عقب انتهاء مؤتمر “ريو +20” عام 2012، تحدث رجل الاقتصاد البلجيكي غونتر باولي عن ضرورة حماية الإدارة المستدامة للموارد المائية، استنادًا إلى فرضية أن النظم الإيكولوجية السليمة للمحيطات أكثر إنتاجية وهي واجبة من أجل استدامة الاقتصادات القائمة على المحيطات، ومن هذا التوقيت بدأ ظهور ما سُمي بـ “الاقتصاد الأزرق”.
وبعد ست سنوات كاملة على ظهور هذا المصطلح، استضافت العاصمة الكينية، نيروبي، في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، مؤتمر عنونت له بـ”استدامة الاقتصاد الأزرق”، حضره ما يقرب من 18000 مندوب من 184 دولة، وأشارت تقديراته إلى أن هذا النوع من الاقتصاد سينمو ضعف معدلات نمو الاقتصاد التقليدي حتى عام 2030، وربما يزيد المعدل إذا تنامت اتجاهات اللجوء إلى البحار والمحيطات في توليد الطاقة وتحلية المياه.
يشير مصطلح الاقتصاد الأزرق إلى الاقتصاد الذي يعني بالإدارة الجيدة للموارد المائية وحماية البحار والمحيطات بشكل مستدام للحفاظ عليها من أجل الأجيال الحاليّة والقادمة، ويشمل العديد من المجالات، منها توليد الكهرباء من الطاقة المائية، وأنشطة التعدين في البحار والمحيطات والسياحة البحرية وأنشطة صيد الأسماك والكائنات البحرية واستخراج المواد الخام من البحار، وغير ذلك من أشكال النشاط الاقتصادي المرتبط أساسًا بالمياه.
يذكر أن للاقتصاد ألوان سبع كما يشير الأكاديميون في هذا المجال، منها الأسود والأبيض والأحمر والرمادي والبني والأخضر وكذلك الاقتصاد الأزرق، لكن في السنوات الأخيرة بدأت العديد من الأصوات تطالب بالتخلي تدريجيًا عن الاقتصاديات داكنة اللون التي تهدد البيئة والإنسان بصفة عامة، على رأسها “الاقتصاد البني” الذي يعتمد على الوقود الأحفوري، نظرًا لما يسببه من تلوث المياه والهواء وتهديد الحياة البحرية والبرية، والاستعاضة عنه بأنواع الاقتصاد الأخرى، كالاقتصاد الأخضر الذي يقلل بصورة ملحوظة من المخاطر البيئية والندرة الأيكولوجية للموارد، علاوة على “الاقتصاد الأزرق” الذي يولي العامل الإيكولوجي مرتبة متقدمة في قائمة أولوياته.
في هذا الملف نلقي الضوء على خريطة الاقتصاد الأزرق الذي رغم حداثة نشأته بات اليوم رقمًا صعبًا في منظومة الاقتصاد العالمي، لما يمثله من ثقل كبير وقدرة على تقديم البديل فيما يتعلق بالموارد الاقتصادية التقليدية التي من الممكن أن تُجهض بين الحين والآخر بفعل متغيرات السوق، هذا إلى جانب التركيز على بعض التجارب الناجحة للعديد من الدول في هذا المجال الخصب.
24 تريليون دولار أصول بحرية
تجاوز الاهتمام بالاقتصاد الأزرق حاجز الحدود الأكاديمية والبحثية، إلى دوائر صناع القرار الاقتصادي والسياسي في العديد من دول العالم، خاصة إذا علمنا أن الأصول البحرية في العالم تحتوي على كنوز تقدر بنحو 24 تريليون دولار، بينما تبلغ قيمة الاقتصاد الأزرق نحو 1.5 تريليون دولار سنويًا، وهو ما جعله يتصدر قائمة اهتمامات العالم خلال الأعوام الماضية.
الهدف الأساسي لهذا الاقتصاد يتمحور حول الحد من المخاطر البيئية وندرة الموارد والحد من السلوكيات التي تؤدي إلى تغير المناخ، وكذلك إلى المحافظة على سلامة المسطحات المائية من التهديدات المتنامية كالتلوث والصيد الجائر وغير القانوني، استنادًا إلى فرضية أن النظم البيئية السليمة للبحار والمحيطات هي الأكثر إنتاجية بحكم أنها تغطي أكثر من ثلثي مساحة الكوكب.
صندوق الحياة البرية العالمي “World Wildlife Fund” في تقييمه لحجم هذا الاقتصاد أكد أنه لو كانت المحيطات بلدًا فسوف يكون اقتصاده هو السابع في العالم، فبالإضافة إلى قيمة كل الأصول الرئيسية الموجودة (24 تريليون دولار)، هناك أكثر من 3 مليارات من الأشخاص حول العالم يعتمدون على التنوع البيولوجي في المحيطات والبحار في العالم من أجل معيشتهم.
الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 350 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم مرتبطة بشكل أساسي بصيد الأسماك
هذا عدا عن أن ما يقرب من 80% من التجارة العالمية يتم نقلها عبر البحار، وكذلك توفر السياحة الساحلية والبحرية ما يربو على 6.5 مليون وظيفة، فضلًا عن توفير صناعات الاقتصاد الأزرق سبل لكسب العيش لما يزيد على 820 مليون شخص في جميع أنحاء العالم في ميادين متنوعة.
كما يعمل الاقتصاد الأزرق كمحفز لتطوير السياسات والاستثمار والابتكار في دعم الأمن الغذائي، وقد شهدت عدة دول صناعية تنمية اقتصادها الأزرق على نحو كبير من خلال استغلال الموارد البحرية عبر عمليات الشحن والصيد التجاري والصناعات النفطية والتعدينية، وهو ما يعطي الدول الجزرية الأمل في تبوء مستقبل أكثر إشراقًا ورخاءً عما هي عليه الآن.
العديد من الإحصاءات تشير إلى أن ما يقرب من 350 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم مرتبطة بشكل أساسي بصيد الأسماك، كما تعد الزراعة المائية أسرع القطاعات الغذائية نموًا، وتوفر نحو 50% من الأسماك المخصصة للاستهلاك البشري، فيما تشير التقديرات إلى أن نحو 34% من النفط الخام سوف يأتي من الحقول البحرية بحلول عام 2025.
وبعيدًا عن الآراء التي تعتقد أن الاقتصاد الأزرق وسيلة لحماية البيئة فحسب، ففي بعض الدول الصغيرة مثل بالاو وسيشل تمثل السياحة البحرية أكثر من نصف قيمة عائداتها الاقتصادية، ويمكن أن تمثل مصائد الأسماك في أي مكان بين 10% و50% من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول الصغيرة، إذ يساهم الصيد المستدام والمقترن بجهود الحفاظ على البيئة في ضمان استمرارية الموارد الطبيعية الساحلية التي تستخدمها هذه الدول في الوجود لقرون قادمة.
كل هذه المحفزات جعلت هذا الاقتصاد الوليد هدفًا رئيسيًا لصناع القرار في معظم دول العالم، وفي ظل التنافس المحموم بين القوى الاقتصادية الكبرى على الريادة، تحولت الموارد البحرية والمائية إلى قبلة محورية للاستثمار العالمي، لا سيما أن هذا النوع من الاستثمار ربما يكون البديل المضمون للموارد التقليدية.
بديل للدول النفطية
يعد النفط المصدر الأساسي لاقتصاديات العديد من الدول المنتجة له، لا سيما في دول الخليج التي يشكل فيها هذا المورد قرابة الـ95% من اقتصادياتها، كما هو الحال بالنسبة للسعودية، ومن ثم فإن أي تأرجح في هذا المورد يعني تعرض تلك النظم إلى هزة اقتصادية عنيفة.
وفي الآونة الأخيرة تعرضت أسواق النفط في العالم لحالات من التذبذب حيث تباينت أسعاره صعودًا وهبوطًا مما أثر بشكل ملحوظ على الدول المصدرة والمستوردة له، فالاعتماد على النفط كمصدر أساسي للدخل يشكل نقطة ضعف في اقتصاديات وتصنيفات تلك الدول.
الربط بين خريطة أسعار النفط والمستجدات الدولية والإقليمية يجعل الاعتماد عليه مغامرة غير محسوبة، وهو ما كشفته الأشهر القليلة الماضية حيث شهدت مصادر الطاقة برمتها تقلبات حادة بعد اتخاذ سلسلة من الإجراءات، تتمثل أهمها في اتفاق الدول الأعضاء في الأوبك على تخفيض حجم الإنتاج، والعقوبات الأمريكية على إيران وفنزويلا، فضلًا عن إلغاء الإعفاءات الأمريكية المعطاة لثماني دول من مستوردي النفط الإيراني، وأخيرًا انخفاض الصادرات الروسية بعد اكتشاف تلوث الشحنات المتدفقة عبر خط أنابيب “دروجبا” الممتدة إلى أوروبا، وقد جاء هذا الارتفاع بعدما شهد عام 2018 أدنى مستويات لأسعار النفط بسبب نمو إمداداته بوتيرة أسرع من الطلب عليه.
رغم حداثة المصطلح فإن للدول العربية في هذا المضمار تجارب ناجحة إلى حد ما، مع توقع المزيد من النجاحات خلال المرحلة المقبلة
هذا بخلاف وقوع هذا المورد صيدًا سهلًا في مرمى الدول التي تعاني من خصومة وعداءات مع جيران لها في المنطقة، وهو ما فطنت إليه إيران مؤخرًا حين استهدفت منشآت النفط الخاصة بشركة أرامكو السعودية، تلك الضربات التي أفقدت المملكة ما يقرب من نصف إنتاجها في لحظات معدودة.
وأمام تلك التحديات بات الحديث عن بديل متجدد لهذا المورد أمرًا في غاية الأهمية، وهذا ما يجعل الاقتصاد الأزرق مجالًا واعًدا للاستثمار، حيث يعتبر من أهم البدائل المتاحة للدول المصدرة والمستوردة للنفط، كما أنه يعود بدخل مادي مجزٍ، وكذلك يعمل الاهتمام بقطاعاته المختلفة على توفير فرص استثمارية واسعة، ولذا تتوجه العديد من الدول المنتجة للنفط للعمل على إيجاد قطاعات إنتاجية أخرى تساهم في زيادة دخلها القومي.
يذكر أنه في عام 2013 أطلقت “منظمة الأغذية والزراعة” التابعة للأمم المتحدة (فاو) مبادرة تحت عنوان “مبادرة النمو الأزرق blue growth initiative” من أجل دعم التحول إلى الاقتصاد الأزرق، ومساعدة الدول والحكومات في وضع وتنفيذ سياسات تعزز مفهومه.
المنظمة استعرضت ثمانية أهداف رئيسية يراد تحقيقها في تلك المبادرة جاء في مقدمتها، الاهتمام بتربية الأحياء المائية من خلال تعزيز السياسات والممارسات الجيدة لاستزراع السمك والمحار والنباتات البحرية للإنتاج والنمو السمكي بصورة مسؤولة ومستدامة، وتحفيز الطرق والوسائل التي من شأنها تعزيز النمو والنظم الرقابية واستعادة التنوع البيولوجي وخدمات النظام البيئي.
كذلك الاهتمام بمصائد الأسماك الطبيعية واستعادة الأرصدة السمكية عبر دعم الصيد الرشيد ومكافحة الصيد غير المشروع وغير المنظم وإلغاء ممارسات وسلوكيات الصيد الضارة وتحسين طرق بناء وصيانة مصائد الأسماك والعمل على استدامتها، بجانب الاهتمام بأنظمة المأكولات البحرية وتعزيز سلاسل القيمة الكفوءة للمأكولات البحرية، وتعزيز التعاون بين الدول في مجال الاقتصاد الأزرق.
تجارب عربية
رغم حداثة المصطلح فإن للدول العربية في هذا المضمار تجارب ناجحة إلى حد ما، مع توقع المزيد من النجاحات خلال المرحلة المقبلة، تتصدر تلك التجارب، المملكة المغربية، التي تعتبر من الدول التي لديها إمكانيات هائلة في مجال الاقتصاد الأزرق بفضل موقعها الجغرافي، إذ تصل سواحلها البحرية إلى 3500 كيلومتر، مما يؤهلها لجعل الاقتصاد الأزرق رافعة أساسية لتحقيق التنمية.
الأمر كذلك في الكويت التي دخلت هذا المضمار عبر بوابة الهيئة العامة لشؤون الزراعة والثروة السمكية التي تسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأسماك في الدولة في إطار إستراتيجية طموحة من خلال تطوير وتوسيع الاستزراع السمكي وإثراء المخزون الطبيعي للأسماك في المياه الإقليمية.
رغم التحديات فإن هذا الاقتصاد الوليد بدأ يتبوأ مكانته المتقدمة في جدول الاقتصاد العالمي، انطلاقًا من أهميته في المساهمة في معدلات النمو وتحسين مستويات المعيشة والحفاظ على البيئة بشكل مستدام
كما تمتاز تونس بموقع إستراتيجي يمكنها لتكون ميناءً بحريًا إفريقيًا، ورائدة لهذا القطاع في القارة، ولهذا احتضنت مدينة بنزرت فعاليات النسخة الأولى من منتدى الاقتصاد الأزرق أكتوبر 2018، واستضافت أيضًا الدورة الثانية من المنتدى في إفريقيا يونيو 2019، وذلك بحضور 150 مندوبًا دوليًا من مستثمرين ورجال أعمال وواضعي السياسات وخبراء المحيطات لمناقشة الفرص التي يوفرها الاقتصاد الأزرق في إفريقيا.
هذا علاوة على ما تمثله سلطنة عُمان من قبلة استثمارية واعدة في هذا المجال، حيث وصفها الخبير غونتر باولي مؤلف كتاب “الاقتصاد الأزرق” بـ”جزيرة سلام واستقرار”، لما تمتلكه من فرص كبيرة للاستثمار في هذا العالم الجديد من الاقتصاد الذي يتوقع الكاتب أن يكون الأول عالميًا خلال سنوات.
وفي المقابل، ورغم تلك الآفاق الرحبة أمام الاقتصاد الأزرق كوجهة استثمارية عالمية، فإن تطبيقه على أرض الواقع مسألة ليست سهلة، إذ يواجه العديد من التحديات والمعوقات التي تتطلب مزيدًا من الجهد والمشقة والكلفة لتجاوزها، على رأسها تزايد الضغوط البشرية على الأنظمة والموائل البحرية، بسبب الصيد الجائر وردم الشواطئ وأجزاء من الحيد المرجاني، وغير ذلك من النشاطات والممارسات السلبية التي تسهم في التقليل من إنتاجية هذه النظم وفي التأثير على الفوائد والمساهمات الاقتصادية والتنموية، وذلك إلى جانب نقص الكوادر البشرية المؤهلة لتطبيق آليات الاقتصاد الأزرق في قطاعاته المختلفة.
إجمالًا، ورغم التحديات السابقة فإن هذا الاقتصاد الوليد بدأ يتبوأ مكانته المتقدمة في جدول الاقتصاد العالمي، انطلاقًا من أهميته في المساهمة في معدلات النمو وتحسين مستويات المعيشة والحفاظ على البيئة بشكل مستدام، هذا بخلاف ما يتمتع به من موارد تتصاعد أهميتها يومًا تلو الآخر، وهو ما دفعه لأن يفرض نفسه تحت مجهر العناية والاهتمام من كل الدول والكيانات التي تسعى للحصول على موارد اقتصادية مضمونة بيئيًا وصحيًا.