مع انشغال العراق بملف المظاهرات وترشيح اسم جديد لرئاسة الحكومة، لا تزال التكهنات متواصلة بشأن موازنة العام 2020، وسط غموض يحيط نسبة العجز فيها وطريقة تغطيته وهو ما يبدو أنه سبب عدم إرسالها حتى الآن خاصة مع انتقال منصب رئيس الوزراء إلى محمد توفيق علاوي، الأمرالذي سيؤخر إقرارها أكثر.
ما تسرب حتى الآن يشير إلى أن موازنة بقيمة 162 تريليون دينار عراقي (135 مليار دولار)، بعجز يبلغ 48 تريليون دينار (40 مليار دولار) أي ما يعادل 30% من مجموع الموازنة العامة مقارنة بموازنة عام 2019 التي بلغت 112 مليار دولار بعجز قيمته 20% منها.
للوهلة الأولى، قد يوحي ضخامة الرقم الذي يساوي موازنات مصر ولبنان وسوريا والأردن مجتمعين، بطفرة اقتصادية ونمو في الإنتاج المحلي، إلا أنه يشي في حقيقته بعكس ذلك تمامًا: فوضى إدارية وانتحار اقتصادي على حد وصف رئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي أحمد الجبوري!
موازنة تفتقد للتوازن
تعتمد الحكومة بشكل شبه كامل على النفط الذي يشكل 89% من الإيرادات بواقع تصدير 3.88 مليون برميل يوميًا و56 دولارًا للبرميل، مع توقعات بزيادة الاعتماد عليه في الموازنة المقبلة ليصل إلى 93% من حجم الإيرادات، ما يعني وصول العراق لحالة الشلل التام في حال هبوط أسعار النفط أو عدم القدرة على تصديره إذا شملته لائحة العقوبات الأمريكية كما هدد بذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وحتى مع عدم حصول ذلك، يعكس غياب أثر تلك الأموال على أرض الواقع خللاً جوهريًا في السياسة الاقتصادية العراقية.
فالبنظر للموازنة السابقة، بلغت النفقات الجارية 82 مليار دولار “74%”، يُصرف منها 52 مليار كرواتب للموظفين والمتقاعدين وهو ما يعادل نصف الموازنة تقريبًا – بزيادة 15% عن عام 2018 -، ومع الارتفاع المستمر لنسبة البطالة التي تبلغ 20% واعتماد الاقتصاد المركزي تواجه الحكومة خيارين:
أولًا: خفض الاعتماد على النفط وتطوير موارد أخرى مثل القطاع الزراعي وما يرتبط به في مجالات الموارد المائية والنقل والصحة الغذائية، والتوجه نحو إصلاحات طويلة ومتوسطة الأمد بإشراك القطاع الخاص وتقليل الملاك الحكومي البالغ 6.5 مليون موظف ومتقاعد، وهو ما يطابق توصيات قدمتها ممثلة البنك الدولي في العراق يارا سالم إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء مطلع 2018، أشارت فيها إلى أن الشركات العامة تعاني من تكاليف إنتاج عالية تمثل عائقًا رئيسًا يعترض الإصلاح وإعادة الهيكلة.
ثانيًا: المضي فيما دأبت عليه الحكومة منذ 2003 في توسيع الهيكل البيروقراطي باستيعاب موظفين جدد لامتصاص الضغط الشعبي، آخرها تعيين ربع مليون موظف من المفسوخة عقودهم في وزارات الداخلية والدفاع والنفط والكهرباء رغم أن أغلبهم بلا عمل يؤديه.
تفسر مثل هذه الإجراءات اضطرار الحكومة الدائم لتوسيع موازنتها عامًا بعد عام رغم استحالة تغطية النفقات المتزايدة.
مخطط يوضح نسبة العجز في الموازنات العراقية منذ عام 2006
-المصدر: بيانات وزارة المالية العراقية-
حيث تظهر البيانات المالية وجود عجز رافق جميع الموازنات السابقة، ضمن سياسة تتبنى حلولًا قصيرة الأمد على حساب الحلول الجذرية، أو كما عبر عن ذلك مدير مكتب العراق لمؤسسة غرايفون بارتنرس للاستشارات عمر النداوي: “النتيجة أبعد ما تكون عن الكفاءة مع ميزانية كبيرة بحجم إنفاقها وكبيرة بعجزها ولكنها صغيرة بتخصيصاتها الاستثمارية وليس فيها أي وعود تخص احتياجات الإصلاحات الاقتصادية للبلد”.
سياسة القروض.. الشعب سيدفع الثمن
قاد استمرار الوزارات المتعاقبة بهذه السياسات الاقتصادية، إلى حاجة دائمة للاقتراض في ظل الفجوة الواسعة بين الإيرادات والنفقات، وهو ما بدا واضحًا في كل قوانين الموازنة العامة التي أقرها البرلمان خلال العقد الأخير:
-
2010: قرضين بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
-
2011: قرضين بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
-
2012: قرضين بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
-
2013: قرضين بقيمة 6.5 مليار دولار، وسحب 1.8 مليار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي “SDR”.
-
2015: 3 قروض بقيمة 7 مليارات دولار، وسحب 1.8 مليار دولار من احتياط العراق النقدي في البنك الدولي.
-
2016: 3 قروض بقيمة 1.3 مليار دولار.
-
2017: 20 قرضًا بقيمة 25 مليار دولار.
-
2019: 27 قرضًا بقيمة 23.3 مليار دولار.
ومع تراكم تلك الديون وفوائدها، يعاني العراق اليوم من عبء كبير على كاهله، يشير تقرير صندوق النقد الدولي منتصف 2019 أن مجموع ديون العراق بلغت 115.3 مليار دولار – منها 72.2 مليار دولار قروض أجنبية – بما يشكل 51.4% من الناتج المحلي، وهذه الأرقام بالطبع لا تشمل الديون المقدمة من الصين بموجب الاتفاقية الأخيرة التي تقدر بين 4-10 مليارات دولار سنويًا مقابل مشاريع البنى التحتية.
قد لا يتخيل البعض مدى خطورة هذا الكم الهائل من الديون في مستقبل العراق القريب، فهي قد تفضي بالبلد في النهاية إلى بيع منشآته أو عائداته النفطية أو مينائه للدول الدائنة، بالضبط كما حصل مع سريلانكا التي اضطرت لإيجار 70% من ميناء “هامبانتوتا” عام 2017 لصالح الصين لمدة 99 عامًا بعد عجزها عن سداد دين بقيمة 1.1 مليار دولار، أو مع الإكوادور التي ستسلم 90% من صادرتها النفطية للصين خلال عام 2024 عن دين بقيمة 6.5 مليار دولار أو دول تواجه نفس المصير بعد غرقها في بحر من الديون مثل جيبوتي وموزمبيق وبوروندي وتشاد وزامبيا.
ما يؤكد جدية التهديد، أن العراق يسير بنفس الطريق الذي سارت فيه تلك الدول المدينة، فهي تقترض لمشاريع استثمارية تفشل في تنفيذها، فتضطر إما لإيجار ثرواتها السيادية أو سحق مواطنيها بإجراءات اقتصادية لسداد الديون، والعراق منذ أن بدأ بالاقتراض لسداد عجز موازنة عام 2010، لم يكن استثناءً عن ذلك، فهو لم يضف شيئًا في بنيته التحتية أو يوسع قطاع الاستثمار بتلك الأموال لتدر عليه إيرادات يسدد من خلالها القروض، بل على العكس، فشلت القطاعات الحكومية كافة في استثمار الأموال الطائلة التي استدانتها الحكومة، فشلٌ ظهر بشكل غير مسبوق خلال عام 2019، أفضى في النهاية إلى انفجار الشارع ليس في وجه الحكومة وحسب، إنما في وجه كل النظام السياسي الحاكم منذ 2003.
يقول كبير الباحثين في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية أنتوني كوردسمان: “يعتبر العامل الاقتصادي من أهم أسباب اشتعال المظاهرات العراقية، والثروات التي يحصل عليها العراق محصورة بفئة قليلة في السلطة، ونسبة الفرد من الناتج القومي قياسًا بدول الجوار، تعكس حجم الفقر فيه، إذ تبلغ 5030 ألف دولار سنويًا مقابل 21450 في السعودية، 41010 في الإمارات و61190 في قطر، وحتى بالنسبة لفرص العمل، يرى 95% من الشباب العراقي أنهم يحتاجون لوساطة من أجل الحصول على وظيفة”.
أرقام كارثية.. لأجل ماذا يستلم الوزراء مرتباتهم؟
لم يكن توقيت المظاهرات المتصاعدة في الثلث الأخير من العام الماضي اعتباطًا، إذ يكشف تقرير ديوان الرقابة المالية عن نتائج تنفيذ الموازنة خلال الفترة ما بين 1 من يناير و30 من سبتمبر عام 2019 أرقامًا صادمة شملت جميع الوزارات والمحافظات تقريبًا.
التقرير بيّن أن مجموع ما أُنفق من الموازنة الاستثمارية بلغ 7.8 مليار دولار من أصل 27.8 مليار (28% فقط منها)، بينما تكشف أرقام الوزارات الخدمية ذات الاحتكاك المباشر مع حاجة المواطن حجم التقاعس الذي تشهده السلطة التنفيذية، فلم تنفق وزارة الكهرباء إلا 3.7% من مخصصاتها الاستثمارية، ووزارة الاسكان اكتفت بـ4.1%، ووزارة الزراعة 1.4%، ووزارة التعليم 3.6%، ووزارة الصحة 2.9%.
أما المحافظات فلم تكن أفضل حالًا: محافظة بغداد 33.1%، البصرة 48.1%، كربلاء 56%، ذي قار 24.1%، الديوانية 11.4%، بابل 0%!
تترجم هذه الإحصاءات مدى التلكؤ الحكومي في ولاية رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ومع حقيقة أن هذه المخصصات تم استدانتها في الأساس لغرض الاستثمار، وبإضافة نسب البطالة والفقر والفساد واستئثار الأحزاب بالمناصب منذ عام 2003، يمكن فهم دور الحكومة الفعلي الذي لم يتغير طوال 17 عامًا: “لا شيء”! إلا توزيع إيرادات النفط على موظفين معظمهم بلا إنتاج، ثم الاستدانة وتعريض المنشآت السيادية لخطر البيع من أجل تمويل موازنة استثمارية لا يُصرف إلا ثلثها في مشاريع يشوبها الفساد.
والنتيجة الطبيعية لما سبق أن البلد لا يزال يفتقد البنى التحتية رغم وصول عائداته النفطية إلى تريليون دولار “1000 مليار دولار”، وهو مبلغ يكفي لإعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية 10 مرات! الآن، مع ترشح محمد توفيق علاوي، سيكون قانون الموازنة في مقدمة مهام الحكومة الجديدة، فهل سيكون أكثر جرأةً في التعامل مع هذه الملف؟ أم سيكون كسابقيه في قيادة الاقتصاد العراقي نحو مصير مجهول غير بعيد عن تسليم ثروات البلد إلى الدائنين؟