على هامش القمة الإسلامية التي عُقدت في العاصمة المغربية الرباط في الفترة بين 22- 25 من سبتمبر 1969، أعلن قادة الدول الإسلامية المشاركة في القمة تأسيس ما سُمي بـ”منظمة المؤتمر الإسلامي” التي غُيرت بعد ذلك إلى “منظمة التعاون الإسلامي” وذلك ردًا على محاولة إحراقِ المسجد الأقصى في القدس بالعام ذاته.
وفي عام 1972 أُعلن الميثاق الرسمي لهذا الكيان الذي بات ثاني أكبر منظمة حكومية دولية بعد الأمم المتحدة، من حيث عدد الحكومات العضوة فيها، إذ يبلغ عدد أعضائها 57 دولةً، تمثل أكثر من 1.5 مليار مسلم، وهو ما علق الكثير من الآمال عليها في تحقيق أهدافها التي أسست لأجلها من نصرة للقضية الفلسطينية وتعزيز التعاون الإسلامي ومواجهة التحديات التي تواجه الدول الأعضاء.
الظرفية التاريخية لولادة المنظمة كانت عاملًا أساسيًا في تصاعد منسوب الطموحات المتوقعة منها، إذ جاء تدشينها في وقت كانت فيها معظم الدول التي تقطنها أغلبيةٌ مسلمة منقسمةً أيديولوجيًا، الأمر الذي أضفى على الهوية الدينية التقليدية للمنظمة طابعًا فريدًا، وهو ما تُرجم في ميثاقها العام، حين أعلنت الدول الأعضاء التزامها بـ”الاسترشاد بالقيم الإسلامية النبيلة حول الوحدة والأخوّة”، مشدِّدةً على أهمية تعزيز وتكريس الوحدة والتضامن بين الدول الأعضاء لضمان مصالحها المشتركة على الساحة العالمية، والتقيد بالالتزام بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة وميثاق منظمة التعاون الإسلامي والقانون الدولي.
ما يزيد على نصف قرن تقريبًا على نشأة هذا الكيان، تعرض خلالها لموجات من المد والجذر، بدأ بالتهميش ثم الاعتراف الدولي مرورًا بتعزيز دوره الإقليمي، وصولًا إلى الحالة الراهنة، حيث سيطرت الخلافات البينية على الأهداف العامة، ليُسحب البساط يومًا تلو الآخر من تحت المنظمة لصالح تحالفات أخرى وليدة.
قبل أيام قليلة اتهمت إيران السلطات السعودية بمنع وفدها من المشاركة في اجتماع المنظمة الذي عقد في جدة 3 من فبراير الحاليّ، لبحث الموقف من خطة ترامب للسلام بين “إسرائيل” والفلسطينيين والمسماة إعلاميًا بـ”صفقة القرن”، ورغم إعلان الرياض تراجعها عن موقفها ومنحها تأشيرة الدخول ورفض طهران الحضور، فإن الموقف يعكس حجم الخلاف بين أعضاء المنظمة رغم ما يعيشه العالم الإسلامي من أخطر مؤامرة لتقسيم فلسطين لصالح الكيان المحتل.
بات الحديث اليوم عن موقع ثاني أكبر منظمة دوليًا، من حيث العدد، في السياسة العالمية المعاصرة، حديثًا ذا شجون، فماذا حققته طوال هذا المشوار الطويل؟ وما دور السعودية وإيران على وجه التحديد في إجهاض دورها وتراجع مكانتها؟ وهل ثمة فرص جديدة أمام المنظمة لاستعادة مكانتها مرة أخرى؟تساؤلات تطل برأسها باحثة عن إجابة في هذه المرحلة الحرجة التي يمر بها هذا الكيان الذي يبدو أنه دخل مرحلة الاحتضار في انتظار مصيره المجهول.
نصف قرن من الفشل
كان إحراق قوات الاحتلال الإسرائيلي للمسجد الأقصى دافعا قويًا لانطلاقة قوية للمنظمة في ظل ما يشهده أعضاؤها في هذا الوقت من تعبئة للروح الوطنية والقومية في أعقاب الجريمة الصهيونية، لكن سرعان ما جاءت البداية مخيبة للآمال، مغايرة تمامًا للحد الأدنى من سقف المأمول، حيت اكتفت بشعارات الإدانة دون اتخاذ موقف على أرض الواقع، نائية بنفسها عن “التورط العميق” في قضايا الخلاف داخل العالم الإسلامي وبين أعضائه، مكتفية بدعم مواقف دول إسلامية في نزاعاتها مع الدول غير الإسلامية.
ومع مرور الوقت وطيلة الخمسين عامًا الماضية، تبنت المنظمة تلقائيًا المواقف والبيانات الرسمية لجامعة الدول العربية، مكتفية بشعاراتها الثلاث (الإدانة والشجب والاستنكار).
منذ تأسيسها قبل نصف قرن، فشلت منظمة التعاون الإسلامي في حل المشاكل الهائلة والمتنامية التي تواجه المسلمين في جميع أنحاء العالم، ولم تقدم شيئًا للقضية الفلسطينية التي من أجلها أنشئت. فضلًا عن تجنب التورط في قضايا الخلاف داخل العالم الإسلامي وبين أعضاءه، مكتفية بدعم مواقف دول إسلامية في نزاعاتها مع دول غير ما إسلامية.
وانحصر دور المنظمة في عقد الدورات الرسمية والاستثنائية، بجانب دورات أخرى لمجلس وزراء الخارجية، إلا أنها طوال تلك السنوات تقمصت دور المُدين لكل ما يحدث، ولم تخرج بياناتها إلا للشجب خلال المؤتمرات والمحافل الدولية، الأمر الذي أفقدها رويدًا رويدًا تأثيرها الجغرافي والسياسي.
كانت لسياسات المغامرة التي انتهجها ولي العهد، محمد بن سلمان، خلال الأعوام الأخيرة، دور كبير في نفور أقطاب عربية وإسلامية، واتجاه عدد منها لاعتماد سياسة “الإبقاء على مسافة من الرياض”
وفي نظرة سريعة على خريطة قضايا الأمة على مدار نصف القرن المنصرم يلاحظ أن المنظمة لم تخرج بأي حلول جذرية بشأنها، لا سيما في فلسطين واليمن والسودان وليبيا والعراق وسوريا وأفغانستان وباكستان والصومال ونيجيريا، كما لم تتخذ موقفًا من المجازر التي تعرّض لها المسلمون في بورما على يد البوذيين، والمسلمون في ميانمار، إضافة إلى المحتجزين الروهينغا في الصين.
وكان نتاجًا لهذا الفشل في التعاطي مع قضايا المسلمين تعدد الصراعات والحروب التي عاشتها الدول الأعضاء، ما تسبب في نزوح هو الأكبر في العالم خلال العامين الماضيين، وهو ما وثقه تقرير صادر عن منظمة التعاون أن النازحين من الدول الأعضاء فيها يشكلون ما نسبته 61.5% من مجموع نازحي العالم.
رئيس البرلمان العربي السابق علي الدقباسي، في تصريح سابق له أعلنها صراحة أن منظمة التعاون الإسلامي أثبتت فشلها خلال السنوات العشرة الأخيرة بالتحديد، واستدل على ذلك بالاضطهاد الذي يتعرض له المسلمون في مختلف الدول، إضافة إلى تدخل بعض الدول الأعضاء في شؤون الدول الأخرى الأعضاء.
الدقباسي أشار كذلك إلى فشل المنظمة حتى على الصعيد الثقافي في ظل محاولات التشويه الذي يطال صورة الإسلام والمسلمين، مطالبًا بضرورة إعادة النظر في عمل منظمة التعاون الإسلامي، قائلًا: “لا نريد منظمة بروتوكولية للاجتماعات وتنسيق المواقف فقط، وإنما منظمة جادة تصل إلى الضعفاء والمساكين أمام الهجمة البربرية على العالم الإسلامي”.
هيمنة سعودية
أسباب عدة وراء فشل المنظمة في أداء دورها، يأتي على رأسها محاولة السعودية (الدولة المضيفة) توظيف هذا الكيان وتسييسه من أجل خدمة أجندتها في المنطقة، هذا بجانب استخدامه كأداة سياسية وتشريعية في حروبها وصراعاتها بالمنطقة، وتحديدًا ضد دول أعضاء في المنظمة وعلى رأسها إيران وليس ضد الكيان الصهيوني الذي نشأت المنظمة من أجل مواجهته.
تعزز الدور السعودي في الفشل مع مضي المملكة في محاولاتها تشكيل ائتلافات ومحاور ذات طبيعة عسكرية، تارة في سياق الحرب على اليمن، وثانية في مواجهة إيران في إطار ما بات يُعرف بمشاريع “التحالف الشرق أوسطي” أو “الناتو العربي” بقيادة أمريكية، لتزيح – بقصد أو دون قصد – المنظمة عن مسرح الأحداث.
وكان لسياسات المغامرة التي انتهجها ولي العهد، محمد بن سلمان، خلال الأعوام الأخيرة، دور كبير في نفور أقطاب عربية وإسلامية، واتجاه عدد منها لاعتماد سياسة “الإبقاء على مسافة من الرياض”، التي كان آخرها عقد قمة إسلامية في كوالالمبور بمشاركة “قطر وتركيا وماليزيا وإيران”، وعدد من الدول الإسلامية.
دور إيران في إفشال المنظمة لا يقل عن دور السعودية، حيث أدى الصراع المستمر والمتصاعد بين الحين والآخر بين طهران والرياض إلى فقد الكيان قوته وتأثيره
المحلل السياسي الفلسطيني ماهر شاويش، علق على أسباب فشل المنظمة في أداء بدورها قائلًا: “لا يمكن التقليل من حجم تدخل المملكة العربية السعودية بقراراتها انطلاقًا من كون جغرافية المقر لها، وأنها المتحكم بالكثير من مسارات عملها”، غير أنه أشار في الوقت نفسه إلى أن ذلك “يفرض على بقية الدول الإسلامية المنضوية تحتها ضرورة الضغط باتجاه تحرير قراراتها من أي هيمنة وجعلها تصب في خدمة الهدف الأساسي الذي أنشئت من أجله”.
أما الباحث في العلاقات الدولية عبد الرحمن السماوي، فألمح إلى أن المنظمة “لم تخرج بقرار واحد في صالح المسلمين المستضعفين في أي مكان في العالم”، معتبرًا أنه على الدول الإسلامية “البحث عن بديل يكون أصلح للمسلمين، بعدما فشلت المنظمة التي لم تكن جديرة بمتابعة قضايا العالم الإسلامي”.
السماوي أكد فشل الرياض في إدارة المنظمة، بل عملت في عكس أهدافها، على حد قوله، مدللًا على ذلك بأن: “هناك اختلاف في التعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ إذ تتحدث السعودية من حين لآخر عن الحقوق الفلسطينية، لكن من الناحية العملية فقد تخلت عن القضية الفلسطينية، وانخرطت في التطبيع التدريجي مع إسرائيل”، وتابع: “تُعتبر الرياض مدفوعة بسياسة واقعية استبدادية، مع الاهتمام الضئيل بالتضامن الإسلامي، وربما لم يعد لها الموقف نفسه في العالم الإسلامي، هي الآن لا تبحث إلا عن إثبات ذاتها فقط، والمنظمة سبيل لها لإثبات واقعها بين الدول الإسلامية”.
قلاقل إيرانية
دور إيران في إفشال المنظمة لا يقل عن دور السعودية، حيث أدى الصراع المستمر والمتصاعد بين الحين والآخر بين طهران والرياض إلى فقد الكيان قوته وتأثيره، فضلًا عن الانقسامات التي شهدها جراء تأرجح مواقف الأعضاء بين القوتين المتصارعتين، ما صب في نهاية المطاف في صالح الكيان الصهيوني.
قدرة إيران على بناء شبكة من الحلفاء من الجماعات المسلحة في منطقة الشرق الأوسط، وتمركزها بشكل رئيسي في العراق، ولبنان، وسوريا، واليمن، زاد من الخلافات بين الدول الإسلامية، وتزايد التوتر فيما بينها، الأمر الذي دفع الكثير من الأعضاء إلى اتهام طهران بزعزعة الاستقرار في الدول العربية، ودفعت تحركات طهران في الشرق الأوسط بعض الدول العربية إلى قطع علاقتها معها.
التصعيد المتواصل الذي تساهم فيه طهران في المنطقة سواء بتهديد دول الجوار أم استهداف منشآت سعودية فضلًا عن تدخلها المستمر في شؤون الدول العربية عمق حجم الخلافات داخل المنظمة، فتحولت إلى أقسام وتحالفات داخلية، أفقدتها هدفها المنشود وباتت في مهب الرياح لا تقوى حتى على الثبات فضلًا عن الخنوع أحيانًا لإملاءات هنا وهناك.
ورغم هذا الفشل الواضح طيلة السنوات الماضية وتحول التعاون الإسلامي إلى إدارة داخل الخارجية السعودية من جانب وفقدانها قوتها وتأثيرها جرًاء تعميق الخلافات البينية بداخلها، إلا أن هذا لا ينكر أنها نجحت في تحقيق بعض الإنجازات والمواقف القليلة، ربما على رأسها دورها المؤثر في حرب أكتوبر 1973، حين اتخذت موقفًا حازمًا بوقف إمدادات النفط لدول أوروبا.
علاوة على ذلك فقد نجحت المنظمة في إبرام بعض الاتفاقيات العامة المتعلقة بالمجال الاقتصادي، مثل اتفاقيات التعاون الاقتصادي والفني والتجاري، واتفاقية الاستثمار عام 1982، هذا بخلاف تأسيسها للمؤسسة الإسلامية للعلوم والتكنولوجيا، والمركز الإسلامي للتدريب المهني والفني والبحوث، والغرفة الإسلامية للتجارة والصناعة وتبادل السلع، وعلى المستوى الثقافي كان إنشاء المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة “الإسيسكو” واللجنة الدولية للحفاظ على التراث الإسلامي الحضاري.
وبعد مرور نصف قرن على إنشاء المنظمة لا بد من الوقوف على أن الوضعية الحاليّة تختلف بصورة جذرية عما كانت عليه في السبعينيات، حيث افتقدت للإرادة السياسية التي كانت تملكها في هذا التوقيت لشن حرب كاملة ضد الكيان الصهيوني، فضلًا عما آلت إليه الدولة المضيفة اليوم من تراجع في ثقلها الإقليمي.
حديث يدور بشأن وضع آلية جديدة في محاولة لإحياء دور المنظمة أبرز سماتها الالتزام بميثاقها الأساسي الخاص بنقل مقر الأمانة العامة من جدة إلى مدينة القدس، مقرها المفترض، لكن وفي ظل وقوع الأخيرة تحت الاحتلال قد تكون عواصم أخرى على استعداد لأداء هذا الدور مؤقتًا كما أدته السعودية طيلة السنوات الماضية.
وما بين ماليزيا وتركيا والجزائر تتباين الآراء بشأن المقر الجديد المقترح للمنظمة في ظل ما تشهده الدول الثلاثة من مواقف ربما تكون أكثر ارتباطًا بميثاق الكيان وخريطة أيديولوجياته الأولى قبل أن ينقلب عليه معظم الأعضاء لصالح أجندات خاصة على حساب القضية الفلسطينية.
وفي النهاية يعتبر الكثيرون أن هذا الكيان القوي الذي ولد من رحم الوحدة العربية والإسلامية في مواجهة العربدة الصهيونية بات اليوم خارج نطاق الخدمة، بل ربما يمكن القول إنه في مرحلة موت إكلينيكي إن لم يتعرض لصدمة كهربائية تعيد الحياة إليه مرة أخرى، وهي الصدمة التي تتطلب نسف معظم المعطيات القائمة وبناء أرضية جديدة على المستويات كافة.