ترجمة وتحرير نون بوست
خلال القرن الماضي تباينت الآراء بشأن ثنائية اللغة لتتراوح بين نقيضين، ففي الفترة التي تلت الحرب مباشرة كان هناك اعتقاد بأن عقول الأطفال ستعاني للتعامل مع لغتين (مما يعيق التقدم الدراسي وقد يسبب انفصام الشخصية)، لكن بعد الستينيات اتجهت أبحاث العلماء نحو الطرف الآخر تمامًا، وأصبح هناك اعتقاد شائع الآن بوجود فوائد لثنائية اللغة.
توفي ألبرت كوستا (يتحدث الإسبانية والكتالونية) العام الماضي، ويعد كتابه شهادة عظيمة للبحث الذي عمل عليه طوال حياته بشأن هذا الموضوع، ورغم أن الكتاب يحتوي على كثير من المصطلحات الخاصة بالعلوم العصبية، فمن السهل قراءاته فهو كتاب ذو لغة سلسة وذكي وشخصي ومتوازن، وهو لا يسخر في كتابه من الذين يتحدثون لغة واحدة، لكنه ببساطة يدعونا للتأمل فيما قد يحدث إذا ضاعفنا القدرة غير العادية التي يمتلكها البشر وهي: اللغة.
كانت نتائج البحث مذهلة، فحديثو الولادة (عدة ساعات بعد الولادة) يمكنهم اكتشاف تغير اللغة، وما بين 4 و6 أشهر يصبحون قادرين على التمييز بين لغتين مثل الإنجليزية والفرنسية من خلال رؤية فم المتكلم، وعند 8 أشهر يمكنهم التفريق بين لغتين – من خلال حركة الشفاه – لم يتعرضوا لهما من قبل.
يستطيع المواليد استخراج نظم إحصائية لاستنتاج الوحدات الأساسية للكلمات من خلال تدفق الصوت، وهو ما يطلق عليه “إستراتيجية التقسيم” وذلك باستخدام الاحتمالية الانتقالية (التي تُسمع من خلالها المقاطع الصوتية جنبًا إلى جنب)، معظم هذه النتائج كانت نتيجة وضع أجهزة استشعار في الدمي التي تلتقط انتباه الأطفال وشغفهم بالحداثة.
يمتلك ثنائيو اللغة تحكمًا أكبر في الانتباه ويرجع ذلك إلى قدرتهم على التجاهل اللاواعي لنصف الكلمات في عقولهم طوال حياتهم
لكن التراكم السريع للأصوات عند حديثي الولادة يتضمن ضيق الإدارك، فمع اعتمادهم على المخزون الصوتي للغات يصبحون أقل قدرة على القيام بالأشياء الأخرى، فهناك اعتقاد بأن مخزن اللغات عبارة عن دلو واحد كبير وليس كؤوسًا متفرقة، وعليه يجب أن يكون الطفل ثنائي اللغة قادرًا على تبديل الشفرات وإيقاف لغة وتشغيل الأخرى.
هذا يعني أن ثنائيي اللغة أبطأ وأقل قدرة على الوصول إلى المعجم مقارنة بأحاديي اللغة، فهناك تكلفة التبديل التي تجعل ثنائيي اللغة أبطأ بشكل عام، قد يعتقد البعض أن هذا التأخير قد يكون في اللغة الأضعف، لكنه العكس تمامًا، فتكلفة التغيير غير متماثل وتكون أكبر حجمًا في اللغة المهيمنة.
كان كوستا واضحًا بشأن هذه العيوب الصغيرة، حيث قال: “إنه تعميم، لكن بشكل عام الأفراد ثنائيي اللغة لديهم محصول كلمات أصغر في اللغتين عن أحاديي اللغة”.
لذا من الواضح أنه لا يشيد بعبقرية ثنائيي اللغة، لكنه ذكر بالتفصيل لماذا تختلف عقولهم، حيث قال إن هناك تحيزًا أنانيًا أقل في الأطفال ثنائيي اللغة، كما أنهم أكثر قدرة على رؤية المتاهات بشكل أسهل من وجهة نظر أخرى (هذا الاختلاف يصل إلى 30%)، ولديهم تحكم أكبر في الانتباه ويرجع إلى قدرتهم على التجاهل اللاواعي لنصف الكلمات في عقولهم طوال حياتهم مما يعني أنه أقل تعرضًا للانحرافات والملهيات سواء في التجارب أم الحياة الحقيقية، وبسبب مخزونهم المعرفي الكبير، فإن ثنائيي اللغة أظهروا في بعض التجارب أن إصابتهم بالخرف تتأخر 4 سنوات عمن في نفس المرحلة العمرية من أحاديي اللغة.
بالنسبة لهؤلاء الذين يتحدثون لغة واحدة فما زال لديهم مميزات لتعلم اللغة، يقتبس كوستا مقولة الأديب الشهير جوته: “من لا يعرف لغات أجنبية لا يعرف شيئًا عن لغته”، لكن المميزات لا تتعلق فقط بالعمق الثقافي بل تتعلق بقدرة أفضل على اتخاذ القرارات، فنحن نكون أقل غريزية وتلقائية في اللغات الأجنبية وأكثر قدرة على أن نكون نفعيين وقياديين.
فعلى سبيل المثال عند طرح سؤال: “هل يستحق الأمر أن ندفع رجل أمام القطار لننقذ 5 آخرين”، سنجد أن الإجابات أكثر عقلانية عند طرح السؤال بغير اللغة الأصلية، كما نصبح أقل كراهية للخسارة عندما نقع في مأزق خارج لغتنا الأصلية.
يشعر الناس أحيانًا بالذعر من أن أخلاقهم الصارمة عرضة للتغير وفقًا للكلمات التي نسمعها ونستخدمها، لكن جميع الأبحاث تقول إننا ندرك الأمر بطريقة مختلفة عندما نجاهد بحثًا عن الكلمة المناسبة.
هذا الكتاب رائع ويلخص عقودًا من البحث الأكاديمي دون أن تشعر بالملل، لقد كان كوستا كريمًا مع أقرانه ولطيفًا فيما يتعلق باستخراج نتائجهم، وقد تخلص من بعض المراهنات حيث يجب على المرء أن يقيس كل شيء داخل العقل البشري، لكنه تركنا مع قليل من الشك في أن عقل ثنائيو اللغة مختلف، ربما بنسبة قليل لكن مهمة للغاية.
المصدر: الغارديان