على امتداد التاريخ البشري، عرف الإنسان الكثير من الأوبئة الفتاكة الّتي أدت إلى مقتل الكثير من الناس ووصلت إلى حد الإبادات الجماعية في بعض الأوقات، والوباء: هو حدوث الكثير من حالات الاصابة غير المتوقعة في منطقة معينة أو ضمن فئة محددة من الناس على مدى فترة زمنية معلومة، وذلك حسب مركز مكافحة الأمراض واتقائها.
تعاني البشرية اليوم من احتمالية انتشار فيروس عالمي كبير (الكورونا) الذي يهدد حياة الكثير من الناس، فقد أجرى باحثون في مركز جونز هوبكنز للأمن الصحي محاكاة حاسوبية وكانت نتيجتها أن الفايروس قد يقتل 65 مليون شخص خلال 18 شهرا. سنبيّن هنا أشهر هذه الأوبئة التي فتكت بالجنس البشري عبر التاريخ، وكيف تخلص العالم من بعضها.
الطاعون
ظهر الطاعون في مرات عديدة وبمناطق متفرقة من أنحاء الكرة الأرضية، ولعلّ أبرز أنواعه الطاعون الأنطوني الذي بدأ في سنة 165 ميلادي في ذروة قوة الدولة الرومانية في تلك الفترة، واستمر حتى عام 180 ميلادي. بينما حدثت الموجة الثانية من المرض في عام 251 إلى 266 ميلادي.
يعتقد الكثير من المؤرخين أن الطاعون كان العامل الرئيسي في ضعف وإنهاء الدولة الرومانية في ذلك الوقت، إذ يظن البعض أن الطاعون قد جاء من الصين وانتقل عن طريق التجارة إلى الدولة الرومانية، نتيجة لنبش مقبرة، مما أدى إلى تفشي المرض. إجمالًا، يقدر عدد القتلى بخمس ملايين شخص في مجمل أنحاء الإمبراطورية الرومانية .
وبحسب التقديرات، يشار إلى أن المرض قد قتل 2000 شخص يوميا في ذروته في الفترة الأولى، وكان الرقم أكبر بكثير في المرة الثانية حيث أنه قتل أكثر من 5000 شخص يوميا في فترات معينة.وكانت أعراض هذا المرض توصف بأنها حمى وإسهال وقيء وعطش وسعال تؤدي إلى الموت في النهاية.
أما الوباء الثاني، فقد حدث في عهد الإمبراطور جستنيان ولذلك يسمى باسمه، طاعون جستنيان. وصل إلى القسطنطينية (إسطنبول حاليا) قادما من صعيد مصر عن طريق السفن المحملة بالقمح ومنتجات أخرى كانت مرتعا مناسبا لتكاثر البكتيريا في عام 542. واستمر حوالي 250 عام أي حتى عام 750 للميلاد.
أصاب الطاعون نصف عدد سكان قارة أوروبا في ذلك الوقت، وسهلت الحروب والتجارة انتشاره في القارة العجوز. يصف المؤرخون أعراض المرض بأنها عبارة عن أوهام وكوابيس وحمى وتورمات في مناطق مختلفة من الجسم تؤدي في النهاية إلى هلاك الشخص.
وصل المرض للكثير من الأشخاص حتى أنه أصاب الامبراطور بنفسه ولكنه لم يمت كما عانت الكلاب والقطط من نفس المرض وهلكت من دون أي مراعاة للقواعد الصحية في دفنها، مما ساهم أيضا في تفشي المرض بسرعة أكبر.
أدى انتشار الطاعون إلى ضعف الإمبراطورية البيزنطية سياسيا واقتصاديا وعسكريا، فتعطلت التجارة بشكل شبه كامل وانهارت الزراعة. يقول بروكيوس في كتابه التاريخ السري بأنه كان يموت 10 آلاف شخص يوميا في القسطنطينية وحدها في ما يرى آخرون بأنها كان خمس آلاف حالة وفاة يوميا، وتقدر أعداد القتلى بالإجمال في القارة الأوروبية بحوالي 25ـ50 مليون شخص.
يعتقد العلماء أن التغذية المناسبة في مجتمعات الطبقة المتوسطة والغنية ساهمت في مواجهة المرض.
وأخيرا الموت الأسود أو الطاعون والذي اجتاح أوروبا أيضا في القرن الثالث عشر في عام 1347 إلى عام 1352، وأدى إلى مقتل حوالي الثلاثين مليون إنسان في القارة، حيث انتقل من أواسط آسيا إلى جزيرة القرم عن طريق المغول وانتقل بعدها إلى جنوب إيطاليا على متن سفن قادمة عبر البحر الأسود وترك أثره الاقتصادي ومن ثم الاجتماعي على أوروبا، فبسبب تناقص أعداد المزارعين وقلة عدد المحاصيل طالب المجتمع بإنهاء حالة العبودية للاستفادة أكثر من طاقتهم في الزراعة.
كما أن المرض أصاب الأبقار والأغنام والخنازير وغيرها من المواشي وأدى إلى نفوقهم وبالتالي ازداد حجم المشكلة. يقدر المؤرخين أنّ أوروبا لم تتعاف جراء هذا الوباء إلّا بعد مرور 200 عام منه.
أما عن طريقة مواجهة الطاعون، فلم يكن هناك طريقة متبعة بحد ذاتها ولكن في الكثير من الأوقات حرقت الجثث ودفنت في أعماق الأرض وهذا بطّئ كثيرا من عملية انتشار المرض، ويعتقد العلماء أن التغذية المناسبة في مجتمعات الطبقة المتوسطة والغنية ساهمت في مواجهة المرض وقام بعض الأطباء في العصور الوسطى بمحاولة علاج المرض عن طريق اراقة الدماء وغيرها من الطرق التقليدية مع عدم الفهم المباشر لكيفية علاج المرض.
كذلك يظن الكثير من العلماء أنّ التطور الجيني ساعد كثيرا في مواجهة المرض، فقد لوحظ أن الاجيال الّتي أتت بعد مرحلة الطاعون قد كانت تحمل مواجهة جينية لمواجهة المرض، وبالتالي قلت أعداد المصابين، أما العلاج الفعلي فلم يكتشف إلا في بدايات القرن العشرين، حيث عولج بالمضادات الحيوية وأصبح الشفاء منه يعتمد على الوقت فقط وبذلك تم القضاء رسميا على الطاعون الذي هدد ملايين البشر على مر التاريخ.
الكوليرا
الكوليرا عدوى حادة تسبب الإسهال وقادرة على أن تودي بحياة المُصاب بها في غضون ساعات إن تُرِكت من دون علاج، يصاب سنويا 1.3 مليون إلى 4 مليون شخص سنويا ويتسبب بمقتل 21 ألف إلى 143 ألف حسب منظمة الصحة العالمية سنويا، وبالرغم من هذه الاصابات الكثيرة إلّا أن صفة وباء لم تطلق عليه إلا في بداية القرن التاسع عشر، حيث ضرب الهند في دلتا نهر الغانج في عام 1817 وانتشر في ميانمار وسيرلانكا بسبب الطرق التجارية ونقل الضائع، وتابع انتشاره وصولا إلى اندونيسيا وتايلاند والصين كما حملته القوات البريطانية إلى عمان وصولا لتركيا وسوريا.
كانت نهايته بعد 6 سنوات من بدايته أي في عام 1823 ويرجع العلماء ذلك الانحسار إلى الطقس شديد البرودة الذي ضرب الهند وأدى إلى هلاك البكتيريا المسببة للمرض.
المياه الملوثة كانت السبب الرئيسي في انتشار المرض، فحاولت بعض الحكومات جعل مياه الصرف الصحي تصب خارج المدن كما قاموا بتصفيتها قبل شربها
أما الموجة الثانية من المرض فكانت في عام 1830، حيث يعتقد أنه بدأ أيضا في الهند وانتشر إلى روسيا ومنها إلى أوروبا وصولا إلى أمريكا، ولا توجد إحصائيات دقيقة عن عدد القتلى والمصابين جراءه، ولكنه سجل ألف حالة وفاء في مدينة كيبيك الأمريكية، ليعاود المرض ظهوره فيما يعرف بالموجة الثالثة التي كانت الأسوء بين كل الموجات فقد وصل عدد الوفيات إلى مليون نسمة.
استطاع الدكتور جون سنو من تتبع طريقة انتشار المرض واستنتج أن المياه الملوثة كانت السبب الرئيسي في انتشار المرض، فحاولت بعض الحكومات في أوروبا وأمريكا من جعل مياه الصرف الصحي تصب خارج المدن، كما قاموا بتصفيتها قبل شربها، إلا أن الاقتناع السائد بأنّ الأمر كان نتيجة عقاب الهي، حال دون مواجهة المرض بطريقة جيدة وفعالة وسريعة لينحسر أخيرا في عام 1960.
إنفلونزا 1889
يطلق عليها الإنفلونزا الآسيوية أو الروسية، بدأت في أواسط آسيا من بخارى وتركستان وصولا إلى أوروبا عبر روسيا، وساعد التطور الكبير والانفجار السكاني وسهولة التنقل في نهاية هذا القرن في انتشار هذا المرض بشكل كبير، وكانت أعراضه كأي إنفلونزا عادية؛ ارتفاع بدرجات الحرارة يرافقها وهن كبير.
يقدر عدد ضحاياه بمليون نسمة، توزعت على كافة أنحاء العالم، وقد كانت التغذية السليمة وعزل المريض الطرق الوحيدة المتبعة في مواجهته.
إنفلونزا 1918
بعد الحرب العالمية الأولى وماخلفته من ضحايا وجرحى وتغييرات كبيرة في الخريطة الجيوسياسية في العالم، ضرب العالم مرض جديد سمّي بإنفلونزا 1918. الأمر الغريب في هذا المرض أنه كان يقتل الشباب أكثر مما يقتله من الأطفال، حيث بدأ المرض في إسبانيا وانتشر في الكثير من بقاع العالم؛ من أوروبا إلى آسيا ثم أفريقيا.
اختلفت معدلات الوفاة من منطقة إلى أخرى، فمثلا كانت معدلات الوفيات في أفريقيا وآسيا أعلى بكثير من أوروبا، فقد كانت نسبة الوفيات 0.4 بالمئة في الدنمارك و1.2 بالمئة في دولة مثل المجر، حتى أنّ الأوضاع الاقتصادية لطبقات المجتمع المختلفة ألقت بظلالها على انتشار المرض، ربما لأنّ المناطق الأكثر رفاهية كانت تتمتع برعاية صحية أكثر بكثير من غيرها من الطبقات الأخرى.
لا يوجد علاج بحد ذاته يستطيع قتل الفيروس، ولذلك اعتبرت التغذية السليمة وتعزيز مناعة الجسم باستخدام بعض اللقاحات الطرق الوحيدة لعلاجه.
كانت أعراض المرض تشبه الإنفلونزا العادية إلى حد ما، بالإضافة إلى تحول الوجه إلى اللون البني الداكن، وبعدها إلى اللون الأزرق، وثم الأسود والوفاة في نهاية الأمر. خلف هذا المرض ملايين القتلى، إذ يقال أن المرض فتك بحياة مليون شخص، كما أنه قتل في الهند وحدها 12.5 مليون إنسان.
أما بالنسبة إلى سبل التصدي إلى المرض، فكما جرت العادة مع أي مرض فيروسي آخر لا يوجد علاج بحد ذاته يستطيع قتل الفيروس، ولذلك اعتبرت التغذية السليمة وتعزيز مناعة الجسم باستخدام بعض اللقاحات الطرق الوحيدة لعلاجه.
الملاريا
مرض تسببه طفيليات من فصيلة المتصورات التي تنتقل بين البشر عن طريق لدغات حشرات صغيرة، أهمها البعوض، وأبرز أعراضه: الحمى المرتفعة والرجفة والتقيؤ وما نزال حتى يومنا هذا نعاني من تبعات هذا المرض، ففي عام 2016 سجلت 212 مليون إصابة و429.000 ألف من الوفيات.
تركز المرض في منطقة جنوب الصحراء الكبرى الأفريقية، غير أنه انتشر في منطقة الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية التي ما تزال تعاني من هذا المرض إلى الآن، لعدم وجود لقاح للإصابات الطفيلية، وعلى ذلك فإن الطريقة الوحيدة لمواجهة هذا المرض تكون عن طريق مكافحة هذه النواقل أو الحشرات.
ماذا بعد؟
أصيبت البشرية بكثير من الأوبئة والأمراض الأخرى، فعلى وجه التعدد لا الحصر، كان هناك وباء منشوريا الذي قتل مايزيد عن 60 ألف إنسان في الصين، ووباء الحمى الصفراء في منطقة فلاديلفيا في أمريكا والذي وصل بسببه عدد الوفيات اليومية إلى مئة حالة، إضافة إلى طاعون مرسيليا الذي قتل مئة ألف شخص آخرين، كما كان هناك الكثير من الأمراض التي استطاعت البشرية التغلب عليها بعد تسببها بحصاد آلاف الارواح على مر التاريخ مثل: الجدري وشلل الأطفال والملاريا في بعض المناطق.
وفي القرن العشرين فقد عانت البشرية من أمراض لا تقل خطورة عن تلك، إلا أنها لم ترقى لمصطلح الوباء لعدم انتقالها بشكل مباشر عن طريق اللمس او التنفس، مثل الإيدز أو مرض نقص المناعة المكتسبة، الذي تم اكتشافه عام 1983 وهو مرض فيروسي يهاجم الخلايا المناعية في الجسم ويجعل الجسم غير قادر على مواجهة أي فيروس أو جرثوم يصيبه.
أما الآن وأمام واقعنا الحالي، وبعد أن أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة الطوارئ، تطفو على السطح بعض الأسئلة بإلحاح، فهل سنتحدث في السنوات المقبلة عن وباء قتل الملايين من الناس ودمر الاقتصاد العالمي وساهم بانهيار دول كبيرة؟ أم أنّ الأمر سيمر كما مرّ من قبله مرض إنفلونزا الخنازير الذي استطاع الإنسان إيقاف خطره في مطلع هذا القرن؟ أم هل سيستطيع العلماء في المخابر إنتاج لقاح يوقف هذه الهجمة الشرسة من هذا الفيروس المجهري، كما حدث في السنوات الماضية؟