شهد اللقاء التلفزيوني الذي أجراه الرئيس الإرتري أسياس أفورقي نقدًا للمجلس السعودي لدول البحر الأحمر وخليج عدن واصفًا إياه بمجلس علاقات عامة.
وأدلى أفورقي بهذا التصريح في مقابلة مع الفضائية الإرترية مساء 6-2-2020، مضيفًا أن التجمع الحالي أشبه بالمنتدى التشاوري، و”لسنا على استعداد للمشاركة في كيان للعلاقات العامة”، وأن أسمرة تقدمت برؤية تفصيلية لم يتم النظر إليها حتى الآن.
وبالنظر إلى تطورات العلاقة بين الطرفين في السنوات الأخيرة، والدعم السعودي للنظام الإرتري اقتصاديًا والدفع باتجاه إعادته إلى المنظومة الدولية ورفع العقوبات عنه مقابل انحيازه لتحالف المملكة في حرب اليمن ثم في حصار قطر، فقد أثارت هذه السخرية الإرترية من الحليف السعودي التكهنات حول الدوافع الكامنة خلفها.
منتدى البحر الأحمر وإرتريا..تاريخ من عدم الترحاب
من نافلة القول إن السنوات الأخيرة شهدت تعاظمًا كبيرًا في الأهمية الجيوستراتيجية للبحر الأحمر والقرن الإفريقي، وإن ذلك تجلى في صراع إقليمي ودولي محموم لتعزيز النفوذ فيهما، ومبادرات لمعالجة التحديات الأمنية المتعلقة بهما كالقرصنة والهجرة غير الشرعية وغيرهما.
وكانت المبادرة الأوروبية الألمانية للتفاكر حول آلية للتعاون وإدارة المصالح في البحر الأحمر مبكرة جدًا إذ دعت، في سبتمبر/أيلول 2017، الدول المعنية بهذا الملف إلى جلسة على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان ملاحظًا غياب مجموعة من الدول منها إرتريا.
وفي مسعى إفريقي للتوصل إلى استراتيجية مستقبلية، بالتوافق مع دول شبه الجزيرة العربية، للقرن الإفريقي، زارت لجنة إفريقية برئاسة ثامبو أمبيكي، رئيس جنوب إفريقيا الأسبق، عددًا من العواصم المعنية بهذه المبادرة، ، منتصف 2019، في حين تم استثناء أسمرة ما فُسر بأنه رفض إرتري للتعاطي مع اللجنة.
تزامن ذلك مع مبادرة أخرى للإيغاد (الهيئة الحكومية للتنمية) تمخضت عن تعيين الكيني محمد غويو مبعوثًا خاصًا زار الكثير من الدول المعنية برفقة أمبيكي، ولم تكن إرتريا مشاركة كذلك نتيجة تجميدها عضويتها في الإيغاد.
كان للمصريين تحفظات على المبادرة الإفريقية ورفض لمبادرة الإيغاد تخوفًا من النفوذ الإثيوبي في المنظمتين ولا سيما في الثانية، وسعى الجانب المصري مبكرًا لإطلاق مبادرة خاصة به تتعلق بالبحر الأحمر وتحاول من خلالها تأمين مصالحها في المنطقة والحصول على ورقة مساومة مع أديس أبابا على خلفية التوتر بينهما حول سد النهضة ومياه النيل.
وفي 11-12 ديسمبر/كانون الأول 2017 استضافت القاهرة مؤتمرًا رفيع المستوى حول “السلام والأمن والرخاء فى منطقة البحر الأحمر: نحو إطار إقليمى عربي وإفريقي للتعاون”، بمشاركة الدول المشاطئة للبحر الأحمر باستثناء الصومال وإرتريا والتي سُجل مشاركتها في البيان الختامي للقمة!
استطاعت السعودية بما لها من ثقل مالي ونفوذ سياسي الاستحواذ الكامل على المبادرة المصرية وتحويرها بما يلائم استراتيجيتها تجاه البحر الأحمر والقرن الإفريقي
في ديسمبر/كانون الأول 2018 عُقد المؤتمر الثاني للمبادرة المصرية في الرياض تحت عنوان “الدول العربية والإفريقية المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن”، وأعلن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير على إثره تأسيس كيان للبحر الأحمر وخليج عدن. وشارك في المؤتمر مسؤولون رفيعو المستوى من دول المنطقة المذكورة، وكانت إرتريا الغائب من جديد!
وفي 11-12 مارس/آذار 2019 استضافت القاهرة الاجتماع الثالث للدول المشاطئة للبحر الأحمر وخليج عدن وغابت إرتريا.
إرتريا بين حضور وغياب
استطاعت السعودية بما لها من ثقل مالي ونفوذ سياسي الاستحواذ الكامل على المبادرة المصرية وتحويرها بما يلائم استراتيجيتها تجاه البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومن ضمن ذلك مواجهة الوجود الإيراني فيهما، وتجلى ذلك في الاجتماع المنعقد في الرياض 21-22 أبريل/نيسان 2019 والذي حضرته للمرة الأولى إرتريا ممثلة بمستشار الرئيس للشؤون السياسية يماني قبرآب وحقوص جبرهيويت مسؤول الشؤون الاقتصادية في الحزب الحاكم في البلاد.
كان الخطاب الإرتري في المؤتمر، كما الحضور، مفاجئًا، حيث أبدى ترددًا واضحًا حيال المبادرة السعودية، وذكر أن الأمر “يستدعي مراجعة واقعية وشاملة لا تضعفها الأساليب العاطفية أو الافتراضية”، ومضيفًا أن التجارب الماضية لروابط التعاون في البحر الأحمر كانت كبيرة لكنها آلت إلى نتائج غير مؤثرة، مؤكدًا أن صياغة إطار مؤسسي فعال “على أساس توافق الآراء والتفاهم المتبادل سوف تتطلب بالتالي اتباع نهج صبور ومنهجية. وبالتالي ستبقى المشاورات المستمرة والجادة مسألة ضرورة وليس خيارًا”.
ورغم تلك المشاركة فقد كان من الملاحظ غياب إرتريا من جديد عن مناورات “الموج الأحمر 1” (يناير/كانون الثاني 2019) و“الموج الأحمر 2” (سبتمبر/أيلول 2019) ، وهي مناورات بحرية نظمتها وزارة الدفاع السعودية بمشاركة دول المجلس المزمع إنشاؤه.
وفي 6 يناير/كانون الثاني 2020 أعلنت السعودية توقيع ميثاق تأسيس مجلس الدول العربية والإفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن من قبل 8 دول هي: السعودية والسودان وجيبوتي والصومال وإريتريا ومصر واليمن والأردن.
السعودية وإرتريا حليفتا الضرورة
يرى الدبلوماسي السابق في السفارة الإرترية في السعودية فتحي عثمان أن العلاقة بين الطرفين الإرتري والسعودي اتسمت دومًا بعدم الثقة، وأن “حقائق الجغرافية أجبرت السعودية على إدخال إرتريا في هذا التحالف”.
ومن الجدير بالذكر أن التحالف السعودي في اليمن كان اختار جيبوتي منطلقًا لعملياته، لكن الخلاف الجيبوتي الإماراتي دفعه إلى التعامل مع النظام في أسمرا، ويرى عثمان أن الرياض كانت تنظر بعين الريبة إلى إرتريا نتيجة أسباب منها العلاقة الوثيقة بين أسمرة وطهران في حقبة ما قبل الحرب على اليمن.
ومن اللافت للنظر أن أسمرة حتى الآن لا ترى في إيران عدوة لها وترفض تحويل التجمع سعوديًا لمنصة إقليمية ضد إيران، في حين تجد في المقابل أن استهداف هذا التحالف للوجود التركي في البحر الأحمر يتواءم مع سياستها الخارجية التي تزعم تهديد أنقرة والدوحة أمنها ودعم إسلاميين إرتريين، وتعلن رفضها لما تسميه “طموحاتها العثمانية”.
ينحدر الرئيس الإرتري من قومية التجرينية التي تغلب عليها المسيحية، وفيها تتركز الكتلة الداعمة له
وأضاف عثمان لنون بوست أن النظام لإرتري لديه حساسية عالية تجاه فكرة تعريب البحر الأحمر، ومن ثم فإن السؤال الواجب طرحه في البداية “لماذا قبلت إرتريا أصلًا أن تكون عضوًا في تحالف كل من فيه عرب!”.
يُذكر أن الرئيس الإرتري ينحدر من قومية التجرينية التي تغلب عليها المسيحية، وفيها تتركز الكتلة الداعمة له، ولقطاع من أبنائها مشاعر عدائية وتخوفات عميقة تجاه الإسلام والعرب، على خلفية الصراع التاريخي بين الطرفين في المنطقة منذ قرون طويلة.
ربما كانت “الشيكات” السعودية هي الدافع الرئيسي للنظام الإرتري للانخراط بشكل مبدئي في المجلس، ولعل رغبته في الانفراد بتمثيل إفريقيا غير العربية بما يداعب طموحات رأس النظام من جهة، والاتفاق الضمني الإثيوبي الإرتري على دخول أسمرة كوكيل عن أديس أبابا من جهة أخرى قد تكون عاملًا مؤثرًا في اتخاذ ذلك القرار.
لماذا الهجوم على السعودية؟
يرى عثمان أن الرئيس الإرتري يشعر أن له الأسبقية في مقترح تقدم به للمصريين عبر سفارته في القاهرة يتضمن رؤى عامة حول الأمن في البحر الأحمر عام 2008، ولم يتم تداوله أو تفعيله حينها، وأن حساسية الرئيس تجاه الدور العربي في القرن الإفريقي تجلت في تصريح وزارة الإعلام الإرترية المنتقد لوزير الدولة السعودي لشؤون الدول الإفريقية أحمد القطان.
وأورد الوزير في مقابلة مع جريدة الشرق الأوسط السعودية اتفاقية السلام التاريخية بين إرتريا وإثيوبيا مثالًا لتسخير المملكة إمكاناتها “ودورها الإسلامي الريادي” في حل الخلافات الإفريقية، وهو ما انتقدته وزارة الإعلام الإرترية في تصريح مؤكدة أن “هذا التصريح لاعلاقة له إطلاقًا بتطورات وحقائق اتفاق السلام التاريخي” وأنه إقصاء لإفريقيا وإنجازات الأفارقة في هذا الشأن و”إدلاء بروايات لا أساس لها”.
“تصرفات النظام عمومًا تفتقد إلى الشفافية ويسودها الغموض” هكذا صرح السياسي والحقوقي ياسين محمد عبد الله لنون بوست، لكن يمكن التكهن بأن “نقد وزارة الإعلام كان بسبب عدم إيفاء السعودية بالتزامات ما، وأن أفورقي يريد وضع مسافة بينه وبين ذلك التجمع العربي، ولا يريد أن يحسب مع العرب والمسلمين فيسعى للتميز عنهم، ولذا قد يكون نقده الأخير للتحالف مقدمة للانسحاب من التجمع أو محاولة ابتزاز”.
وأشار عبد الله في تصريحه إلى أن ذلك النقد قد يكون مرتبطًا بالتنافس الإقليمي مع جيبوتي، والرغبة الإماراتية في أن تؤدي إرتريا دورًا أكبر ضمن المجلس نتيجة الخلاف بين أبوظبي وجيبوتي، مضيفًا أن من الملاحظ أن أسياس “وافق على الانضمام للمشاورات التأسيسية للتجمع بعد زيارة للإمارات، ولذا فقد يكون لأبوظبي دور في إقناعه مقابل التزامات معينة”.
لا تتقن الرياض عمومًا اللعب ضمن فريق، معتمدة على ملاءتها المالية في فرض رؤاها على حلفائها
ومن المراقبين من يذهب إلى أن هناك تخوفًا إماراتيًا مكتومًا من الفكرة السعودية وتأثيرها المستقبلي على نفوذ أبوظبي المتنامي في المنطقة، ولا سيما أن سياسة الرياض اتسمت بعدم الاستقرار في الفترات الأخيرة، كما أن استمرارية التحالف الإماراتي السعودي تعتمد بالدرجة الأولى على شخصية الحاكم في الرياض، ولذا فقد تمثل إرتريا حصان طراودة مستقبلي للإمارات داخل هذا التحالف.
من الجدير بالذكر أن النظام الإرتري يصنف ضمن أسوأ الأنظمة الديكتاتورية في العالم، والسياسة الداخلية والخارجية تخضع كليًا لمكتب الرئيس وتتحكم فيها مزاجيته في غياب أي وجود لمؤسسات تقوم بدور فاعل في هذا الإطار.
مستقبل هذا المجلس
للسعودية تجارب متعددة في إنشاء التحالفات، لكنها تؤدي إلى نتائج مخيبة للآمال، فالرياض عمومًا لا تتقن اللعب ضمن فريق لو جاز التعبير، معتمدة على ملاءتها المالية في فرض رؤاها على “حلفائها”، ولعل هذا ما يستشف من تأكيد أفورقي ضرورة التعامل مع الدول المشاركة على قدم المساواة بغض النظر عن حجمها وعدد سكانها.
وهذا لا يبشر بمستقبل مختلف للتجمع الجديد، ولا سيما أنه من غير الواضح الفلسفة السياسية الجامعة بين أطرافه، فبجانب عدم الثقة الإرترية السعودية فإن العلاقة بين إرتريا وجيبوتي عدائية، وشهدت علاقات الأولى مع الصومال تحسنًا كبيرًا في حين أن العلاقات المصرية الصومالية يشوبها شيء من عدم الاستقرار، وجيبوتي والصومال لهما مصالح حيوية مع تركيا في حين أن الرياض وأسمرة والقاهرة تستهدف أنقرة بشكل مباشر، والسعودية تريد تحويل هذا التجمع أداة في حربها مع طهران وفي المقابل ترفض إرتريا ومصر ذلك، في حين يبدو الأردن بعيدًا عن كل هذا.
كل ما سبق يلقي بالكثير من الغموض حول الجدوى من هذا التجمع، بل حتى حول مستقبله عمومًا.