لا يستسيغ الكثير مِنا مطالعة كتب التاريخ الجافة التي تسرد الوقائع والأحداث بشكل يخلو من اللمسة الفنية والأدبية والبُعد الجمالي والبلاغي، ولذلك نعزف – رغم فائدة التاريخ – عن مطالعته، لكن الشعراء والأدباء خلقوا لنا بديلًا توثيقيًا يؤرخ الحقب السابقة ويروي أحداثها بشكل مختلف.
الموصل المفعمة بالأحداث التاريخية طوال القرون الثلاث الماضية سطر أدباؤها نموذجًا واضحًا عن التأريخ عبر الفنون الأدبية المختلفة، رصدت لكم خلال هذه المادة تاريخ الموصل منذ حصار نادر شاه للمدينة عام 1743 وحتى خروج أتباع البغدادي منها عام 2017 عبر نماذج متعددة وأقلام مبدعة ضمنت لنا الاستمتاع الفني بجانب الفائدة التاريخية، ويمكن للمتتبع للنتاج الأدبي الموصلي إلقاء نظرة بانورامية على المدينة وتاريخها عبر الأدب.
حصار نادر شاه 1743
وثق الفقيه الشاعر فتح الله القادري الموصلي في أرجوزة “ملحمة الموصل” دفاع أهل الموصل عن مدينتهم بقيادة الحاج حسين باشا الجليلي ضد هجوم نادر شاه، وتابع التوثيق خليل البصير الموصلي وهو أديب ونحوي وشاعر بأرجوزة سميت “الملحمة”، التي أعاد نشرها المؤرخ سعيد الديوه جي في مجلة المجمع العلمي العراقي.
مخطوطة لمقدمة ديوان عثمان بكتاش الموصلي الشاعر الذي عاصر والي الموصل حسين باشا الجليلي قبل ما يقارب ثلاثة قرون
ونقل لنا الشاعران عثمان بن بكتاش الموصلي وحسن عبد الباقي الموصلي المعاصران لحصار نادر شاه وما بعده من أحداث ومجاعات عبر ديوانهما توثيقًا للأحداث التاريخية للقرن الثامن عشر في الموصل وهو توثيق فني أنيق يؤرخ تلك الحقبة من تاريخ المدينة.
ما بعد الحرب العالمية 1919
قدمت “إيقاظية فيضي” نقدًا لاذعًا لفساد الحياة والدعوة النصوح إلى تلقي العلم على اختلاف ضروبه، حيث يعد سليمان فيضي رائد الأدب النثري الحديث في العراق، إذ بدأه تعليميًا وعظيًا إلا أنه لا يخلو من مسحة فنية واقية، فكانت قصته جسرًا للإبداع الأدبي الجديد الذي عبر من فوقه جيل مبدع.
وتعتبر “إيقاظية فيضي” أول عمل روائي عراقي بالشكل الحديث ورغم أنها لا توثق أحداثًا معينة، فإنها توثق المشاكل الاجتماعية في العراق بشكل عام والموصل كجزء منه عقب الحرب العالمية الأولى.
سليمان فيضي الموصلي رائد القصة الحديثة في العراق
أوقف ذنون أيوب جلّ قصصه على تشخيص وتوثيق الأمراض الاجتماعية كما في مجموعة “الضحايا -1937” ومجموعة “العقل في محنته – 1940″ و”حميات -1941”.
وحفلت القصة الموصلية بالنماذج القصصية التي أخذت هذا المنحى، متوخية الاستفادة من حوادث التاريخ ونتائجها ومن العبر والأمثلة الغنية، ومحاولتها بث روح جديدة في التراث التاريخي تبعده عن الجفاف والملل وتقترب به من أهاب الفن، إلا أنها استطاعت أن تقرّب التاريخ وتقدمه محمولًا في روح عاطفية اتجهت إلى التبشير في إطار التاريخ، كما في روايات سليمان صايغ “يزداندوخت – 1934″ و”جورج يوسف شماني” في روايته “على طريق الجلجلة”.
خمسينيات القرن العشرين وما بعده
برزت القصة الدينية/التاريخية في الخمسينيات وكتب فيها كتاب كثر أبرزهم محمود شيت خطاب الذي أصدر مجموعته القصصية الموسومة “عبث الأقدار”.
انطلق القاص الموصلي في الستينيات من أزمة الحرية وغيابها وانعدام العدالة وتحول الحياة إلى كوابيس تمارسها قوى ضاغطة، ويعرض الكاتب عبد الحميد التحافي لبعض المشكلات الاجتماعية مثل مشكلة المهر المرتفع والطفولة المشردة في “أريد أن آكل”.
لا يختلف زهدي الداودي في مجموعته الموسومة “الإعصار” عن سالفه، إذ اختار شخصيات قصصه من أبناء الطبقات الفقيرة الذين لا يهربون من معضلاتهم بل يواجهونها، ويبث الكاتب معتقداته السياسية بين سطور قصص المجموعة كما في قصة “قرية تحت الإنذار” التي جاءت مقالًا سياسيًا، ينقل فيه استعداد أهل القرية للمحافظة على النظام في أرجائها، أما بقية قصص المجموعة فجاءت ذاتية الطابع تحكي عن دور معلم في القرية.
رواية “الإعصار والمئذنة” للمفكر الإسلامي الموصلي د. عماد الدين خليل
ورغم ذلك جاءت معظم أعمال جلال خياط وحسب الله يحيى ومحمود جنداري زاخرة بتنوع الرؤية والقدرة الفنية على استخدام التقانة الحديث، فقدمت بذلك رؤية إنسانية/اجتماعية استطاع هؤلاء تأصيلها بما يمتلكونه من ثقافة وسعة اطلاع، فكان توثيقًا لحقبة تاريخية.
ومما يؤخذ على الأدب القصصي بشكله الروائي الإسلامي، عدم اكتمال بعض رواياته فنيًا وهو أمر يرجع معظمه إلى افتقاد البعض منه للحدث التام الأبعاد الذي يمكن متابعة بدايته ونموه وتطوره في حين نجح البعض الآخر أن يقدم أدبًا قصصيًا ينأى عن التقريرية والمباشرة في التناول والتقديم، على نحو يؤثر في القارئ كما في رواية “الإعصار والمئذنة” للدكتور عماد الدين خليل، فبأسلوبه المعهود وقدرته على القص استطاع أن يقدم عملًا أدبيا راقيًا لا تخفى قيمته الفنية على أحد والذي أرخ فيه واقعة ثورة الشواف في الموصل عام 1959.
في السبعينيات حاول الدكتور عمر الطالب والدكتور نجمان ياسين أن يتحدث النص عبر منظوماته اللغوية كما يتحدث من خلال مضامينه.
الحرب العراقية الإيرانية والحصار
وصولًا إلى الثمانينيات من القرن الماضي كانت رواية “الحافات” لمحمود جنداري تندرج تحت عنوان رواية السيرة الذاتية، واحدة من روايات التجديد في الأدب العراقي عامة والموصل خاصة، لكنها لم تكن الوحيدة في وقت جاءت فيه رواية “دابادا” لحسن مطلك الروضان الذي كان يعد واحدًا من الأصوات القصصية التي برزت في منتصف السبعينيات.
“دابادا” لحسن مطلك الروضان
واستطاع بجهد ودأب ومثابرة أن يأخذ مكانه من كتاب مشهد الثمانينيات القصصي ولم تبتعد رواية حمد صالح الموسومة “خراب العاشق” عن منحى الذات المعذبة أمام أسئلة الوجود الإنساني، وتحاول أن تحقق الإجابة والتجاوز من خلال مناضلة عوامل القهر والاستلاب والغرابة الذاتية التي توثق بموضوعها سردية لأسئلة الشارع الثقافي الموصلي والعراقي في ذلك الوقت.
وكان للقاص سالم صالح سلطان مجموعتان قصصيتان “إكليل الملك” الصادرة عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في نينوى عام 1996، و”الأسوار البعيدة” عن دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد عام 2001 وتتحدث عن الحصار الأمريكي والموصل القديمة وتعتبر تقديمًا مميزًا للواقع في تلك الحقبة الممتدة تحت سنوات الحصار في تسعينيات القرن الماضي.
ما بعد الاحتلال الأمريكي
ضمن الخطوط العريضة للرواية الموصلية التي تلقي الضوء على المدينة انطلقت الروائية “إيمان اليوسف” في تصويرها في رواية “حارس الشمس” التي فازت بالجائزة الأولى لمسابقة الإمارات للرواية 2016، وما مر عليها عبر زمن يصعب وصفه، إلا أن الموصل كالملكة الآشورية الصامدة التي تفتن أعداءها بسحرها وفتنتها، فوثقت الغزو الأمريكي والاقتتال الطائفي والتهجير.
رواية “مراثي المدينة القديمة” للروائية الموصلية غادة صديق رسول
محنة الموصل الأخيرة كانت بابًا جديدًا للتوثيق الأدبي رغم قسوتها، فقد أرخ الموصليون أحداث سيطرة داعش على المدينة عبر أقلامهم كرواية “شظايا فيروز” للروائي الموصلي نوزت شمدين و”مراثي المدينة القديمة” للروائية غادة صديق رسول وصولًا لرواية “لأنك الموصل” التي صدرت قبل أيام للشابة مياسين محمد.
لعل أبرز ما يجول في الذهن بعد استعراضنا للنتاج الأدبي أعلاه أن قيمة المدن الكبيرة في سرد قصتها بأشكال مختلفة وتوثيقات لا يمكن بسهولة حجبها يجعلنا نقف مطولًا على أهمية هذا الفعل الذي يوثق لنا التاريخ بشكل يصعب إزالة شواهده وبما يحفظ للأجيال القادمة سردية توثق تاريخها بصورة أكثر عدلًا وإنصافًا، بعيدًا عن روايات المنتصرين أو رغبات الحاكمين.