منذ 2011 لم تدخر الإمارات جهدًا في بسط نفوذها داخل أي بلد عربي سعى شعبه لتنسم حريته من خلال الانتفاضة ضد النظام الديكتاتوري الذي يحكمه، وكأن أبناء زايد أخذوا على عاتقهم الدفاع عن تلك الأنظمة كافة التي يروا فيها مؤشر بقائهم في الحكم دون قلاقل تهدد مستقبلهم.
قادت أبو ظبي جيش الثورات المضادة في المنطقة لإجهاض أي حراك ثوري وعرقلة قطار الربيع العربي مهما كان الثمن، فنجاح أي تجربة يعني -فيما يبدو- الانتقاص من مدة بقاء أبناء زايد على عرش الحكم، وهو ما جعلهم يبذلون الغالي والنفيس للحيلولة دون وصول هذا القطار إلى أي محطة إلا وهو محطم الأجزاء غير قادر على الحركة.
يعمل هذا المحور الذي تقوده السعودية بجانب الإمارات، المدعوم من بعض القوى الغربية، على فرض توجّه سياسي واحد، يساعد بطريقة هادئة – وربما تكون عنيفة إذا تطلب الأمر – الأنظمة الموالية له – التي في الغالب تكون عسكرية أو امتدادًا لها – بإعادة رسملة نفسها عن طريق تغييرات ظاهرية، تكون مع مرور الوقت العقبة الرئيسية أمام أي تحوّل ديمقراطي لدول المنطقة.
ورغم لجوء هذا المحور في أغلب الأحيان إلى اختيار حليف له من داخل تلك النظم الحاكمة، في الغالب من داخل المنظومة العسكرية أو المدعومين منها، كالسيسي في مصر وحفتر في ليبيا والبرهان وحميدتي في السودان، فإن تلك الإستراتيجية ليست الوحيدة لفرض الأجندات الخارجية على الداخل، فهناك أدوات أخرى تعبد الطريق أمام هذا الفريق للتوغل في مفاصل الدولة.
تعد الجزائر لا سيما في الآونة الأخيرة أحد أبرز الأهداف على أجندة أبناء زايد في شمال إفريقيا على وجه الخصوص، تعزز هذا الشعور مع انطلاق الحراك الشعبي الذي سعت أبو ظبي إلى اختراقه بشكل أو بآخر، وهو ما فطن إليه الجزائريون الذين رفعوا لافتات تندد بالتدخل الإماراتي، مطالبين بإبعادها عن شؤونهم الداخلية، محذرين من مخططها لتركيع قرار بلادهم السياسي.
الاقتصاد كلمة السر
كالعادة.. كان الاقتصاد أيسر الأبواب التي دخلت من خلالها الإمارات إلى الجزائريين، مستندة في ذلك إلى أدوات دبلوماسية متعددة سيطرت من خلالها على المنشآت الإستراتيجية التي تعد العصب الأقوى للاقتصاد الجزائري، كالموانئ والمصانع والتحكم فيها من خلال عقود تمت خلال حكم بوتفليقة.
الموقع الإستراتيجي للجزائر كونها محورًا مهمًا في البحر الأبيض المتوسط، باعتبارها معبرًا إلى أوروبا شمالًا، وإلى الساحل الإفريقي جنوبًا المتصل بالمحيط الأطلسي، كان أحد الأسباب التي أسالت لعاب السلطات الإماراتية فتحركت بخطوات تسابق الزمن لبسط نفوذها داخل البلاد.
وكان من مظاهر هذا النفوذ أن أحكمت سيطرتها على الشركة العمومية للتبغ والكبريت، وتقاسمت أسهمها مع الحكومة الجزائرية، هذا بخلاف احتكارها ميناء “جنجن” من خلال شركة “موانئ دبي العالمية”، إذ تحصل على 70% من موارد الميناء، وهو ما دفع الجزائريين بعد انتهاء حكم بوتفليقة إلى استرجاعها.
أثرياء الجزائر أودعوا ثروات بمئات الملايين من الدولارات في بنوك الإمارات، من بينهم علي حداد، أغنى رجل في الجزائر، الذي يوصف بأنه “حصالة عائلة بوتفليقة”.
يذكر أن هذا الميناء أحد أكبر موانئ الجزائر ويقع بالطاهير في ولاية جيجل، قرب مطار فرحات عباس، وطاقته الاستيعابية 4.5 مليون طن سنويًا، ويستجيب لكل التقنيات الحديثة في مجال النقل البحري، كما يحتوي على أرضية يصل عمقها إلى 18.2 متر، وهو موصول بأهم محاور الاتصالات، لا سيما المنفذ شمال جنوبي جيجل – سطيف، وخط السكك الحديدية، وهو ما يجعله المحور المفضل للنقل الأورو/إفريقي.
الصحفي الفرنسي نيكولا بو، في مقال له بصحيفة “لومند أفريكا” أشار إلى مظاهر تغلغل الإمارات في مفاصل الدولة الجزائرية ومنها أن أثرياء الجزائر أودعوا ثروات بمئات الملايين من الدولارات في بنوك الإمارات، من بينهم علي حداد، أغنى رجل في الجزائر، الذي يوصف بأنه “حصالة عائلة بوتفليقة”، ويعرف بتردده كثيرًا على الإمارات.
الأمر ذاته – بحسب الصحفي الفرنسي – ينطبق على الإخوة كونيناف، شركاء سعيد بوتفليقة، والمخلصين لعائلة نائب وزير الدفاع أحمد قايد صالح والمقربين منه أيضًا، إذ أوجدوا لأنفسهم جذورًا في هذه “الجنّة الضريبية الإماراتية”، مختتمًا مقاله بأن “ما نُسج من روابط مالية مشبوهة في كل من دبي وأبو ظبي يفسر الحلف الصلب الذي نشأ بين عائلة بوتفليقة وأحمد قايد صالح في مواجهة التحركات الشعبية منذ اندلاعها، في فبراير الماضي”.
ميناء جنجن الجزائري الذي تسيطر عليه الإمارات
ليس الاقتصاد وحده
لم يتوقف النفوذ الذي حققته أبو ظبي في عهد الرئيس المتنحّي، على الاستثمارات المالية فحسب، فربما يعتبر البعض أن هذا الأمر عادي بحكم أن الجزائر سوق مفتوحة للاستثمارات العالمية، يمنح العديد من المشروعات للشركات الأجنبية، حتى إن كانت بصورة أكبر من المعتاد، لكن في الوقت نفسه أخذ هذا التغلغل أبعاد أخرى هي ما أثارت القلق والشكوك.
نجحت الإمارات في بسط نفوذها داخل المؤسسة العسكرية الجزائرية وذلك من خلال حصولها على صفقات تزويد الجيش الوطني الشعبي بأسلحة متطوّرة، وهو ما أشار إليه الصحفي الجزائري، بوبكر بلقاسم الذي يرى أن الإمارات رغم أنها لا تمتلك تقاليد عريقة في ميدان صنع السلاح وتسويقه، باتت على قائمة مزودي الجزائر بالسلاح، بل أكثر من ذلك تشتري الجزائر من الإماراتيين أسلحة تمّ صُنعها في دول أخرى، عوض التوجّه مباشرة للبلد المصنّع وعقد صفقات معه.
لم تكتف الإمارات بالهيمنة على الموانئ والمصانع في هذا البلد الإفريقي، بل تكشفت مؤخرًا أطماع أخرى تحمل صبغة سياسية في الأساس
وعدد الصحفي الجزائري في مقال له أوجه هذا التغلغل، ففي عام 2012، وقعت الجزائر عقد شراء سفينتين حربيتين من نوع “ميكو” من المصنع الألماني “تي.كا.إم .إس”، بقيمة 2.2 مليار يورو، لكن الشراء لم يكن صفقة مباشرة بين الجزائر والمجمّع الألماني، بل كانت بواسطة شركة إمارتية هي “أبو ظبي مار” التي باعت السفينتين واستقبلت أموال الصفقة في حساباتها دون أن يكون لها أي دور في صنع السفينتين ماديًا أو تقنيًا.
وعن تفاصيل تلك الصفقة أشار إلى أنها تعود إلى زيارة المستشارة الأمريكية أنجيلا ميركل إلى الجزائر في يناير 2008، حيث تفاوضت شخصيًا مع بوتفليقة بخصوص بيع السفينتين للجزائر، في غضون ذلك تفاوضت الإمارات على الدخول بنسبة في رأس مال الشركة الألمانية، والتحكّم في صفقات السلاح التي تعقدها الشركة الأم مع الدول العربية، لتصبح أبو ظبي لاعبًا أساسيًا في عملية التسلح في المنطقة، والمتحكمة في سوق السلاح الذي سيؤدي حتمًا إلى التوغل في عمق الأنظمة التي تبيع وتشتري.
ولم تكتف الإمارات بالهيمنة على الموانئ والمصانع في هذا البلد الإفريقي، بل تكشفت مؤخرًا أطماع أخرى تحمل صبغة سياسية في الأساس، وذلك من خلال البدء بإقامة قاعدة عسكرية لها في منطقة إستراتيجية قريبة من الحدود بين موريتانيا ومالي من جهة، وموريتانيا والجزائر من جهة أخرى.
وجاء مشروع إنشاء القاعدة العسكرية الإماراتية، في وقت يعاني فيه حليف أبو ظبي بليبيا، اللواء المتقاعد خليفة حفتر، عثرات سياسية وعسكرية، وقد سبق الحديث عن إنشاء هذه القاعدة العسكرية الإماراتية تحذيراتٌ من المنصف المرزوقي، الرئيس التونسي الأسبق، من وجود ثورة مضادة تقودها الإمارات والسعودية ومصر، تستهدف كلًا من الجزائر وتونس والمغرب.
مساعي إماراتية لإجهاض الحراك الشعبي الجزائري
مآرب أخرى
تمدد النفوذ الإماراتي في الجزائر وإن كان في ظاهره تعزيز التعاون مع دولة عربية شقيقة لكن في مضمونه يحمل أهدافًا أخرى على رأسها محاولة التأثير في صناعة القرار الجزائري واستمالته بما يتوافق مع أجندة أبناء زايد في الجزائر خاصة وشمال إفريقيا بوجه عام.
الباحث السياسي الجزائري، علي لخضيري، يرى أن محاولات الإمارات التأثير في منطقة شمال إفريقيا، خاصةً الجزائر، ليست جديدةً خاصة بعد الربيع العربي، والردة على الثورات من خلال الانقلاب عليها إلى جانب السعودية والبحرين، لافتًا إلى أن: “هناك محاولات إماراتية للتأثير في الجزائر وصنّاع القرار بها خاصة خلال الحراك الشعبي، وعلاقاتها مع قيادات الجيش الجزائري وبوتفليقة”.
يبدو أن تأثير أبو ظبي في القرار الجزائري من خلال الاقتصاد لم ينجح، فاستخدمت أساليب أخرى كدعم قضايا حساسة ضد الجزائر
ويؤكد لخضيري أنه على الرغم من العلاقة الوطيدة بين بوتفليقة والسلطات الإماراتية، حيث عمل في السابق مستشارًا للشيخ زايد في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، فإنه بعد الحراك الشعبي وما أفرزه من سلطة جديدة، تعثر الوجود الإماراتي رغم محاولات أبو ظبي تثبيت وجودها في هذا البلد المهم من الناحية الإستراتيجية وامتداد الجغرافيا السياسية.
ويبدو أن تأثير أبو ظبي في القرار الجزائري من خلال الاقتصاد لم ينجح، فاستخدمت أساليب أخرى كدعم قضايا حساسة ضد الجزائر، منها المغرب في مسألة الصراع المتعلق بالصحراء الغربية، على حد قول الباحث الجزائري، موضحًا أن الإمارات عملت كذلك على دعم قادة موريتانيا، إضافة إلى ما تقدمه للواء المتقاعد خليفة حفتر في ليبيا والمساهمة في استمرار الصراع بها الذي تؤيد فيه الجزائر حكومة الوفاق المعترف بها دوليًا.
من جانب آخر فإن الحرك الشعبي الجزائري الآن يمثل قلقًا كبيرا لأبناء زايد ويهدد مصالحهم في المنطقة، وعليه سعت أبو ظبي لإجهاضه مستخدمة في ذلك نفوذها المالي والسياسي، وفق ما كشفه الدبلوماسي الجزائري وأحد مؤسسي حركة “رشاد”، محمد العربي زيتوت.
زيتوت أكد أن الإمارات والسعودية تقفان ضد تطلعات الشعب الجزائري وتريدان هدم ثورته ونشر الفوضى في البلاد، كما فعلتا بليبيا ومصر وسوريا، منوهًا أنه قد “عُرف عن الإمارات منذ تنحي بوتفليقة، أنها تسعى إلى فرض هيمنتها على هذا البلد من خلال السيطرة على حكامه، والتفرد بقراراتهم، وفق تأكيدات الحراك.
ولفت الدبلوماسي الجزائري إلى أن الإمارات تقيم الآن قاعدة عسكرية في النيجر قرب الحدود الجزائرية، كما أنها موجودة في مالي، حيث موَّلت الحرب الفرنسية هناك إلى جانب حليفتها السعودية باسم الحرب على الإرهاب، كاشفًا عن تعدد مظاهر الوجود الإماراتي في البلاد الذي يستهدف تركيع قرارها السياسي لخدمة أجندة محمد بن زايد.
الرأي ذاته أكدته صحيفة “لومند أفريكا” الفرنسية التي أشارت إلى أن الهدف الوحيد الذي تسعى الإمارات إلى تحقيقه في الجزائر هو إيقاف الحراك الشعبي، والعمل على إرساء نظام “ذي عضلات”، تمامًا كما فعلت في مصر، مستعرضة العلاقات المتينة بين بوتفليقة وأسرة ولي عهد أبو ظبي، التي تعود بداياتها إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما استقبله الإماراتيون وساعدوه على تخطي المصاعب المالية التي مر بها في تلك الفترة.
الصحيفة الفرنسية رأت أن الرئيس المتنحي لم ينس ذلك (مساعدة الإمارات له)، وما كاد يصل إلى الحكم سنة 1999 حتى ترجم عرفانه بالجميل لحكام الإمارات إلى أفعال”، لكنه حافظ على استقلالية واضحة مع كل دول الخليج رغم قربه من أبو ظبي، بحسب كاتب المقال.
وفي المجمل فإن المساعي الإماراتية لبسط نفوذها داخل الجزائر وإن كانت في عهد بوتفليقة حققت نجاحات عدة، فإن الوضع الآن ربما يكون مختلفًا في ظل تغير المعطيات وأدوات التنفيذ، وهو ما يتجسد في وعي الشارع الذي بات يطالب وبشكل واضح ومباشر وقف هذا التدخل، لكن يبقى التحدي مرهونًا بقدرة الحراك على إجبار النظام الحاكم الجديد على إعادة هيكلة خريطة تحالفاته بما يضمن استقلال قراره ويجهض أي محاولات للهيمنة الأجنبية.