قدم أغلب المهاجرين العرب إلى إسطنبول رغمًا عنهم، بسبب اضطراب الأوضاع السياسية والأمنية في بلادهم، حيث يعيش كثير منهم بعيدًا عن عائلاتهم، الأمر الذي يشعرهم بالحزن على أطفالهم لبعدهم عن الأجواء العائلية وما يرافقها من نشاطات يومية عفوية تؤمنها بيئاتهم السابقة.
لكن فرصة النشأة في إسطنبول، ليست أمرًا عاديًا، بل ميزة لكل الأطفال الذين ولدوا وسيكبرون هنا، إذ تمنحهم هذه المدينة شيئًا من ذاكرتها العريضة واطلاعًا واسعًا على كل الثقافات المارة عبرها وكل الحضارات التي حطت رحالها في هذه البقعة من العالم.
يتفق كثير ممن يقيمون بإسطنبول أن هذه المدينة متعِبة، خاصة مع ساعات الدوام الطويلة وامتداد المدينة واكتظاظها بالبشر، إضافة إلى ارتفاع تكاليفها المعيشية، ومع ذلك لا ينبغي أن يشكل هذا حاجزًا أمام استثمار ميزات العاصمة الثقافية والاقتصادية لبلاد الأناضول في إثراء طفولة أولادنا وذاكرتهم وتنمية مهاراتهم وشغفهم.
الطبيعة الخلابة
تتميز إسطنبول بموقعها المميز بين أوروبا وآسيا، والجمال الأخاذ الذي تتمتع به كمدينة تطل على البحر الأسود وبحر مرمرة، بالإضافة إلى مضيق البوسفور الذي يضفي سحرًا على جمالها، وبالقرب من شبه الجزيرة التاريخية (إسطنبول التاريخية) نرى القرن الذهبي أو ما يُعرف بالخليج الذي يمنح إسطنبول المزيد من الحيوية والمهابة.
كأم أعيش في إسطنبول مع عائلتي الصغيرة، أحرص أن يتمتع طفلي بما توفره إسطنبول من بيئة طبيعية جميلة، إذ إنني لم أستطع تأمين بيئة ريفية كاملة بما فيها من جمال وتعليم ذاتي ومراقبة للحياة البكر وهواء نقي وأنهار تجري بعيدًا عن تدخل الإنسان، أرى في إسطنبول بديلًا غنيًا يمكن لطفلي أن يراقب الحياة الطبيعية من خلالها، ويعيش الكثير من التجارب الفريدة، مع استفادته من ميزة العيش في مدينة عملاقة.
أريد أن أزرع في ذاكرته أشياء جميلة وأماكن فريدة، ولا أجد أفضل من إسطنبول لذلك! فإحدى أجمل التجارب المتوافرة هنا هي استخدام السفن كوسيلة مواصلات (وبتكلفة تساوي الميترو أو الباص) بين الأحياء المنتشرة على طرفي البوسفور. أُجهز حقيبة صغيرة وأحضّر بعض الطعام، وأصل مع طفلي لأقرب ميناء، نركب السفينة ونستمتع بزرقة البحر والشواهد التاريخية على طول المضيق أو طول الطريق الواصل بين آسيا وأوروبا، نبتعد عن جامع السليمانية فيزداد تألقًا ورفعة ويظهر عن اليسار جامع السلطان أحمد ومن أمامه يبدو قصر الـ”توب كابي” الذي تحيط به الحدائق والأشجار.
تمر العبّارة من تحت جسر الخليج الشهير، نلوّح للعشرات من الصيادين المنتشرين على الجسر صيفًا وشتاءً، ثم يطل برج “غلاطة” من بين البيوت المكتظة في “بي أوغلو”، نخرج من الخليج نحو مياه البوسفور وتقترب النوارس، نطعمها من “السميت” أو تسرق رزقها من بين أيدينا، عشرات المسارات في مياه القرن الذهبي والبوسفور لكل واحدة سحرها وتفاصيلها المختلفة عن الأخرى.
الذهاب مع الأطفال في رحلة داخل المدينة باستخدام السيارة هو الحل الأمثل والأسهل، لكن رحلة بالباص أو الترام أو الميتروبوس أو الميترو من حين لآخر أيضًا تجربة ممتعة للأطفال توفرها شبكة مواصلات إسطنبول الممتدة، كما يساعدهم على الاختلاط بالآخرين من جميع البيئات، أحاول تجنب أوقات الازدحام حين الخروج مع طفلي كي تسير الرحلة على ما يرام دون تعب أو عناء.
تتميز إسطنبول بوجود أربعة فصول واضحة، يمكن للطفل أن يرى الأمطار الغزيرة والثلوج في الشتاء، دون أن تتسبب برودة الطقس في توقف الحياة وجعل الخروج متعذرًا، وفي الربيع تتفتح إسطنبول كزهرة بديعة بمختلف أنواع وألوان الأزهار فيما تقام المهرجانات احتفاءً بالتوليب، فيشتهر السلطان أحمد بسجادة التوليب وحدائق “أميرغان” و”غولهانه” تمتلئ بالفعاليات، فضلًا عن الحدائق الصغيرة المنتشرة في كل الأحياء.
يمر على إسطنبول شهر الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة والرطوبة، لكنه يبقى الوقت المناسب للخروج في رحلات بحرية والتنزه في الحدائق الكبيرة حيث تخفف الأشجار من ارتفاع الحرارة، بالإضافة إلى الشواطئ الكثيرة والمتوافرة بأسعار مناسبة وبخيارات متنوعة مناسبة للعائلات المحافظة، ثم يعود الخريف وتهدأ المدينة بعد صيف مزدحم، إلا أن الطقس المعتدل يستمر طويلًا ويمنحنا الفرصة للاستمتاع أكثر بطبيعة المدينة.
خدمات البلدية
تقدم البلديات هنا خدمات لأكثر من 15 مليون إنسان، ونذكر هنا بعضًا من التسهيلات التي تمنحها البلديات لذوي الأطفال:
-
أغلب محطات وسائل المواصلات فيها مصاعد وطرق خاصة لعربات الأطفال.
-
تنتشر في أغلب الحدائق والمكتبات والأماكن العامة مراحيض نظيفة وبعضها مخصص للأطفال تحديدًا، يضاف إلى ذلك غرف الإرضاع والتبديل للأطفال الأصغر سنًا.
-
تصدر البلدية وعدة مؤسسات مجلات ودوريات للأطفال مناسبة من عمر 3 سنوات، متوافرة مجانًا أو بسعر زهيد.
-
تعلن بلدية المدينة الكبرى والبلديات المحلية شهريًا عن جداول لعشرات الفعاليات الخاصة بالأطفال حسب مكان الإقامة.
-
في الصيف تقام عروض السينما للأطفال في الأماكن المفتوحة والحدائق الكبرى.
-
لكل بلدية من بلديات إسطنبول الكبرى مركز للثقافة والفنون، تقام فيه شهريًا فعاليات للأطفال من مسارح وحفلات غناء وعروض أفلام ونشاطات الرسم.
-
في كل منطقة هناك مراكز لتعليم السباحة وبعض أنواع الرياضات والفنون مجانًا أو برسوم رمزية.
تتوفر الكثير من وسائل الترفيه أيضًا في المراكز الخاصة، مثل المدينة المائية التي تحاكي الحياة البحرية من البحر الأسود إلى المحيط الهادئ بطول 1200 كيلومتر، فيه نحو 15 ألف كائن بري وبحري، بالإضافة إلى مدينة المهن kidzania ومدينة الليغو legoland.
الثراء التاريخي والثقافي للمدينة
بينما كان كل ما أعرفه عن إسطنبول هو فيلم محمد الفاتح الكرتوني الذي يحكي ملحمة فتح القسطنطينية، يستطيع ابني اليوم زيارة أكثر من عشرة أماكن تحكي قصة فتح القسطنطينية وأن نمشي بجوار سورها المهيب.
اكتسبت إسطنبول ثراء تاريخًا مميزًا كونها عاصمة للدولة الرومانية والبيزنطية واللاتينية وأخيرًا الإمبراطورية العثمانية، فتركت كل حضارة الكثير من المعالم المميزة والإرث الغني، ونرى هذا أيضًا في كثرة المتاحف وتنوعها.
تُعرف إسطنبول بمدينة التلال السبع، حيث ترتفع في شبه الجزيرة التاريخية سبعة هضاب حرص البيزنطيون على رفع كنائسهم وقصورهم فيها، ومن بعدهم العثمانيون، فنرى قصر التوب كابي على تلة Sarayburnu ، تل Çemberlitaş وفيه عمود قسطنطين الذي سمي التل باسمه، إلى الأمام قليلًا تظهر تلة جامع السليمانية، أما التل الأشهر عند العرب من قاطني إسطنبول فهو التل الذي بني عليه جامع الفاتح، إلا أن أعلى نقطة في “إسطنبول القديمة” فهي التل المقام عليه جامع Mihrimah Sultan في منطقة أدرنة كابي. بالقرب من جامع الفاتح يوجد التل السادس وبني عليه جامع ياغوث سليم، الذي يفصل بينه وبين الخليج حي بلاط التاريخي اليهودي، وأخيرًا التل الوحيد المطل على بحر مرمرة هو Kocamustafapasa.
وذلك عدا عن القصور والقلاع والحمامات والمدارس التاريخية والجسور الأثرية الواقعة في إسطنبول الكبرى خارج الأسوار.
الهوية الإسلامية
إن كنت حزينًا لأن ابنك لم يركض في باحات الجامع الأموي في دمشق أو جامع خالد بن الوليد في حمص أو الأزهر والسلطان حسن في القاهرة، ستكون مساجد إسطنبول الأثرية بدفئها وأمنها وأبوابها المفتوحة ملاذًا لأطفالك وخطوة جميلة لدخولهم عالم الروحانيات والمساجد، باحات جامع الفاتح والسلطان أحمد والسلطان ياغوث سليم، إلى جانب مساجد أخرى مثل جامع تشامليجا الفريد. تتميز مساجد إسطنبول أيضًا بساحاتها الواسعة لممارسة الأنشطة، إذ غالبًا ما تكون مرفقة بمراكز تحفيظ القرآن وقسم ألعاب الأطفال وحديقة عامة، وإذا زرت جامع الفاتح فقد ترى أنه يكاد لا يخلو من الأمهات اللواتي جلبن أطفالهن للعب على الدراجات في ساحاته.
وفي حين أن بعض المدن الأوروبية تتفوق على مدينة إسطنبول بانتشار خدمات البلدية ومراكز الأطفال بكثافة وجودة أعلى، إلا أن إسطنبول ستوفر بيئة إيمانية للطفل، إذ سيصدح المؤذن خمس مرات، وتحيط المساجد بنا من كل ناحية، فأينما ذهبت ستجد مسجدًا مفتوحًا للصلاة، وبالتالي ستمثل زيارة المساجد جزءًا من النزهة، كما تقيم وزارة الشؤون الدينية وجمعيات أهلية سنويًا مسابقات تشجيعية للأطفال على حضور صلاة الفجر مثلًا، إضافة إلى مراكز تحفيظ القرآن والطابع الإسلامي للمدينة عمومًا، ووجود المدارس الحكومية والخاصة التي تولي اهتمامًا خاصًا للعلوم الشرعية، وإذا اخترت الإقامة في الأحياء المأهولة بالسكان العرب، ستجد مراكزًا لتعليم القرآن وعلومه واللغة العربية.
في رمضان، تواسي إسطنبول غربتك ويستيقظ ابنك على صوت المسحراتي كل ليلة، وتقام في الميادين العامة فعاليات متنوعة وسهرات إنشادية، وقد ترغب في المشاركة في الإفطارات الجماعية، في حيك الصغير أو الوصول للميادين الكبرى.
التنوع الثقافي والاجتماعي
يبدو أن موقع إسطنبول على قارتي أوروبا وآسيا، ترك أثرًا عميقًا على الثقافة المحلية فيها، مما جعل البعض يسميها مدينة المتناقضات إذ تجمع بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب في مزيج إسطنبولي فريد.
يبلغ عدد سكان العاصمة الثقافية 15 مليون نسمة وتتجاوز بذلك التعداد السكاني لـ131 دولة حول العالم من بينها النمسا واليونان وبلجيكا. هذا العدد الكبير من السكان أتى من أعراق وعقائد مختلفة ومن مهاجرين من جميع أنحاء تركيا، فضلًا عن المهاجرين من عدة دول إسلامية وعربية، سيتعرف الطفل على صديقه الفلسطيني والصومالي والأيغوري والكردي والتركي القادم من أقصى الشرق. وتعرف أطفالك على التقاليد والثقافات المختلفة يعني فرص أكبر للتعلم وفهم العالم من حولهم، ويساعدهم على أن يكونوا أكثر انفتاحًا وتقبلًا.
الحياة في إسطنبول ليست مثالية، وليس الأمر أن السماء زرقاء والعصافير تزقزق، المدينة شاسعة لدرجة تشعرك أحيانًا بالغثيان، لكنك ستجد دائمًا بحبوحة من وقتك لاستثمار هذه الجغرافيا الثرية التي لا ينتهي اكتشافها ولا يمكن الاكتفاء من جديدها.
أتمنى أن يكون هذا التقرير أثار حماسك لاستكشاف إسطنبول من جديد برفقة أطفالك والتمتع بجغرافيتها الواسعة المتنوعة وتاريخها العريق. استعن بخرائط غوغل للوصول لأماكن جديدة دومًا، خطط جيدًا للرحلة واستعد للمفاجآت أثناء رحلتك مع الصغار.