لم يكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، يشك لحظة في نجاته من مصيدة الديمقراطيين التي استهدفت عزله، قبل تدخل أغلبية الجمهوريين وحمايته بفرمان من مجلس الشيوخ قبل أيام، ولهذا يمضى بمنتهى القوة في الحشد لإعادة انتخابه، بنفس المعايير التي كاد أن يدفع منصبه ثمنًا لها، فكما سعى لاستغلال مساعدات بلاده لأوكرانيا والضغط على كييف لتشويه سمعة خصمه السياسي جو بايدن نائب سلفه باراك أوباما، يتبع نفس الأسلوب دون مواربة، بعدما أصبح يساوم الكتلة اليهودية الأمريكية علانية، فإما السير خلفه هو وحزبه في جميع الاستحقاقات النيابية والسياسية بأمريكا أو تحريض “إسرائيل” عليهم، واتهامهم بالعداء للسامية!
ما الذي كشف خطة ترامب؟
قبل أسابيع، خرج ترامب وسط حشود يهودية ليلقي كلمته أمام المؤتمر الوطني للمجلس الأمريكي الإسرائيلي في فلوريدا، كان ترامب يهوديًا في خطابه أكثر من اليهود أنفسهم، واتهم الذين صوتوا للحزب الديمقراطي بالعداء للسامية، فالرجل الذي يقدم دعمًا غير مسبوق ولا مشروط لـ”إسرائيل” لا يعمل وحده، وبالتأكيد هناك من يقف خلفه وهو الحزب الجمهوري.
هذه العلاقة الجديدة التي يبني عليها ترامب لحصد الأصوات اليهودية الأمريكية في كل معاركه ومعارك حزبه لاحقًا دون عناء، خاصة بعدما أصبح ملقبًا بـ”ملك إسرائيل”، يحشد لها نفسيًا، بالضغط على اليهود وجماعات الضغط الموالية لهم، للوقوف جانب الجمهوريين للأبد، لدرجة أنه يزايد عليهم ويعتبرهم لا يحبون “إسرائيل” بما فيه الكفاية، بسبب عدم إعلان ولائهم الكامل له ولحزبه، واختيار أغلبهم حتى الآن الوقوف في صف ولاءاته السياسية وقناعاته الأيدلوجية بالاصطفاف خلف الحزب الديمقراطي.
يستخدم ترامب قدراته في الترهيب، لإظهار العين الحمراء لليهود الأمريكيين، لإجبارهم على مقاطعة الحزب الديمقراطي، ولهذا يتعمد تكثيف وصف “خيانة إسرائيل” في أحاديثه إليهم، للإشارة إلى لا مبالاة أصحاب القضية بما يفعله من أجلهم، والدليل استمرارهم في توطيد علاقتهم بالديمقراطيين، وهو سبب كاف برأيه لمعرفة من هم أعداء السامية الحقيقيون الذين يرفضون اللعب على ورقة واحدة مع الحزب الجمهوري رغم كل ما يقدمه لهم، وينال بسببه اللعنات من داخل أمريكا وخارجها.
الديمقراطية العرقية.. وثيقة الارتباط بين اليهود والجمهوريين
لا يجيد ترامب اللعبة الديمقراطية ويترجم ذلك في انحيازاته وقراراته السياسية، ولهذا يجتهد في تحالفاته الانتخابية إلى عمل مواءمات من نوع خاص، والعلاقة مع اليهود تكشف ذلك، فالرجل يسعى لإثبات محبة حزبه لـ”إسرائيل” في كل مكان بالعالم، التي يعتبرونها النموذج الواقعي والمؤهل دائمًا في المنطقة، لما يريدون أن تكون عليه أمريكا ـ ديمقراطية عرقية ـ وبالتالي مشروع ترامب والجمهوريين لجعل أمريكا دولة يهودية مسيحية بيضاء، يتطلب الدفاع عن نموذجها المصغر “إسرائيل” بكل الطرق والحيل الممكنة في عالم السياسة، لإثبات تفوقها المزعوم على أي دولة بالمنطقة.
يعتبرالمسيحيون الإنجيليون الأمريكيون، سيطرة اليهود على الأرض المقدسة ضرورية لتحقيق المجيء الثاني للمسيح
يرفض ترامب أي محاولة نقد من الكيانات السياسية والحقوقية الأمريكية والدولية، بل ومن الطائفة اليهودية نفسها، التي تتهم “إسرائيل” بالخروج عن حدود المنهج الديمقراطي، وخاصة أنها عمليًا وهيكليًا تفضل مجموعة عرقية ودينية على باقي مكونات المجتمع الإسرائيلي، ولكنها ليست معضلة لا لترامب ولا للأغلبية الكاسحة من الجمهوريين الذين لديهم نفس القناعات ويريدون تطبيقها في بلادهم.
ارتباط المشروع والأهداف بين أفكار الجمهوريين والتيارات السياسية الحاكمة في “إسرائيل”، لا يجعل الرئيس الأمريكي الذي يخضع تصوراته السياسية لمعايير رجل المال، يقدم شيئًا بلا تكلفة، فمقابل الولاء المطلق لـ”إسرائيل”، عليهم الضغط على يهود بلاده، لإقامة تحالف مقدس مع حزبه، لا سيما أنهم لن يحصلوا على أي مكاسب سياسية من أي فصيل آخر، فالجمهوريون هم الأكثر وضوحًا وخاصة في عهد ترامب، في عدم تأييد المساواة الكاملة بالحقوق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، سواء لأسباب سياسية بداعي الخوف على أمن “إسرائيل” أم لخلفيات لاهوتيه، فالمسيحيون الإنجيليون الأمريكيون يعتبرون سيطرة اليهود على الأرض المقدسة ضرورية لتحقيق المجيء الثاني للمسيح.
هل ينقلب السحر على الساحر؟
رغم الحصار الشرس لترامب على يهود أمريكا، ونجاحه بالفعل على مدار السنوات الماضية في استمالة بعضهم تحت وطأة حمى الاستقطاب، فإن المعركة لن تكون سهلة على الإطلاق، خاصة إذا علمنا أن الأغلبية اليهودية في أمريكا لديها توجهات ليبرالية والتزام صارم بالمعايير الديمقراطية وفق هذا النمط، وهي حقيقة راسخة في الحياة السياسية الأمريكية.
ويبدو أن أغلب اليهود على علم بخليفات الدور الترامبي في محاولة اللعب بالهندسة الاجتماعية لأمريكا، لإجبارهم على تغيير وجهات نظرهم ومعتقداتهم السياسية، بزعم حماية أمن “إسرائيل”، وهي حجة لم تكن كافية طوال تاريخهم في تغيير انحيازهم للحزب الديمقراطي، رغم التزامهم بأمن “إسرائيل” دون أن يكون ذلك سببًا للتدخل في خصوصيتهم الأمريكية، وهي نتائج أثبتتها دراسات أجريت نهاية 2017، العام الذي انتخب ترامب في شهره الأول، وأكدت أن 68% من اليهود، يصفون أنفسهم أنهم، سواء ديمقراطيين أم مستقلين، يميلون للحزب الديمقراطي، بينما يؤيد منهم نحو 28% فقط الحزب الجمهوري.
هذه الاعتبارات جعلت الأغلبية الكاسحة اليهودية تصوت لصالح هيلاري كلينتون ضد دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية التي أجريت عام 2016 وفق استطلاعات الخروج من انتخابات، التي أكدت أن نسبة 3% من الناخبين الذين حددوا ديانتهم باليهودية، صوت منهم نحو 71% لكلينتون و23% لترامب، وهي نتيجة لا تختلف كثيرًا عن توجهات اليهود في كل الاستحقاقات الانتخابية التي فضلوا فيها المرشحين الديمقراطيين على نظرائهم من الحزب الجمهوري.
وتشير أغلب التحليلات، أن طريقة حديث ترامب مع اليهود وكأنهم لا يعرفون مصالحهم جيدًا وتوجيههم بهذا الشكل السافر لدرجة أنه أصبح يعتبر كل تصويت يهودي لصالح الديموقراطيين، إما نقصًا تامًا في المعرفة أو عدم الولاء للقضية الإسرائيلية، تثير حفيظة الكثير من الأمريكيين وليس اليهود وحدهم، وخاصة أنه يربط بين اختياره واختيار حزبه ومصالح دولة أخرى، ما يجرح الكرامة الوطنية ويمس السيادة الوطنية.
يغيب عن ذهن ترامب، وهو يتهم اليهود بانعدام المعرفة، أن الطائفة اليهودية لديها حتى الآن أعلى مستوى تعليمي مقارنة بأي مجموعة دينية أخرى، وتشير الأرقام إلى أن 67% من البالغين اليهود من خريجي الجامعات بمختلف تخصصاتها، و37% منهم حصلوا على شهادات في الدراسات العليا، وهي نسبة أعلى بكثير من أي مجموعة دينية أخرى، وهذه الخلفية المعرفية تجعلهم يدركون جيدًا حقيقة تصرفات ترامب الداعمة لـ”إسرائيل”، ولهذا لم تغير كثيرًا في ولائهم السياسي للمنطق الليبرالي.
وتبقى الخلافات اليهودية اليهودية واحدة من المنغصات التي ربما لا يدركها ترامب، التي اتسعت بشدة منذ توليه رئاسة البلاد، حيث أصبحت القضايا المختلف عليها بينهم في المجالات الدينية والقيمية والسياسية والصراع مع الفلسطينيين أكثر وضوحًا، وخاصة أن الأغلبية في البلاد غير أرثوذكسية وتشكل نحو 90% من يهود الولايات المتحدة.
كلما تحدث ترامب وجعل اليهود الأمريكيين جزءًا من صفقة مع “إسرائيل”، زادت الفرقة والغضب بينهما، وتصاعد الإحساس بالإهانة من تدخل الحكومة الإسرائيلية في السياسة الداخلية الأمريكية وتفضيلها طرفًا على آخر وانبطاحها أمام ترامب الذي ضغط عليها لغلق قنوات الحوار مع الحزب الديمقراطي ومندوبيه، مقابل المزيد من الصفقات مع الحزب الجمهوري، فاستسلمت تمامًا، لدرجة أنها ربما لأول مرة تكاسلت عن القيام بنشاطها المعهود في تعزيز تأييدها باستمرار وسط الجماهير الشابة التقدمية ومجتمعات المهاجرين اللاتينيين والإفريقيين الأمريكيين، ما يؤكد أن النشاط الترامبي في ابتزاز اليهود لأمريكي، قد يؤدي إلى نتائج معاكسة تمامًا خلال الفترات القادمة!