في تجربته الإخراجية الأولى يقدم لنا الكاتب والممثل النيجيري شيواتال إيجيوفور واحداً من أفضل الأفلام المبنية على قصة حقيقية ” The Boy Who Harnessed the Wind”، والذي يحكي لنا قصة صبي اسمه وليام كامكوامبا وأنقذ بلدته الصغيرة “ومبي” في مالاوي من الجفاف والمجاعة، حين تمكن بعبقريته التي تجلت مبكراً في اختراع آلة يمكنها استخراج المياه الجوفية وري الأرض الزراعية، مستعيناً بأدوات يدوية وبدائية للغاية لينجح بذلك في مواجهة موجات الجفاف الطويلة التي كانت تضرب مالاوي.
ترتكز قصة الفيلم على كتاب يحمل الاسم نفسه والذي صدر خلال عام 2009 لكاتبه وليام كامكوامبا حيث يحكي فيه قصته الحقيقية؛ كيف نشأ وترعرع مع أسرته الفقيرة في قريته الصغيرة، وقد عُرض فيلم The Boy Who Harnessed the Wind الذي قام ببطولته الممثل ماكسويل سيمبا وشيواتال إيجيوفور للمرة الأولى في مهرجان ساندانس الأمريكي، وذلك قبل أن تبثه مؤخراً شبكة نتفليكس.
قصة الفيلم: العبقرية في مواجهة الفقر والفساد السياسي
منذ المشهد الأول يضعنا الفيلم في مواجهة قوية مع أحداثه؛ نجد أنفسنا في حالة من الغضب والترقب، نظل مشدوهين تجاه الشاشة ولا نحرك ساكناً؛ تبدأ الأحداث بعرض أحوال القرية الصغيرة التي يعيش سكانها ظروفاً قاسية للغاية، فمن ناحية تراجعت الدولة كثيراً عن دعم المزراعين الذين يعيشون أحوال مضطربة، ومن ناحية أخرى تركتهم فريسة سهلة لشركات زراعة وتصنيع التبغ، إذ كانوا يضغطون بشكل مستمر على المزارعين من أجل تجفيف محصولهم، تمهيداً لاستخدام أخشابهم وقوداً وهو مايهدد أرضهم بأن تفقد جميع موانعها الطبيعية ضد الرياح الموسمية الجافة والفيضانات.
سبب لوليام جُرحاً عميقاً في واحد من أفضل مشاهد الفيلم على الإطلاق
وسط كل تلك الظروف المعقدة والقاسية، كانت تعيش أسرة وليام كامكوامبا مع بقية سكان القرية برئاسة زعيمهم المسلم الذي كان يحافظ على وحدتهم ويدافع بشجاعة عن حقوقهم، وكما هي الحال مع كل سكان القرية كان وليام يساعد والده بالزراعة وبالتالي كان مصير عائلته وأمنها الغذائي وأسباب استمرارها وبقائها مرهون بهطول المطر، وبالإضافة إلى مساعدة والده في أعمال الزراعة كان وليام يقوم بإصلاح أجهزة الراديو المعطلة كي يدر دخلاً إضافياً للعائلة، وفي نفس الوقت كان يذهب للمدرسة أيضاً ولكنه فُصل منها لاحقاً لأن والده لم يتمكن من سداد المصروفات المدرسية، الأمر الذي سبب لوليام جُرحاً عميقاً، إذ طرده المدير من المدرسة ونهره أمام أصدقائه في واحد من أفضل مشاهد الفيلم على الإطلاق.
الملامح الأساسية للواقع الاقتصادي والسياسي في مالاوي
ذكرت مؤسسة اليونسيف الدولية بأن أزمة الغذاء المستمرة في ماولاي تؤثر على أكثر من 4 مليون شخص، ويشكل إجمال عدد النساء الحوامل والأطفال ممن هم دون سن الخامسة أكثر من مليون منهم، والحقيقة أن الأثر السلبي لانعدام الأمن الغذائي لا يقتصر على سوء التغذية فقط ولكن يمتد ليساهم في زيادة نسبة خطر الإصابة بالأمراض مثل الإيدز والكوليرا، كما تضيف المؤسسة أن أزمة الغذاء في مالاوي من أعلى المعدلات في العالم، وتشكل التهابات الجهاز التنفسي الحادة والملاريا والإسهال ونقص النمو الناتج عن سوء التغذية تهديداً قاتلاً؛ إذ تشير الإحصائيات إلى أن فيروس نقص المناعة المكتسب “الإيدز” يصيب مليون شخص منهم 83 ألف طفل.
ووفقاً لتقديرات البرنامج الغذائي التابع للأمم المتحدة، تعد مالاوي أكبر ضحية للجفاف؛ فبسبب تأخر الأمطار تبدأ زراعة محصول الحبوب في وقت متأخر عن المعتاد، وبالتالي يتضرر صغار المزارعين بشكل كبير، فعلى سبيل المثال وخلال عامي 2014 و2015 انخفض حصاد الحبوب في مالاوي بنسبة 24% عن متوسط الخمس سنوات الماضية وعانى حينها 2.8 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي.
وبالحديث عن الواقع السياسي في مالاوي، يمكن القول بأن هذه الدولة تملك تاريخًا كبيراً من فساد السلطة السياسية؛ فمنذ تأسيس الديمقراطية متعددة الأحزاب في البلاد خلال عام 1994 يوجه إلى رؤساؤها تهماً بالفساد؛ فعلى سبيل المثال وُجهت إلى الرئيس باكيلي مولوزي تهمة سرقة 12 مليون دولار أثناء وجوده في السلطة منذ (1994-2004)، كما تعرض “بينجو وا موثاريكا” لاتهامات وشكوك بأنه ضم لثروته الشخصية مبلغ 84 مليون دولار في الفترة التي قضاها في منصبه (2004-2012) واتُهمت “جويس باندا” بإساءة استخدام السلطة وغسل أموال على مدار عامين تولت خلالهما السلطة، وقد جاء القبض على باندا على خلفية فضيحة فساد كبيرة استولى فيها مسؤلين بارزين في الحكومة على ملايين الدولارات من خزانة الدولة، وفي أواخر عام 2018 طالبت المعارضة السياسية في مالاوي باستقالة الرئيس الحالي بيتر موثاريكا، وذلك على خلفية اتهامه بتلقي رشوة في إطار عقد حكومي بلغت قيمته 4 مليون دولار.
الفتى الذي سخر الريح وصناعة الأفلام العلمية
عادة ما تعالج السينما الأحداث التي يمر بها المجتمع، ولكن الأفلام العلمية بشكل خاص تركز في جانب منها على معرفة تفاصيل الحدث العلمي إلى الحد الذي جعله يصنع فارقاً، والحقيقة أن السينما العالمية قدمت عدداً كبيراً من الأفلام العلمية التي حكت لنا قصصاً علمية حقيقة ممزوجة بحياة مبتكريها، ومن خلال تلك الأفلام تعرفنا على حياتهم الشخصية وانجازاتهم العلمية ودوافعهم الإنسانية وراء اختراعاتهم العبقرية، ومن أشهر الأفلام العلمية التي قدمتها السينما: Gorillas in the mist الذي يحكي قصة عالمة الحيوان ديان فوسي، وفيلم A beautiful mind الذي يتناول قصة حياة عالم الرياضات الشهير جون ناش، وأيضا فيلم Creation الذي يأخذنا في رحلة طويلة مع قصة بحث العالم تشارلز داروين عن نظرية التطور.
ومن خلال هذا الفيلم نتعرف عن قرب شديد على مشروع وليام: طاحونة الهواء التي ولدت الكهرباء، ماهي المواد التي استخدمت وكيف استخدمت وعملية التركيب كيف تمت وماهي دوافعه الإنسانية لتلك التجربة، وفي النهاية نرى عن قرب شديد نجاح التجربة، وعليه ففكرة الفيلم العلمية هي كيفية استخدام طاقة الرياح لتوليد الكهرباء.
براعة التصوير والإخراج في الفيلم
الحقيقة أن البيئة الإفريقية كانت دائماً وأبداً شديدة الثراء ومفضلة للكاميرا السينمائية، فمن غير التفوه بالكثير من الكلمات تنقل لنا البيئة شديد القسوة وشديدة الجفاف كل شيء، والحقيقة أن تحركات الكاميرا منذ المشهد الأول كانت إبداعية، فقبل أن نعرف أي تفاصيل عن أبطال الفيلم شاهدنا معاناتهم في الأرض الجافة والشمس الحارة تحرق رؤوسهم. الحوار كان بديعاً وسلساً وإدخال اللغة المحلية في نسيج الفيلم جعل العمل أقرب للواقعية.
كما نجح وليام بأبسط الإمكانيات في إحياء الأمل بقريته نحن أيضاً يمكننا التفاؤل بأن السينما يمكن أن تفاجئنا بأفلام تُصنع بشكل جميل
وبالنسبة لأداء الأبطال فقد كان مذهلاً، وعلى الرغم من أن معظم أبطال العمل ليسوا محترفين، إلا أنهم أدوا أدوارهم بشكل متمكن. كان الحزن واليأس يسيطر على ملامحهم بشدة في أغلب أحداث الفيلم، وبدا عليهم الإرهاق والجوع حتى مشيتهم كانت منحنية وتنم عن تعب وإنهاك شديدين، ولكن في مشهد النهاية تبدلت تلك الملامح بشكل قوي، وكان تمثيلهم صادقاً للغاية في التحول من اليأس للفرحة العارمة والأمل مع انهمار قطرات المياه الأولى، وقد ساعدهم على هذا الأداء الصادق الموسيقى التصويرية المذهلة للعمل.
فيلم The Boy Who Harnessed the Wind يحكي قصة من خلال أسلوب بصري بديع للغاية ولغة سينمائية موحية وبسيطة وتدفق في الإيقاع وسلاسة في السرد، مع إحاطة قوية بكل الجوانب الفرعية وربطها بالسياق الأصلي للفيلم، ويخبرنا الفيلم بشكل غير مباشر أنه وكما نجح وليام بأبسط الإمكانيات في إحياء الأمل بقريته، نحن أيضاً يمكننا التفاؤل. يمكن أن تفاجئنا السينما بأفلام تُصنع بشكل جميل بعيداً عن الإبهار والبذخ، فوسط كل الإنتاجات السينمائية الضخمة لشبكة نتفليكس والحرب المستعرة بين المنتجين والمخرجين على تقديم أعمال فنية تتنافس في استخدام التكنولوجيا الحديثة والمؤثرات البصرية لجذب أكبر عدد من المشاهدين، يأتي هذا الفيلم بهدوء ودون إحداث الكثير من الضجة والصخب ليقدم قصة قوية ومبدعة وجميلة.