حصلت حكومة “مواجهة التحديات” برئاسة حسان دياب على ثقة هزيلة في المجلس النيابي بلغت 63 صوتًا من أصل 84 نائبًا حضروا الجلسة من أصل 128 نائبًا عدد أعضاء المجلس النيابي اللبناني.
وحصل ذلك في ظل تظاهرات واحتجاجات في الشارع رفضًا للحكومة التي اتُهمت بأنها استكمالٌ لنهج الحكومات السابقة التي كانت تتشكل وفقًا لمبدأ المحاصصة الطائفية والمذهبية والسياسية، على الرغم من “انتفاضة” الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول التي كسرت جدران الطائفية والمذهبية والزبائنية السياسية، وطالبت بتشكيل حكومة من أصحاب الاختصاص والكفاءة وبعيدًا عن المحاصصة السياسية ومن المستقلين.
وقد عمد المحتجون والمتظاهرون يوم جلسة الثقة إلى سد المنافذ والطرق المؤدية إلى المجلس النيابي، بل وحاولوا اقتحام المجلس، إلا أن القوى العسكرية والأجهزة الأمنية التي رفعت الجدران الإسمنتية في كل تلك المنافذ تقريبًا، حالت دون ذلك، وسهلت وصول النواب إلى المجلس النيابي للمشاركة بالجلسة وأداء “الواجب الدستوري”.
ظلت الحكومة التي حصلت على الشرعية الدستورية بحاجة إلى الشرعية الشعبية التي فقدتها أمام الشعب اللبناني جراء حركة الاحتجاج الكثيفة والمتواصلة
لقد اعتبر البعض أن الحكومة الجديدة نالت الشرعية الدستورية من خلال ثقة النواب على الرغم من الحديث عن مخالفة دستورية تمثلت بتأخير انطلاق الجلسة عن الموعد الدستوري (تأخير أكثر من نصف ساعة عن الموعد المحدد)، وبانطلاقها بأقل من النصاب الدستوري (نصف عدد أعضاء البرلمان + واحد أي 65 نائبًا)، حيث التحق عدد من النواب بالجلسة بعد انطلاقها بأكثر من نصف ساعة، وقد أثار ذلك جدلًا دستوريًا لناحية دستورية الجلسة من عدمه، سيضاف بالطبع إلى الجدل القائم في البلد على كل شيء تقريبًا.
إلا أن الشيء الآخر الذي لا يقل أهمية أن هذه الحكومة التي حصلت على الشرعية الدستورية ظلت بحاجة إلى الشرعية الشعبية التي فقدتها أمام الشعب اللبناني جراء حركة الاحتجاج الكثيفة والمتواصلة منذ الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019، التي رفضت تكليف دياب، ورفضت لاحقًا حكومته، ورفضت ثالثًا منح الثقة لها، فهي حكومة دستورية إلا أنها فاقدة للشرعية الشعبية حتى إشعار آخر، أو حتى تلبية مطالب المحتجين في الساحات والميادين.
ولكن بعيدًا عن شرعية أو لا شرعية الحكومة، ودستوريتها أو لا دستوريتها، فإن ما حدث يوم جلسة الثقة (الثلاثاء 11 من فبراير/شباط 2020) أعاد إنتاج وتموضع القوى السياسية اللبنانية من جديد بما يشبه الانقسام الذي أصاب لبنان عشية اغتيال الرئيس الأسبق للحكومة رفيق الحريري، في العام 2005، أي قبل نحو 15 عامًا.
فالتصويت على الثقة للحكومة أظهر أن كتل القوات اللبنانية برئاسة سمير جعجع، والحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط، والمستقبل برئاسة سعد الحريري، والكتائب برئاسة سامي الجميل، فضلًا عن كتل أخرى جديدة حجبت الثقة عن الحكومة إما بشكل مباشر من خلال التصويت بـ”لا ثقة” في البرلمان، وإما من خلال التغيب عن الجلسة. وهذه القوى كانت تشكل بعد العام 2005 ما كان يُعرف بـ”قوى الرابع عشر من آذار”، وهي قوى سياسية طالبت حينها بانسحاب الجيش السوري من لبنان، وهو ما حصل في أبريل/نيسان 2005، وناصبت سوريا العداء، واستلمت جزءًا من السلطة (الحكومة) طيلة تلك الفترة التي شهد لبنان فيها محطات تاريخية كادت تنزلق به نحو المجهول أو الحرب الأهلية، ومن ذلك عدوان تموز الإسرائيلي على لبنان في العام 2006 واجتياح بيروت عسكريًا من الفريق الموالي لسوريا في مايو/أيار 2008، وما تمخض عنه بعد ذلك من تسوية الدوحة. وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري في أثناء دخوله لمقابلة الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما عام 2011.
بتنا اليوم أمام فريقين جديدين قديمين من دون تسمية ودون عناوين سياسية
وفي مقابل هذا التصويت لهذه القوى، فقد منحت كتلة “حزب الله” الثقة للحكومة، وكذلك فعلت كتلة التيار الوطني الحر برئاسة صهر رئيس الجمهورية جبران باسيل، وكتلة حركة أمل برئاسة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، إضافة إلى بعض الكتل الأخرى الموالية والحليفة للنظام في سوريا، وهذه الكتل والقوى كانت تنضوي بعد العام 2005 بما كان يُعرف بـ”قوى الثامن من آذار”، وهي كما قلنا قوى حليفة وموالية بشكل عام للنظام في سوريا أو لإيران حاليًّا.
لقد أنتجت جلسة الثقة بحكومة حسان دياب هذا التموضع الجديد القديم، فبتنا اليوم أمام فريقين جديدين قديمين من دون تسمية كما كان سابقًا، ومن دون العناوين السياسية التي كانت سائدة في تلك الفترة، خاصة أن الحكومة الحاليّة برئاسة حسان دياب تُعد حكومة اللون الواحد، أي حكومة فريق الثامن من آذار، إلا أن السؤال الجوهري المطروح حاليًّا في لبنان، هل يعيد هذا التموضع إنتاج الأزمة التي كانت قائمة، والتوتر الطائفي والمذهبي الذي مرت به البلد؟ أم أن هذا الانقسام لن يكون له تلك التداعيات التي سبق ومر بها لبنان؟
كثيرون في لبنان لا يهونون من خطورة إعادة هذا الانقسام العامودي، إلا أنهم لا يتخوفون منه كثيرًا، فالبلد أمام تحديات جديدة غير تلك التي كانت في العام 2005 وما بعده، والعلاقة بين القوى السياسية في كل من الفريقين أو المحورين ليست كما كانت عليه في العام 2005، فهناك الكثير من التناقضات بين الفريق الواحد (كما بين التيار الوطني الحر وحركة أمل)، وهناك أيضًا الكثير من المشتركات بين الفرقاء في كل من الفريقين، فضلًا عن أنه دخل إلى ساحة الميدان هذه المرة فريق جديد وطرف ولاعب مؤثر هو الشعب اللبناني الذي تحرك في انتفاضة الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول خارج أسوار الطبقة السياسية كلها وضدها، وهذا الطرف الجديد قد يكون الضامن الحقيقي لمستقبل البلد إذا أحسن المنخرطون فيه إدارة المرحلة في مواجهة هذه الطبقة التي يعتبرونها مسؤولة عن كل ما وصل إليه البلد من ويلات ومآسي.