اعتمدت أكثر من مئة دولة حول العالم لعقود من الزمن على أجهزة التشفير من شركة “كريبتو أيه جي” السويسرية، للحفاظ على سرية اتصالاتهم بشكل تام. لكن يُزعم أن وكالة الاستخبارات الأمريكية تمكّنت لعقود من قراءة تلك الاتصالات المشفرة. كانت الشركة السويسرية التي تثق بها الحكومات العالمية في المحادثات الأكثر حساسية منذ أكثر من 50 سنة، مملوكة فعلا لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالشراكة مع دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية، وذلك وفقا لاستقصاء يستند إلى وثائق وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية التي حصل عليها الصحفيون.
في الواقع، كانت عملية روبيكون، كما أصبحت معروفة، ذات طابع صارخ. دفعت الحكومات الأجنبية أسعارا عالية مقابل الأجهزة التي كانت تُستخدم للتجسس عليها من قبل كل من الولايات المتحدة وألمانيا الغربية، وربما الدول القومية الأخرى التي كانت جزءًا مما يعرف باسم تحالف العيون الخمسة والذي يشمل المملكة المتحدة وأستراليا وكندا ونيوزيلندا.
عملية روبيكون: كيف “امتلكت” وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية التشفير
حصلت صحيفة “واشنطن بوست” على معلومات داخلية عن عملية المخابرات المركزية الأمريكية المعروفة باسم روبيكون، حيث أكّد الكشف عن هذه المعلومات حقيقة ما يشاع منذ سنوات عديدة. بعبارة أخرى، أضافت شراكة وكالة الاستخبارات المركزية ودائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية أبوابها الخلفية إلى أجهزة التشفير التابعة لشركة “كريبتو أيه جي” واستخدمتها لجمع المعلومات الاستخباراتية على مدار السنوات.
علاوة على ذلك، جُمعت المعلومات الاستخباراتية، على ما يبدو، عن الأعداء والحلفاء على حد سواء، واستنادا لتقرير وكالة الاستخبارات الأمريكية الذي استشهدت به صحيفة “واشنطن بوست”، فإن عملية روبيكون كانت بمثابة “الانقلاب الاستخباراتي لهذا القرن”. من ناحية أخرى، قد تبدو فكرة وجود دولة قومية قادرة على إحداث ثغرات أمنية في أجهزة الاتصالات التي تسمح بالتنصت على محادثات حساسة ومشفرة بدرجة عالية مألوفة.
وقد تلخّصت حجة الحكومة الأمريكية في منع استخدام أجهزة الاتصالات التي تنتجها شركة هواوي. في الواقع، يجري في الوقت الراهن الكشف على نطاق واسع عن حقيقة أن الولايات المتحدة لديها على ما يبدو “دليلا” على قدرة هواوي على القيام بذلك.
الدليل الأكثر تفصيلا لعملية روبيكون حتى الوقت الراهن
ظهرت فكرة استخدام الأبواب الخلفية في أجهزة تشفير شركة “كريبتو أيه جي” بشكل متكرر على مر العقود، ويعود التقرير الأول الذي عُثر عليه إلى سكوت شاين وتوم براون في صحيفة “بالتيمور صن” في سنة 1995. ومع ذلك، كانت هذه التقارير تستند إلى الإشاعات، وقد قدّم التحقيق الذي أجرته صحيفة “واشنطن بوست” تفاصيل أدق إلى جانب تاريخ وكالة المخابرات المركزية المفصّل للأحداث حتى الآن باستخدام وثائق “سرية” مسربة.
كانت مصر من بين المشترين، وهو ما مكّن الولايات المتحدة على ما يبدو من مراقبة الاتصالات بين أنور السادات والقاهرة خلال اجتماع السلام بين مصر وإسرائيل في اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1978
حيال هذا الشأن، أشار هذا التاريخ إلى أن الشركة قد تم شراؤها سرا من قبل وكالة المخابرات المركزية دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية في سنة 1970، حيث باعت دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية حصتها إلى الولايات المتحدة في وقت ما في أوائل التسعينات، وخلص تحقيق صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن وكالة الاستخبارات المركزية ربما تمكّنت من استغلال الأبواب الخلفية لشركة “كريبتو أيه جي” حتى سنة 2018 عندما بيعت الشركة في نهاية المطاف إلى مشترين من القطاع الخاص.
استفادت الولايات المتحدة من المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها من الاتصالات الأرجنتينية خلال حرب الفوكلاند
في الوقت نفسه، اشترت أكثر من مئة حكومة في جميع أنحاء العالم، وربما نحو 120 حكومة، وشغّلت الأجهزة المجهزة بأبواب خلفية إلا أن الصين والاتحاد السوفياتي، في ذلك الوقت، لم تكونا من بين المشترين. ومع ذلك، كانت مصر من بين المشترين، وهو ما مكّن الولايات المتحدة على ما يبدو من مراقبة الاتصالات بين أنور السادات والقاهرة خلال اجتماع السلام بين مصر وإسرائيل في اتفاقيات كامب ديفيد سنة 1978.
بالإضافة إلى ذلك، كانت إيران من بين المشترين، وقد استغلت الولايات المتحدة هذا الأمر خلال أزمة الرهائن سنة 1979. ووفقا لما كشفه التقرير، استفادت الولايات المتحدة من المعلومات الاستخباراتية التي حصلت عليها من الاتصالات الأرجنتينية خلال حرب الفوكلاند، وكانت الهند والعراق ونيجيريا وباكستان والمملكة العربية السعودية وسوريا والفاتيكان من بين الدول الأخرى المتعاملين مع الشركة أيضا.
في هذا الصدد، ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أنه لم يكن لأي شركة من الشركات التي اشترت أصول شركة “كريبتو أيه جي” “المفككة” في سنة 2018 أي “اتصال مستمر بأي جهاز استخبارات”. من جهتها، بدأت الحكومة السويسرية تحقيقًا في التقارير، بعد أن اطّلعت لأول مرة على الكشف في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 2019.
وجهة نظر خبير الاستخبارات العسكرية
من جهته، صرّح فيليب إنغرام، العقيد السابق في مديرية الاستخبارات العسكرية البريطانية، بأن “أجهزة الاستخبارات من أي بلد التي وتستخدم الشركات القانونية كواجهة تعدّ وسيلة مستخدمة لسنوات عديدة. لا يعدّ التعاون الدولي على أساس ثنائي مرة أخرى بالأمر الجديد. ولكن الأمر المثير للاهتمام يتمثّل في حقيقة أن هذه العملية تجمع بين ألمانيا والولايات المتحدة في وقت كانت فيه الولايات المتحدة الرائد الرئيسي للتشفير”.
هذا الكشف يتماشى تمامًا مع رغبة مجتمع الاستخبارات الأمريكي في تشفير الخلفية التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية
وأضاف إنغرام: “بينما كان التشفير في بداياته يخضع لسيطرة الحكومات ويخضع لنفس القيود المفروضة على تصدير الأسلحة، في سنة 1977، إلا أنه وقع نصّ قانون لوائح الاتجار الدولي بالأسلحة في الولايات المتحدة لإثارة المخاوف بشأن نشر وتوزيع أبحاث التشفير، ومع تنامي هشاشة احتكار التشفير الذي تقوده وتملكه الحكومة مع تطوير التشفير التجاري، سوف تبذل وكالات الاستخبارات كل ما في وسعها لمحاولة الحفاظ على توازنها. إن تدهور الأوضاع، حتى ولو لفترة قصيرة من الزمن، من شأنه أن يشكل كابوس الوكالات الأسوأ على الإطلاق”.
في سياق متصّل، صرّح إيان ثورنتون ترامب، كبير موظفي أمن المعلومات في شركة “سيجاكس” وعضو سابق في فرع المخابرات العسكرية للقوات الكندية، بأن الكشف “يتماشى تمامًا مع رغبة مجتمع الاستخبارات الأمريكي في تشفير الخلفية التي يعود تاريخها إلى الحرب العالمية الثانية”. وأضاف ثورنتون-ترامب أنه بالإمكان الاعتقاد أنه بإمكانك إنفاق “ملايين من الدولارات” لاختراق التشفير على غرار جهود الحلفاء في ذلك الوقت مع آلة إنجما.
في الحقيقة، يعد حجم الطلبيات أقل تكلفة للتشفير “الاستثنائي” على مستوى سلسلة الإمدادات”. تبدأ المشاكل عند محاولة التصرف بناءً على تلك الاستخبارات، في هذا الصدد، أورد ثورنتون-ترامب أنه “عندما يكون لديك معلومات استخباراتية جيدة حول أمر سيء على وشك أن يحدث، على الرغم من أنه يمكن مواجهته، لا يمكنك الكشف عن مصدر المعلومات السري الذي أنشأته. تاريخيا، قال ثورنتون-ترامب إنه ينبغي استخدام الدخول السري على هذا النحو في نطاق قدرات محدودة للغاية. وخلص إلى أن “معرفة كل الأشياء، لا يعني أنه يمكنك التصرف في كل الأشياء”.
المصدر: مجلة فوربس