منذ صفحته الأولى يصدم كتاب “عصر نهاية الخصوصية” قارئه بأن المجرمين لا يمتلكون حسابات شخصية على فيسبوك، وأن إحجام القتلة عن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي يعد ظاهرة سلوكية تدل على العزلة التي غالبًا ما يتسم بها المجرمون، إضافة إلى كشفه للعديد من الغرائب عن ألعاب الإنترنت التي تعتمد على تحديد الموقع عبر GPS.
السلوك الإجرامي وصورة الملف الشخصي
يتناول الألماني أندرياس برنارد في بداية كتابه إحجام القتلة بشكل ملحوظ عن امتلاك حسابات شخصية تحتوي صورهم ويومياتهم، حيث كشف المراسلون أن جيمس إيجان هولمز المشتبه بإطلاقه النار في إحدى دور السينما بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2012، وآدم لانزا الذي كرر الجريمة ذاتها في مدرسة ابتدائية لم يكن لديهما أي حسابات على مواقع فيسبوك أو تويتر أو لينكد إن، يشاركهما في ذلك مرتكب الهجمات الإرهابية في 2011.
وينبه بعض مديري شؤون العاملين في الشركات الكبرى إلى أن إلقاء نظرة على الملفات الشخصية على الإنترنت للمتقدمين للعمل أصبحت تندرج في الوقت الحاليّ ضمن معايير اختيار المرشحين اللائقين للعمل وأن التغيب التام عن الوجود على شبكات التواصل الاجتماعي يثير الشعور بالاندهاش، كما أكدت دراسة أجراها الطبيب النفسي ريتشارد بيلونجيه ونشرها عام 2011 وجود صلة بين النشاط على شبكة الإنترنت والصحة النفسية لدى الشباب، حيث أثبتت الاختبارات أن الشباب الذين لا يفعلون ذلك لساعات على شبكة الإنترنت يبعثون غالبًا الشعور بالانزعاج، وفق الكتاب الصادر مؤخرًا بترجمة سمر منير، عن دار “صفصافة” بمصر.
فالصورة التي يدونها الناس على الفيسبوك هي صورة لذواتهم بشكل أو بآخر، لذا فإن الغرب اليوم يعتبر الغياب عن مواقع التواصل الاجتماعي وعدم وجود ملفات شخصية لهؤلاء الأشخاص تعبر عن حالتهم وتعليقاتهم التي يكتبونها، دليلًا على شذوذ نفسي، وهذا الكلام ليس بجديد، بل طرحته دانا بويد في مقالاتها على موقع “فريندستير” (أول موقع تواصل اجتماعي يثبت نجاحه) في العام 2006 قائلة: “لقد أصبحت الملفات الشخصية بمثابة الشكل السائد لعرض الهوية الشخصية على شبكة الإنترنت، لأنها دليل على تمتع أصحابها بقدر من الاستقلالية”، وأضافت “من يحمل على عاتقه عبء أن يخلق ملفًا شخصيًا مثيرًا للاهتمام فسوف ينشئ علاقات تواصل أكثر”.
يتناول برنارد فكرة الخوف من تسجيل البيانات والرغبة في تسجيلها، بوصفها إحدى عمليات إعادة هيكلة صورة الإنسان المعاصر
رواد ألعاب الإنترنت بين المراقبة ومصالح التسويق
في منتصف التسعينيات بعد أن استقرت خدمات “نظام التموضع العالمي (GPS)” أطلقت وزارة الدفاع الأمريكية خدمة التموضع القياسية (الأقل دقة) في بادئ الأمر لمدة عشر سنوات، لكن في العام 2000 تغيرت الأمور حين علمت أمريكا بتجهيز أوروبا لنظام “جاليليو”، حيث صار مسموحًا للإنسان أن يستفيد من تقنية التتبع في نظام التموضع العالمي GPS بعد أن كانت استخداماته لأغراض عسكرية فقط، لدرجة أن بعض الباحثين كانوا يرون في ذلك الوقت أن الاستخدام اليومي للوسائط الإلكترونية يعد في نهاية المطاف “سوء استخدام لأجهزة الجيش”.
وبعد انتصار الـGPS في معارك دستورية عدة لتطبيقه على ملاحقة المجرمين، ثم إتاحته لاستخدام الأفراد العاديين، كان موعده الأهم مع هذا التحول الجوهري في الألعاب الإلكترونية، حيث ظهر ما يعرف بـ”هواية تتبع المواقع جغرافيًا”، وقد مثلت لعبة “إنجرس” أكثر الألعاب المرتبطة بتحديد الأماكن تقنيًا إثارة للجماهير الكبيرة التي ارتبطت بها منذ استحداثها عام 2012 في نسخ تجريبية وأصبحت موجودة منذ عام 2014 في هواتف “آيفون” والهواتف المحمولة التي تعمل بنظام تشغيل أندرويد، وتجمع هذه اللعبة مستخدميها في لقاءات يتم تنظيمها بصورة مركزية في مدن أمريكية أو أوروبية أو آسيوية كبرى، فالعالم بأسره يعد ملعبًا تدار فيه لعبة “إنجرس” وهو ما يظهر على هيئة خريطة ذات رؤية مستقبلية غرائبية من “خرائط جوجل”.
لكن اللافت للنظر أن الشركة التي تدير اللعبة (شركة نيانتيك) وهي إحدى شركات جوجل تتلقى سجلات صغيرة عن إقامة وتحركات مستخدمين لا حصر لعددهم، “في حين أننا نعتقد أنها مجرد لعبة قمنا تحميلها، لكنها ليست كذلك”، هذا ما يقوله صوت هامس عند تحميل اللعبة لتأكيد قوة التحديات، وهذه الجملة تعد في مجملها صحيحة – أيضًا – بمفهوم متغير قليلًا.
أندرياس برنارد كاتب وناقد ألماني ولد عام 1969 في ميونيخ، حصل على درجة الدكتوراه عام 2005 ويعمل حاليًّا أستاذًا جامعيًا في “مركز الثقافات الرقمية” بألمانيا
استفادت العديد من الشركات في مجال التسويق من هذه الألعاب بعد عقد اتفاقية بين شركة ألعاب “نيانتيك” وشركة فودافون وجميع شركات اتصالات الهواتف المحمولة لبعض الوقت فيما يتعلق بـ”البوابات” التي ترصد ما يوفر في النهاية نتائج نموذجية عن اهتمامات هؤلاء اللاعبين والمستخدمين بما يجعلهم عملاءً محتملين للأهداف التسويقية التي حددها هذا الاتحاد.
في الجزء الأخير من الكتاب يتناول برنارد فكرة الخوف من تسجيل البيانات والرغبة في تسجيلها، بوصفها إحدى عمليات إعادة هيكلة صورة الإنسان المعاصر، ويتناول فيه الربط بين الخوف المرضي من تسجيل البيانات واحتجاجات 1983 و1987 في ألمانيا بمدينة “بون”، حيث شعر الناس وقتها بأنهم صاروا مثل الدمى المتحركة تعرف عنهم الدولة أشد المعلومات خصوصية، ويشير في هذا الصدد إلى رواية جورج أورويل “1984” التي تنبأت حينها بمبدأ “دولة المراقبة” في دولته المتخيلة “أوشينيا”.
أندرياس برنارد كاتب وناقد ألماني ولد عام 1969 في مدينة ميونيخ، عمل بعد حصوله على درجة الدكتوراه في 2005 في مركز البحوث الثقافية والأدبية في برلين، ويعمل حاليًّا أستاذًا جامعيًا في “مركز الثقافات الرقمية” بألمانيا، صدرت له عدة مؤلفات منها: “المبدأ: 100 ظاهرة من الواقع المعاصر” في 2007 و”التاريخ الثقافي للمصعد” (2014) و”معرفة الملف الشخصي و”عن أصل الوصف الرقمي الذاتي في علم البحث الجنائي وعلم الطب النفسي” (2018).