تواصل فرنسا إلى الآن نهب ثروات دول عدة في القارة الإفريقية، معتمدة أساليب وحيل مختلفة تؤمن وصول خيرات القارة السمراء إليها، من ذلك فرضها على بعض دول القارة استخدام وحدة نقدية موحدة تعرف باسم “الفرنك الإفريقي”.
في هذا التقرير الجديد ضمن سلسلة “جرائم فرنسا في إفريقيا“، سنتطرق معًا إلى هذه الحيلة الفرنسية التي نجحت إلى الآن في تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من المستعمرات الفرنسية السابقة لباريس، التي كانت سببًا مباشرًا في تخلف هذه القارة.
الفرنك الإفريقي
في ديسمبر/كانون الأول 1945، أصدرت فرنسا عملة “فرنك المستعمرات الفرنسية في إفريقيا” (سي إف آ)، وتم إصدار مرسوم نهاية ذلك الشهر يحدد قيمة عملات معينة من أقاليم ما وراء البحار بالفرنك، ووقع هذا المرسوم رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الفرنسية شارل ديغول ووزير ماليته ووزير المستعمرات. وفي سنة 1958 (أي بعد استقلال هذه المستعمرات) أصبح “فرنك المجموعة المالية الإفريقية”.
بفضل السيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب إفريقيا، تمكنت فرنسا من تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من مستعمراتها السابقة
الفرنك الإفريقي هو عملة موروثة من الاستعمار الفرنسي، وهو نظام تخضع بموجبه 15 دولة إفريقية، من بينها 12 مستعمرة فرنسية سابقة، للنظام المصرفي الفرنسي من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالعملة الفرنسية، وتنقسم منطقة الفرنك إلى مجموعتين.
مجموعة أولى، تشكل الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا (UEMOA)، وتضم 8 دول، هي: بنين وبوركينا فاسو وكوت ديفوار وغينيا بيساو ومالي والنيجر والسنغال وتوغو، وأنشأ هذا الاتحاد في داكار (السنغال)، في 10 من يناير/كانون الثاني 1994، ومقره في واغادوغو (بوركينا فاسو) وخَلَفًا للاتحاد النقدي لغرب إفريقيا (UMOA) الذي أُنشئ عام 1963.
أما المجموعة الثانية فتضم ست دول في وسط إفريقيا وهي الكاميرون وجمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو وغابون وغينيا الاستوائية وتشاد، وهي دول تشكل المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط إفريقيا، ويصدر الفرنك عن طريق المصرف المركزي لدول وسط إفريقيا.
تأسست هذه المجموعة، في 16 من مارس/آذار 1994، بمدينة أنجمينا في تشاد، ودخلت حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 1999، ويقع المقر الرسمي للمجموعة في بانغي عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى، وأُنشئت هذه المجموعة لتحل محل الاتحاد الجمركي والاقتصادي لوسط إفريقيا، ونجد أيضًا جزر القمر وتصدر العملة هناك عن طريق “البنك المركزي لجزر القمر”.
ارتبط الفرنك الإفريقي في بداية العمل به سنة 1945 بالفرنك الفرنسي، قبل أن يتم ربطه باليورو في وقت لاحق، حيث تبلغ قيمة كل 100 فرنك إفريقي نحو 0.15 يورو، أي أن قيمة اليورو الواحد نحو 656 فرنكًا إفريقيًا، ورغم كون الفرنك المتداول في غرب إفريقيا تساوي قيمته الفرنك الوسط إفريقي، لا يمكن استعمال الفرنك الغرب إفريقي في دول وسط إفريقيا والعكس.
تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية
يعتمد نظام الفرنك الإفريقي على أربعة مبادئ رئيسية وهي: مركزية احتياطيات النقد الأجنبي في الخزانة الفرنسية وثبات قيمة الفرنك مقابل اليورو وقابلية التحويل المجاني من الفرنك إلى اليورو وحرية حركة رأس المال بين فرنسا والبلدان الإفريقية في منطقة الفرنك، بالإضافة إلى مشاركة فرنسا في هيئات إدارة البنوك المركزية لهذه المنطقة.
بفضل السيطرة على الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب إفريقيا، تمكنت فرنسا من تأمين التدفق المستمر للعائدات النقدية والاقتصادية من مستعمراتها السابقة، خاصة أن الاتفاق كان يشترط على دول الفرنك وضع 100% من ودائع النقد الأجنبي الخاصة بها للبنك المركزي الفرنسي، قبل أن يجري تخفيض هذه النسبة لـ65% في السبعينيات، ولاحقًا لـ50% عام 2005، تحت ذريعة توفير غطاء نقدي لإصدار الفرنك الفرنسي.
خسرت دول منطقة الفرنك الإفريقي الاستفادة من عشرات المليارات من اليورو سنويًا توظِفها فرنسا في سد عجزها المزمن
يشترط على كل بنك مركزي في منطقة الفرنك أن يكون لديه حساب تشغيل لدى الخزانة الفرنسية المركزية ويجب عليه إيداع جزء من احتياطي العملات هناك، لذلك يوجد حاليًّا ما يقارب 8000 مليار فرنك إفريقي موضوعة في الخزانة الفرنسية.
كان من المفترض أن تضاف عائدات استثمارات هذه الأموال إلى أرصدة صناديق الاستثمار في دول منطقة الفرنك الإفريقي، إلا أنه لا أحد يعلم إن تم ذلك أم لا، ففرنسا لا تسلم كشوفات الحسابات للبنوك المركزية لهذه الدول أو إخطارهم بحدوث تغييرات لأي شيء.
والأسوأ من ذلك، أن حصة الفائدة المدفوعة للبنوك المركزية في منطقة الفرنك الإفريقي إن دفعت، يتم احتسابها في المساعدة الإنمائية الرسمية المقدمة لدول المنطقة، لذلك فإن البلدان الإفريقية في منطقة الفرنك تجد نفسها في وضع اقتصادي واجتماعي صعب للغاية، خاصة أن فرنسا تفرض عليها ضرورة تخفيض الإنفاق العام بحجة توفير فرص تشغيل.
جدير بالذكر أن الفرنك الإفريقي في الأسواق العالمية مرتبط بالعملة الأوروبية اليورو، لذلك فهو يخضع للتقلبات في سعر العملة الأوروبية الموحدة، ما يعني أن البلدان الإفريقية في منطقة الفرنك لا تتمتع بالسيطرة على سياسات سعر الصرف الخاصة بها.
هذا الأمر يفرض على دول المنطقة أن تحول أرباح صادراتها إلى اليورو قبل تحويلها إلى الفرنك، مما يعني أنه إذا تقلب التحويل بين اليورو والعملات الأجنبية، فإن أرباح الدول الإفريقية في منطقة الفرنك سوف تتقلب أيضًا، ونتيجة هذه السياسات المالية، خسرت دول منطقة الفرنك الإفريقي الاستفادة من عشرات المليارات من اليورو سنويًا توظِفها فرنسا في سد عجزها المزمن.
تكريس التبعية للاستعمار الفرنسي
يعتبر الفرنك الإفريقي، النظام النقدي الاستعماري الوحيد في العالم الذي بقي ساري المفعول حتى بعد تصفية مخلفات الاستعمار واستقلال الدول، وجاء تأسيس هذا النظام تنفيذًا للخيارات الإستراتيجية التي اتخذتها فرنسا لوضع مؤسسات الدول الإفريقية وخيراتها في خدمة المصالح الاقتصادية الفرنسية، حيث تم إلغاء العملات الإفريقية وإنشاء بنوك جديدة تحت سيطرة فرنسا.
عمل الفرنك الإفريقي، منذ بدء العمل به على كبح معدلات التنمية لدول المنطقة وشكل رادعًا لكل محاولات الخروج عن الهيمنة الاقتصادية الفرنسي
تحتفظ فرنسا إلى الآن بالسيطرة على السياسة النقدية في المنطقة، وقد ذهبت إلى حد اتخاذ قرار من جانب واحد بشأن تخفيض قيمة الفرنك عام 1994، ما يعني أن هذه العملة النقدية كرست التبعية للاستعمار الفرنسي وصادرت سيادة الدول الإفريقية التي تتعامل بها.
بعد سبعة عقود من الوحدة النقدية وأكثر من نصف قرن من الاستقلال السياسي، ما زالت البلدان التي تستخدم الفرنك الإفريقي من بين أضعف الاقتصادات في العالم، فمعظمها تظهر في قائمة “أقل البلدان نموًا” و”البلدان الفقيرة المثقلة بالديون”.
اقتصادات ضعيفة
من النتائج المترتبة على ربط البلدان الإفريقية في منطقة الفرنك بعملة قوية مثل اليورو أن تظل اقتصادات المنطقة ضعيفة والناس فقراء لأن المواد الخام التي ينتجونها لا يمكن تصديرها أو معالجتها وفق إرادتهم، فالصادرات الزراعية والمعدنية لهذه الدول مرتبطة كليًا بفرنسا.
فضلًا عن ذلك، عرقلت هذه العملة النقدية التخطيط الاقتصادي للدول النامية في غرب ووسط إفريقيا، كون قيمة الفرنك الإفريقي مرتبطة باليورو الذي يحدد سعره البنك المركزي الأوروبي، وبالتالي لا تعكس العملة السياسة النقدية والمصالح الاقتصادية لهذه الدول.
سنة 2017، أكدت الأمم المتحدة وجود 33 بلدًا إفريقيًا ضمن الدول الأقل نموًا في العالم، 9 منها من منطقة الفرنك، فباستثناء كوت ديفوار والكاميرون والكونغو والغابون وغينيا الاستوائية، فإن جميع البلدان في منطقة الفرنك مدرجة في هذه “القائمة الحمراء“.
وباستثناء الغابون وغينيا الاستوائية، فإن جميع دول منطقة الفرنك الإفريقي مدرجة ضمن مجموعة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون التي وضعها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، رغم كونها دولًا مليئة بالموارد الزراعية والتعدينية الاستثنائية.
وفقًا لمؤشر التنمية البشرية لسنة 2015 لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، كانت 6 من أفقر عشر دول في العالم بمنطقة الفرنك الإفريقي، وهذه الدول هي غينيا بيساو (178) ومالي (179) وبوركينا فاسو (183) وتشاد (185) وجمهورية إفريقيا الوسطى (187) والنيجر (188/188 بلد).
عمل الفرنك الإفريقي، منذ بدء العمل به على كبح معدلات التنمية لدول المنطقة وشكل رادعًا لكل محاولات الخروج عن الهيمنة الاقتصادية الفرنسية، فهو يعتبر طريقة أخرى للفرنسيين لإبقاء الأفارقة تحت إمرتهم وتحت سوط العبودية، فهي المسؤولة إلى حد كبير عن التخلف في هذه القارة الإفريقية، فبسببها غرق جزء كبير من القارة السوداء في البؤس والفقر والحاجة، لذلك وجب على حكام تلك المنطقة الاتحاد لرفض هذا النوع من العبودية إلى الأبد، وتأسيس وحدة نقدية خاصة بهم.