أعاد الاعتداء الأخير على أفراد من أهالي قرية المنورة بولاية الجزيرة السودانية الضوء من جديد على قضية الكنابي التي تنتظر الحل منذ عقود زادت في آلامها، حتى شُبهت بحال العبيد المحررين في جنوبي الولايات المتحدة إبان الفصل العنصري، على أن العمال هنا أفارقة والمُلاك أيضًا أفارقة لكنهم “بثقافة بيضاء”.
الكنابي ومشروع الجزيرة
كان العام 1925 محوريًا في تاريخ الاقتصاد السوداني حيث أعلنت سلطات الحكم الإنجلومصري افتتاح مشروع الجزيرة الزراعي في وسط شمال السودان بين النيلين الأبيض والأزرق، أكبر مزرعة مروية في العالم.
خُصص المشروع لزراعة القطن أولًا وكان يمد مصانع مانشستر بالذهب الأبيض السوداني، وأولته السلطات أهمية عظمى حتى أنشات له سكة حديد خاصة به، وتوسع المشروع من 22 ألف فدان عام 1924 إلى مليون فدان عام 1943، ومع إضافة امتداد المناقل (1958) بلغت المساحة الكلية للمشروع 2.2 مليون فدان وتنوعت محاصيله، ممثلًا العمود الفقري للاقتصاد السوداني.
عدمُ كفاية اليد العاملة المحلية لزراعة هذه المساحات الضخمة من الأفدنة أوجد الحاجة إلى العمال الزراعيين من مناطق مختلفة في البلاد، وهكذا بدأت العمالة موسمية وانتهت إلى الاستيطان الدائم، وأكثر هؤلاء من قبائل زنجية من غرب السودان، وهم من عرفوا لاحقًا بالكنابي وهي كلمة مشتقة من المعسكرات التي كانوا يقيمون فيها والمسماة كونبو أو كومبو أخذًا من كلمة camp أي معسكر بالإنجليزية.
هذه المعسكرات أقامتها السلطات الإنجليزية في البداية مساكن مؤقتة لهؤلاء العمال، وهي على ثلاثة أنواع: كنابي قريبة من القرى، وأخرى بالقرب من وحدات التفتيش الزراعي، وثالثة بالقرب من قنوات المياه. ولم يقتصر حضور هذه المجموعات على مشروع الجزيرة بل هاجرت أيضًا إلى مشاريع حلفا الجديدة (1963) والرهد الزراعي (1977) والسوكي الزراعي (1970)، بسبب توفر فرص العمل هنالك وغياب مشاريع التنمية في أقاليمهم، بالإضافة إلى موجات الجفاف التي ضربتها.
تعاني الكنابي من العزلة الاجتماعية نتيجة النزاعات مع المزارعين عرب الجزيرة حول ملكية الأراضي والاستفزازات العنصرية
دورهم في المشروع
على الرغم من صعوبة الوصول إلى رقم دقيق للكنابي فإنه وفق تقديرات الأمين العام لمؤتمر الكنابي جعفر محمدين فإن العدد يصل إلى 2095 كومبو، في حين يصل عدد سكانها إلى 2.495.000 نسمة من إجمالي سكان ولاية الجزيرة البالغ عددهم 5 ملايين.
وقام هؤلاء بدور كبير في المشاريع الزراعية المذكورة، ووفقًا للناشط الكنباوي محمد علي مهلة فإنهم يمثلون في مشروع الجزيرة المناقل، على سبيل المثال، الفئة الكبرى بين فئات العاملين. وقد وصفهم المسؤول الإداري الإنجليزي قديمًا “بأنهم لا يمكن الاستغناء عنهم من الناحية الاقتصادية”، مضيفًا: “من دون أن يقوم العمال القادمون من غرب السودان بمهام معينة فإنه لن هناك قطن لتصديره”.
معسكرات العدم!
رغم هذه الأهمية الفائقة لدور الكنابي فإنهم في المقابل يعيشون في قرى تفتقر إلى أبسط الخدمات كغياب الكهرباء ومصادر مياه الشرب الصحية، بجانب تفشي الجهل نتيجة تدني نسب التعليم لغياب المدارس واضطرار أفراد الأسرة إلى العمل نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية، والمعاناة تزداد في القطاع الصحي إذ بجانب غياب المراكز الطبية يؤدي تدني الوعي الصحي بكيفية التعامل السليم مع المبيدات والأسمدة إلى انتشار السرطانات والفشل الكلوي.
كما تعاني الكنابي من العزلة الاجتماعية نتيجة النزاعات مع المزارعين عرب الجزيرة حول ملكية الأراضي والاستفزازات العنصرية. ولخص بيان لمؤتمر الكنابي معاناتهم في نقاط رئيسية منها: القهر والتهميش، و التعسف والمحسوبية والمحاباة في الخدمة المدنية، و استبعادهم من المشاركة السياسية ومراكز صنع القرار، و الاستعلائية والنظرة الدونية الممنهجة من قبل الحكومات، بالإضافة إلى تهديم القرى وإحراقها وتهجير سكانها وصولًا إلى قتل بعضهم.
وقد أدى كل هذا بجانب تدهور أوضاع مشروع الجزيرة بشكل كبير إلى هجران الكثير من شباب الكنابي لقراهم بحثًا عن العمل في المدن ومناجم الذهب، ومنهم من انضم إلى الحركات المسلحة الدارفورية.
هذه الدائرة المغلقة من أصحاب النفوذ عملت على تقاسم ثمار السلطة في العهدين المذكورين، مستثنية من ذلك بقية الشرائح الاجتماعية من سكان البلاد
وهذه الانتهاكات بحسب الناشطين الكنباويين يتحالف فيها المجتمع المحلي والدولة التي يتفاوت دورها بين الشريك الصامت والفاعل الأصلي، ومن ذلك محاولة الحكومة ترحيل سكان كمبو السمير بعد أن باعت الأرض لمستثمر معروف، في حين أن السكان كانوا قد اشتروها منذ السبعينات لكن ارتفاع قيمة الأرض بعد إقامة مشروع المدينة المحورية أغرى الحكومة بذلك، وفي أبريل/نيسان 2018 قامت الأجهزة الأمنية والشرطية بمداهمة منازل المواطنين في كمبو أفطس بولاية الجزيرة محلية الحصاحيصا وحدة الربع الإدارية، ونفذت إزالة جبرية وحرق لممتلكات المواطنين وضرب للنساء والأطفال وحرق لمنازل المواطنين.
ليست الأرض وحدها السبب
تمثل الأرض نقطة محورية لفهم قضية الكنابي، وتعود جذور هذه المسألة إلى عهد الحكم الثنائي الإنجليزي المصري (1899-1956) الذي اعتمد على الزعامات الدينية والمحلية والقبلية في شمال السودان في إدارة البلاد، وعمل على استمالتهم من خلال الامتيازات بتوزيع الأراضي كماكفآت بالإضافة إلى إطلاق يدهم في إدارة شؤون مناطقهم عن طريق ما سُمي بالإدارة الأهلية، والتي أنشأت طبقة من ملاك الأراضي والبرجوازية السودانية كان لها النفوذ الأكبر في المجال الديني، وبما راكمته من ثروات صار لها النفوذ الأكبر أيضًا في المجال الاقتصادي ثم السياسي لاحقًا، ومع بدء التعليم في البلاد كان أبناؤها أول الملتحقين به واستعان بهم الإنجليز في دوائر الدولة، فكانوا وراث الاستعمار وعملوا على ترسيخ امتيازاتهم من خلال الدولة وقوانينها وتسخير مشاريعها لخدمة مصالحهم، وكانت هذه الطبقة في عمومها من منطقة شمال السودان النيلي ومن القبائل ذات الأصول العربية تحديدًا.
ويرى ناشطون حقوقيون أن هذه الدائرة المغلقة من أصحاب النفوذ عملت على تقاسم ثمار السلطة في العهدين المذكورين، مستثنية من ذلك بقية الشرائح الاجتماعية من سكان البلاد، ولذلك بقي سكان الكنابي عمالًا زراعيين ولم يُملكوا أراضي في المشاريع الزراعية المتعددة، فبقيت علاقات الإنتاج قائمة على مجموعة من الأشكال التي كرست نوعًا من تراتبية اجتماعية ولدت نظرة استعلائية مترسخة بقوة في الريف السوداني الشمالي، وما زالت مفاعيلها مستمرة حتى الآن.
قضية الكنابي تلخص معضلة السودان في الانتقال إلى دولة المواطنة والمساواة التي لا تكفل لجميع أفرادها الحقوق فقط بل الاحترام أيضًا
كمبو أفطس الذي أزالته السلطات يوم 25 أبريل/نيسان 2018
أما “المجموعة السودانية للديمقراطية أولًا” في تقريرها عن الكنابي فتذكر أن العلاقة بين سكان قرى مشروع الجزيرة وسكان الكنابي ليست ذات وتيرة ثابتة، فبينما يتوفر التعايش السلمي بينهم ويوافق سكان تلك القرى على تقديم الخدمات التعليمية والصحية لسكان قرى الكنابي، و تمتد أواصر التواصل الاجتماعي بينهم، فإننا نجد أيضًا نجد حالات صدام بين الطرفين، بسبب رفضهم قيام هذه الكنابي على أراضٍ مملوكة ومسجلة باسم بعض المواطنين أو بسبب الضغط على الخدمات المتوفرة بتلك القرى، وتتصاعد عادة حدة التوتر بين سكان قرى المشروع والعمال الزراعيين عند رفض سكان بعض القرى لأسباب عنصرية قيام سكان الكنابي بشراء المنازل المهجورة ببعض قرى المشروع التي غادرها سكانها الى المدن بعد التدهور الكبير الذي حل بمشروع الجزيرة.
فتخوف ملاك الأرض من حلول تنتقص من ملكياتهم، بالإضافة إلى العنصرية والخلاف على سودانية بعض أهالي الكنابي رغم وجودهم منذ أكثر من نصف قرن في السودان، كل هذا أدى إلى تعقيد قضية الكنابي في غياب الدولة عن إيجاد حل جدي للمشكلة بما يعني انحيازًا لأحد الطرفين، بل تورطها كذلك في تعميق المظلمة من خلال مشروع السكن الاضطراري الذي انتهى إلى نهب أموال سكان الكنابي على سبيل المثال.
في الطريق إلى الحل
للكنابي تجربة في النضال المطلبي مقتصرة على العمل الحقوقي والإعلامي، حيث تم تشكيل مجموعة من الأطر المنظمة لطرح قضيتهم وتعرية الانتهاكات التي يتعرضون لها، ومنها مؤتمر الكنابي الذي تأسس في القاهرة مارس/آذار 2013 كأول الأجسام المنظمة المطالبة بإنصاف الكنابي، ومبادرة مجتمعات العمال الزراعيين للحقوق والتنمية التي بدأت في فبراير/شباط 2016، كما شهدت مرحلة ما بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018 انطلاق مباحثات في جوبا عاصمة جنوب السودان لحلحلة قضايا السودان ونزاعاته، وحضرت الكنابي ضمن تلك الملفات وثمة العديد من المقترحات المتعلقة بجوانب ترتبط بالأرض وعلاقات العمل والأوضاع القانونية لهؤلاء العمال وغير ذلك.
قضية الكنابي تلخص معضلة السودان في الانتقال إلى دولة المواطنة والمساواة التي لا تكفل لجميع أفرادها الحقوق فقط بل الاحترام أيضًا، بما يستدعي العمل لتغيير مفاهيم ثقافية وهندسة اجتماعية راسخة منذ ما قبل الاستقلال، وهو أمل مشروع يرتبط تحققه بنتائج المخاض الذي يعيشه السودان نفسه الآن.