ارتبط الأتراك باللغة العربية منذ اعتناقهم الإسلام، ولهذا فإن تاريخ الترجمة من العربية إلى التركية أقدم بكثير من الترجمة إلى العربية، فبالإضافة إلى ترجمة القرآن الكريم قديمًا، تُرجمت أيضًا الكثير من كتب الحديث والفقه والتفسير وغيرها من العلوم الإسلامية.
وبحسب الموسوعة الإسلامية التركية، فإن أول كتاب تفسير تُرجم إلى التركية هو “جواهر الأصداف” لمؤلف مجهول، وبشكل عام فقد نقل هذه الكتب مجموعة كبيرة من فقهاء العهد العثماني الذين كانوا يتعلمون العربية ويتقنونها، إلا أن الترجمة من العربية إلى التركية لم تقتصر في هذه المرحلة على ترجمة كتب العلوم الإسلامية فقط، فقد ترجمت عام 1477 بطولات وأشعار عنترة بن شداد العبسي، ونُشرت باسم “عنتر نامه”.
بالإضافة إلى ترجمة المعلقات السبعة وقصيدة البردة لكعب بن زهير، كما حظيت كثير من كتب التراث العربية بالترجمة إلى التركية أيضًا، ومن أبرز هذه الكتب: البخلاء للجاحظ، والعقد الفريد لابن عبد ربه، ومقامات بديع الزمان الهمذاني، ومقامات الحريري، وألف ليلة وليلة وغيرها من أمهات الكتب.
إلا أن اهتمام الأتراك بالثقافة العربية تأثر بشكل كبير، بطبيعة الحال، بانهيار الدولة العثمانية وممارسات مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك المعروفة، من عزل تركيا عن محيطها العربي وقطع العلاقة بشكل صارم مع كل ما يتعلق بالثقافة العربية بل والحرف العربي أيضًا، وهو ما جعل الترجمة من العربية إلى التركية خلال حكم حزب الشعب الجمهوري الأتاتوركي تضعف بشكل واضح حتى منتصف القرن العشرين.
البدايات
منذ مطلع الخمسينيات في تركيا، ظهرت بعض الترجمات للكتب العربية بالتركية، لكنها اقتصرت على الكتب الدينية فقط، وبعض الكتب الأدبية لجورجي زيدان وكامل الكيلاني، واستمرت حركة الترجمة من العربية على هذا الوضع خلال الثلاثة عقود اللاحقة، تُرجمت خلالها بعض الأعمال التي برزت في العالم العربي عند التيار الديني تحديدًا، كبعض أعمال سيد قطب وأبو الأعلى المودودي ويوسف القرضاوي.
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في تركيا، ومحاولاته إعادة العلاقات مع العالم العربي مرة أخرى بعد انقطاع دام لعقود، نهضت حركة الترجمة من العربية وعادت العربية إلى الاهتمام القديم/المتجدد، وكان لقسم اللغة العربية بجامعة إسطنبول جهد كبير في هذا السياق، حيث حاول أساتذة هذا القسم تغيير الصورة النمطية لدى بعض مثقفي العرب الذين اعتادوا وصف القرون العثمانية بالانحطاط.
وفي هذا السياق، ألف الأكاديمي والمترجم التركي عمر إسحاق أوغلو كتابًا مهمًا بعنوان “الحركة الأدبية في سوريا في القرن التاسع عشر”، إلى جانب ترجمته للعديد من النصوص الأدبية التي يدّرسها لطلابه، كما قدم أيضًا بعض الكتب العربية إلى المكتبة التركية مثل “الواسطة في معرفة أحوال مالطة” لأحمد فارس الشدياق و”الآباء والبنون” لميخائيل نعيمة، بالإضافة إلى أنطولوجيا القصة السورية.
أهم ما يميز السنوات الأخيرة في الترجمة من العربية إلى التركية، هو عدم اقتصار الاهتمام بالثقافة العربية على الكتب التراثية فقط، لكنه يتناول الأدب العربي الحديث والفكر أيضًا، وفي هذا السياق، برز اسم الأكاديمي والمترجم التركي محمد حقي صوتشين، أستاذ الأدب العربي بجامعة غازي في أنقرة، حيث قدم إلى المكتبة التركية العديد من الأسماء الأدبية البارزة في العالم العربي مثل يحيى حقي ومحمود درويش وأدونيس ونزار قباني وسركون بولص.
ويرى صوتشن نفسه في أحد أبحاثه عن الترجمة من العربية أن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل كان أحد أهم عوامل نشاط حركة الترجمة من العربية والاهتمام بالأدب العربي، حيث تُرجمت أعمال محفوظ وكُتّاب عرب آخرون بعد ذلك، ولعل أبرز الكُتّاب العرب الذين يُترجمون بشكل كبير الآن في تركيا، هو أمين معلوف، حيث وصلت روايته “سمرقند” بالتركية إلى الطبعة الـ94 حتى الآن.
ترجمة الفكر العربي
إلى جانب الاهتمام بترجمة الأدب العربي الحديث هناك إقبال على ترجمة بعض كتب الفكر العربي الحديث أيضًا، وقد لعبت دار نشر “معنى” التركية دورًا بارزًا في هذا السياق بالسنوات الأخيرة، حيث ترجمت العديد من الكتب الفكرية لراشد الغنوشي ومختار الشنقيطي، كما ترجم المترجم التركي محمد تشليك كتابي “العقل الأخلاقي العربي” و”فكر ابن خلدون: العصبية والدولة” للمفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى التركية وصدرت عن الدار نفسها.
رغم وجود بعض العقبات في الترجمة من العربية إلى التركية، فإننا لا نستطيع إنكار عودة الاهتمام بالثقافة العربية في تركيا في العقدين الأخيرين
كما يُلاحظ الإقبال على ترجمة كتب المفكر المغربي في السنوات الأخيرة في تركيا، حيث ترجم للجابري أيضًا المترجم التركي محمد شاير كتابي “الدين والدولة” و”الديمقراطية وحقوق الإنسان”، وهناك بعض الكتب التي تُرجمت أيضًا عن أفكار حسن البنا وسيد قطب والمودودي، كما لم تغب أسماء بعض المعاصرين أيضًا مثل هبة رؤوف عزت التي تُترجم أعمالها الآن إلى التركية، وبالتأكيد لم يكف المترجمون عن ترجمة بعض الكتب التراثية أيضًا حتى الآن، فقد ترجم المترجم أحمد خليفة كتاب “الشجرة النعمانية في الدولة العثمانية” لمحيي الدين بن عربي، كما ظهرت عدة ترجمات لكتاب “طوق الحمامة” لابن حزم الأندلسي.
مشكلات
تبقى المشكلة الكبرى حتى الآن في الترجمة من العربية إلى التركية، هي نفس مشكلة الترجمة من التركية، ألا وهي غياب المنهجية الواضحة في الترجمة لدى أغلب دور النشر، بمعنى أن كل تيار فكري يُترجم لأبنائه حسب إيديولوجيته، بالإضافة إلى مشكلة الاعتماد على الوسيط الأوروبي، فالأديب أو المفكر العربي، غالبًا لا يُترجم إلا إذا كان مترجمًا في لغة أوروبية قبل ذلك، وهو ما يفسر سبب انتشار روايات أمين معلوف في تركيا لأنه يكتب بالفرنسية.
وأخيرًا، رغم وجود بعض العقبات في الترجمة من العربية إلى التركية، فإننا لا نستطيع إنكار عودة الاهتمام بالثقافة العربية في تركيا في العقدين الأخيرين، مقارنة بالعقود التي سبقتها، فقد عرفت النخبة التركية اليوم أن للعرب أيضًا إبداعًا يستحق أن يُترجم، كما أن الاهتمام بالثقافة العربية في السنوات الأخيرة لم يعد مقتصرًا على النخبة الدينية التركية التي تربط اللغة العربية بالإسلام فقط.