلم يرَ فيها إلا استغلالًا من قطر لهشاشة النظام السياسي في رواندا، من أجل دعم التنظيمات المتطرفة. حسبما أورد موقع ميدل إيست أونلاين. رغم أن رواندا معروفة باستقرارها وسلامها المجتمعي، وأبعد ما تكون عن التطرف والهشاشة.
كما حاول موقع إرم نيوز الممول إماراتيًا هو الآخر، الإيحاء بأن الصفقة المزدوجة جاءت مكافأة للحكومة الرواندية بعد أن استضافت العاصمة كيغالي النسخة الرابعة من “جائزة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني الدولية للتميز في مكافحة الفساد”، ويتجاهل الموقع المفاوضات المارثونية الطويلة التي أجرتها الحكومتان القطرية والرواندية طيلة العامين الماضيين حتى تُوجت بتوقيع الاتفاقيات.
العلاقات بين الدول ينبغي أن تكون مبنيةً على مبدأ التكافؤ والمصالح المشتركة القائمة على نظرية رابح.. رابح Win-win، وهذا ما تتبعه قطر ويؤمن به الرئيس بول كاغامي الذي يعمل من أجل شعبه ولا يرى مانعًا في توقيع اتفاقيات وإقامة شراكة اقتصادية وعسكرية مع قطر، فالأخيرة لا تطلب من الدول التي تقيم علاقات معها أن تقلص أو تقطع علاقاتها مع طرف ثالث، عكس المعسكر الإماراتي السعودي الذي بذل جهودًا كبيرة لحشد أكبر عدد ممكن من الدول لأجل الانضمام إليهم في مشروع عزل قطر.