“هناك استقطاب فى الحياة الفكرية: قوم يتقنون الكتابة في الإسلاميات لكن لا يستطيعون محاورة الأفكار الأخرى وكسر شوكتها، وآخرون يتقنون الفكر الغربي ويجهلون قضايا الفكر الإسلامي ، فكان مشروعي يستهدف تكوين عقلية إسلامية مرتبطة بالهوية الإسلامية والجذور الإسلامية، وفي الوقت نفسه قادرة على رؤية الإسلام في ضوء الفكر الآخر ورؤية الفكر الآخر فى ضوء الإسلام”.. بهذه الكلمات لخص المفكر الإسلامي محمد عمارة مشروعه الحضاري الذي مكث في بنائه ما يزيد على 50 عامًا، وأسفر عن مكتبة تحوي ما يزيد على 300 مؤلف بين كتاب وبحث.
يعد عمارة أحد القلائل الذين حملوا على عاتقهم مهمة الذود عن الإسلام في مواجهة منتقديه، مستندًا في معاركه إلى قوة العقل ومتانة المنطق، حتى لُقب بـ”كاسحة ألغام الفكر الإسلامي” بحسب وصف المفكر التونسي راشد الغنوشي، الذي يعتبر نفسه تلميذًا من تلامذته، إذ كان عونًا لكل باحث في الفكر الإسلامي ولكل شاب يريد أن يطلع على الإسلام في موارده الصافية.
عُرف عنه تحولاته الفكرية وتنقله بين مختلف التيارات، البداية حين كان شابًا يساريًا إبان فترة توهج الفكر الماركسي اليساري في بلاد المسلمين، في الخمسينيات، ثم التخلي عنه في السبعينيات لما رآه من سلبية في هذا الفكر، وذلك قبل أن ينتقل قلبًا وقالبًا إلى “الفكر العربي الإسلامي العقلاني المستنير” الذي بات علامة مميزة في تاريخه.
كان له دور كبير في دعم القضايا الوطنية لا سيما معارضة الوجود الأجنبي
يتميز بمكانة كبيرة في قلوب محبيه وأتباعه من الباحثين الشباب من مختلف النوافذ الفكرية، فالرجل رغم ما تعرض له من اتهامات وهجوم بدعوى انتمائه لتيار سياسي بعينه، نجح في الحفاظ على استقلاليته، واقفًا على مسافة واحدة من الجميع، ما دفعه لأن يكون قبلة للملايين من الباحثين داخل مصر وخارجها، ممن رأوا فيه العقل المستنير القادر على المواجهة والنقاش دون أي خضوع لإرث فكري هنا أو هناك.
من اليسار إلى الإسلام
انخرط عمارة في العمل السياسي منذ نعومة أظفاره، ففي السنة الأولى من المرحلة الابتدائية، عام 1946، شارك في أول مظاهرة في حياته ضد مشروع “معاهدة صدقي بيفن” بين الحكومة المصرية وسلطة الاحتلال الإنجليزي، رغم غياب وعيه السياسي في هذا الوقت بحكم صغر سنه.
وفي العام التالي مباشرة ارتقى الفتى الصغير منابر المساجد وبدأ يمارس الخطابة ضد اليهود ودفاعًا عن القضية الفلسطينية، وفي عام 1948 كان موعده الأول مع الصحافة حين كتب أول مقال في حياته دفاعًا عن المجاهدين في فلسطين، لكن سرعان ما تحول أيديولوجيًا بعد هزيمة الجيوش العربية في هذه الحرب (1948).
التحق بصفوف التيار اليساري حين كان طالبًا بالمعهد الثانوي الأزهر في مدينة طنطا (غرب)، وفي هذا الوقت كان هذا التيار “فارس القضية الاجتماعية والعدل الاجتماعي”، كما كان له دور كبير في دعم القضايا الوطنية لا سيما معارضة الوجود الأجنبي، وكانت البداية حين انضم إلى حزب “مصر الفتاة” العروبي الثوري ومن بعده “الحزب الاشتراكي” الذي كانت فلسفته تقوم على أن الاشتراكية أساسها الدين وأن العبادة أكثر ما تتجلى في خدمة الشعب.
وبعد إلغاء الأحزاب عام 1953 كأحد نتائج حركة “الضباط الأحرار” التي أطاحت بالملكية في مصر يوليو 1952، التحق عمارة بالتيارات اليسارية غير الحزبية، وظل يناضل بها قرابة عشر سنوات كاملة، لكن تعرضه للسجن في عهد جمال عبد الناصر في 1959 وحتى 1964 بسبب نشاطه السياسي كان له دور كبير في تغيير دفة الرجل الفكرية.
وفي أواخر الستينيات أجرى الشاب الثوري عددًا من المراجعات الفكرية قادته في النهاية إلى مغادرة المعسكر اليساري والانخراط في الاتجاه الإسلامي، ومع انطلاقة السبعينيات بدأ الطرح الإسلامي يطغى على مواقف وفكر عمارة حتى صار يُحسب على “الإسلاميين المستقلين”، وقد مكنه استقلاله هذا من توجيه انتقادات عديدة للحركة الإسلامية، كما أن المسافة التي تفصله عن الإخوان المسلمين وتقاطعه الفكري معهم في الوقت نفسه كل ذلك جعله يحظى بثقتهم.
عمارة كان يعتبر الإخوان “أكبر حركة من حركات الإسلاميين وفي ظل التشرذم في الحركة السياسية والأحزاب ليس لدينا رصيد في الشارع إلا الإخوان، ومع ذلك أنا كتبت نقد للحركات الإسلامية بشكل عام ومنهم الإخوان، ورغم ذلك أعتبر أن الإخوان رصيد كبير يجب ألا نفرط فيه”.
معارك فكرية طاحنة
خاض الباحث الشاب عشرات المعارك الفكرية على مدار حياته، وهو ما أدى في النهاية إلى تفرغه الكامل للاستعداد لتلك المعارك التي تعرض بسبب بعضها لحملات انتقادات وهجوم لاذعة، حيث كان يرى أن “الوظيفة العمومية نوع من الرق” فعزف عن طلبها أو تقلدها ليتفرغ لمشروعه الفكري الذي بدأه منتصف الستينيات، ولذلك لم يتول من المسؤوليات إلا ما كان يصب في مصلحة هذا المشروع.
ساعدته عضويته في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر، في إثراء المناخ الإسلامي عبر التصدي للمؤلفات العلمانية التي كانت تهاجم الإسلام، حيث كان يراجع تلك الكتب ويرد عليها وفق تقارير رسمية يزود فيها عن الدين، وفي هذا الشأن كان يقول إنه “أول من اقترح في المجمع الرد على الكتب المخالفة بالحجة والبرهان”، كما مارس نفس المهمة في الهيئة المصرية العامة للكتاب.
وفي تسعينيات القرن الماضي، شكل مع آخرين لجنة لإجراء صلح بين الحكومة المصرية وجماعات العنف السياسي، كما قدم حلقات وبرامج تليفزيونية عديدة، وشغل منصب رئيس تحرير مجلة الأزهر أربع سنوات واستقال منها يونيو/حزيران 2015، هذا بجانب حلقاته المميزة التي كان ينبري فيها للرد على شطحات بعض المفكريين المصريين على رأسهم نوال السعداوي وغيرها.
الباحث محمد عليان في مقال له تحت عنوان (محمد عمارة وجهد فكري متواصل) استعرض عددًا من المعارك الفكرية التي خاضها المفكر المصري في رحلة تحوله من الماركسية إلى الإسلام، استهلها ببعض الكتب التي وثقت تلك المعارك منها، كتابه الموسوم بـ”التفسير الماركسي للإسلام”، وهو من المؤلفات التي رد فيها على كتابات الدكتور نصر حامد أبو زيد، رغم معارضته محاكمة أبو زيد، ورفض تطليق زوجته منه، واعتبر أن قضيته قضية فكرية “مجالها الحوار الفكري”، وليس ساحات المحاكم، وأنها ليست قضية قانونية، وهذه القضايا من المناقشات الفكرية، كما رد على كتابات بعض العلمانيين، وناقشهم رؤيتهم الفكرية في العديد من المؤلفات.
كما لفت الباحث إلى قضية الحرية كونها أحد أبرز القضايا التي ولاها المفكر المصري رعاية واهتمامًا خاصًا، لذلك جاءت رسالتاه العلميتان، الماجستير والدكتوراه، لتصبا في هذا الإطار، الأولى “مشكلة الحرية عند المعتزلة” والثانية “نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة”.
كانت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعه الفكري
وبسبب تلك المؤلفات ومناصرته للحرية وإحكام العقل تعرض عمارة لحملة فكرية من التيار السلفي، ليرد عليهم في مقدمة كتابه “رسائل العدل والتوحيد”: قائلًا “إننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها المرجوة مأساة ذلك الانفصام الذي تشهده الحضارة الأوروبية الغربية اليوم ما بين التقدم في تطبيقات العلوم التكنولوجيا والتخلف، إن لم نقل الانحلال والانحطاط، في القيم الإنسانية، اللذين يفترسان أغلب قطاعاتها الفكرية والبشرية، إننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها ذلك الخطر، وتلك المأساة وآثارها المدمرة، فلا بد أن نلقي أشد الأضواء على صفحات تراثنا العربي الإسلامي التي تؤكد ضرورة الربط ما بين الفكر والممارسة، والنظرية والتطبيق، والعقيدة والفعل، والإيمان والعمل؛ لأننا إذا استطعنا أن يكون تراثنا في هذا الباب منطلقًا لنا في هذا الطريق، كانت لنا إمكانيات النجاة مما يعاني منه الآخرون، مما يهدد روح حضارتهم وجوهريات إنسانهم بالتحلل والدمار”.
سطع نجمه أكثر مع تعالي التحديات الغربية والتغريبية أمام العالم الإسلامي، ورغم إفراده العديد من معاركه ومؤلفاته ردًا على غلاة العلمانيين، فإن قضايا القومية العربية والعدل الاجتماعي والثورة على الظلم ظلت ملحوظة في كتاباته، كما كانت الدائرة الإنسانية والتفاعل مع الحضارات المختلفة موجودة في مشروعه الفكري.
التنصير أيضًا كان إحدى الساحات التي عمل عليها قلم عمارة، فخاض سجالات مع الكنيسة القبطية بمصر التي هاجمته مرات لدرجة أنها مارست ضغوطًا لمنع مقاله الذي كان ينشره في جريدة “أخبار اليوم”، منتقدة ردوده على منشورات تنصيرية وُزعت بمصر وحديثه عن دور الكنيسة في إثارة الفتنة الطائفية، والمشروع العنصري الذي يريد استبدال اللغة القبطية بالعربية، ورفعت الكنيسة ضده دعوى قضائية.
يقول عمارة: “عندما أكتب عن غلاة العلمانيين والمتغربين أبدو وكأنني محافظ، وعندما أكتب في نقد الجمود والتقليد أبدو وكأنني ثوري وتقدمي، لكن هناك معالم أساسية لا تتغير كالحفاظ على رؤيتي للإسلام ومعالمه، وعملي الدؤوب لإنهاض الأمة وإخراجها من عنق الزجاجة الذي وقعت فيه، ومواجهة التحديات الشرسة والحرب الصليبية المعلنة على الإسلام”.
عزة وكرامة
كان عمارة من أشد الناس اعتزازًا بكرامته وعفته، وهو ما تجسده عشرات المواقف التي تعرض لها، وأثبت خلالها شموخًا لم يعهده الناس مع غيره من مفكري جيله، منها ما ذكره تلامذته وأخرى وثقتها عشرات الكتب الأخرى، ومن الأمثلة على ذلك الشهادة التي رواها الباحث صلاح عبد الفتاح محمد، مدير مركز ابن رشد للبحوث والدراسات بحق عمارة.
الباحث على صفحته على موقع فيسبوك، استعرض 4 مواقف قال إنه عايشها مع عمارة، كشفت ما يتمتع به من كرامة وعزة نفس ردًا على المشككين في نوايا الرجل في الزود عن ثوابت الدين ومرتكزاته في مواجهة العلمانيين والنصرانيين وهي التي أدت إلى تعرضه لحملات من التوبيخ والانتقادات.
الموقف الأول رفضه للعرض المالي المغري الذي عرض عليه في إحدى دول الخليج، حين دعي إلى مؤتمر هناك، وعقب المؤتمر جاء إليه رئيس الجامعة ليقدم له شيكًا على بياض قائلًا له: “نتشرف بك لتعمل معنا وهذا العقد والشيك على بياض فاكتب العقد والمرتب الذي تريد ولن نناقشك”، لكن عمارة شكره واعتذر ورفض العرض وقال “أنا متفرغ للكتابة في مكتبتي”.
أما الموقف الثاني فكان في عهد الرئيس الراحل أنور السادات، حين منع أحد كتبه من النشر وتم كتابة مذكرة من الأمن رفعت إلى وزير الثقافة فحولها إلى جامعة الأزهر الذي بدوره حولها إلى مجمع البحوث فحولها المجمع إلى شيخ الأزهر ثم حولها الشيخ إلى رئيس الجمهورية، الشاهد هنا أن الباحث أراد أن يقول إن جميعهم خشيوا مناقشة عمارة في مؤلفه، إيمانًا منهم بفشلهم في مجاراته، وفي النهاية أمر السادات بطباعة الكتاب، وهنا يقول عمارة: “ظللت عامين كاملين في المواصلات والأتوبيسات أركب وأنزل منها وأنفق الوقت والمال إلى أن صدر القرار الرئاسي من الرئيس السادات بنشر الكتاب” نقلًا عن مدير مركز ابن رشد للبحوث والدراسات.
كان عمارة من أشد المهاجمين للقومية العربية في بعض الفترات، وكانت نتيجة لذلك أن منع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد كتب عمارة من دخول البلاد، وفي ذلك الحين كان العالم المصري ينشر كتبه في القاهرة ودمشق، لكن وفي إحدى المرات تصادف أن ذهب عمارة إلى أحد المؤتمرات الدولية التي كان الأسد حاضرًا فيها.
وكان برفقة الأسد أحد العلماء المقربين من عمارة، فطلب منه التوقيع على التماس يقدمه للرئيس السوري للعفو عنه والسماح بطباعة كتبه، وهنا كان رده قائلًا: “محمد عمارة لا يكتب التماسات إلى الرؤساء والملوك ليطلب منهم أي شيء” ثم غادر المؤتمر دون أن يسلم حتى على الأسد.
موقفه من ثورة يناير
كان عمارة من أشد المناصرين لثورة يناير المجيدة، تلك الثورة التي أطاحت بحكم حسني مبارك، حيث وصفها بأنها “ثورة شعبية من أعمق الثورات الشعبية التي عاشتها مصر في العصر الحديث، وهي ملحمة كشفت المعدن الحقيقي لهذا الشعب الأصيل”، وفي المقابل رفض المخطط العسكري للإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي.
اعتبر المفكر المصري ما حدث في 3 من يوليو 2013 جنوحًا عن مدنية الدولة ومسارها المنشود الذي أقرته ثورة يناير، ومن خلال بيان له طالب بالعودة إلى المسار الديمقراطي واحترام إرادة الشعب وبعودة الجيش إلى ثكناته، واعتبر – في مقطع مصور – أن عزل مرسي “باطل شرعًا وقانونًا هو وكل ما ترتب عليه”، وهو الموقف الذي أثار عليه هجمة انتقاد شرسة من وسائل الإعلام والدوائر المؤيدة للانقلاب.
أثرى عمارة المكتبة العربية والإسلامية بأمهات الكتب
في حفل تكريمي له أقامه مركز الإعلام العربي عام 2010، وصفه الدكتور يوسف القرضاوي بأنه “أحد مجددي القرن الخامس عشر الهجري، الذين هيأهم الله لنصرة الدين الإسلامي من خلال إجادته استخدام منهج التجديد والوسطية، وصولاته وجولاته القوية في تعرية أعداء الإسلام”.
أما المفكر التونسي راشد الغنوشي فاعتبره “كاسحة ألغام أمام الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية، فهو شديد البأس على أعداء الإسلام من العلمانيين الاستئصاليين، وهو فحل في هذا المجال وعون لكل باحث في الفكر الإسلامي ولكل شاب يريد أن يطلع على الإسلام في موارده الصافية، وأنا أعتبر نفسي تلميذًا من تلاميذه في جوانب كثيرة”.
أثرى عمارة المكتبة العربية والإسلامية بأمهات الكتب، فعلى مدار 6 عقود كاملة من التأليف، وصلت عدد مؤلفاته نحو 240 مؤلفًا بين كتاب ودراسة، ومن هذه المؤلفات: “التفسير الماركسي للإسلام”، “معالم المنهج الإسلامي”، “الإسلام والمستقبل”، “نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام”، “الغارة الجديدة على الإسلام”، “التراث والمستقبل”، “الإسلام والسياسة: الرد على شبهات العلمانيين”، “الجامعة الإسلامية والفكرة القومية”.
هذا بجانب تحقيقه للعديد من الكتب القديمة والحديثة، منها الأعمال الكاملة لكل من: رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي وقاسم أمين وعلي مبارك، بجانب مئات المقالات والأبحاث المنشورة في الصحف والمجلات المصرية والعربية والإسلامية.
ولد عمارة في 8 من ديسمبر/كانون الأول 1931م في قرية صروة بمركز قلين (محافظة كفر الشيخ) في مصر، لأسرة فلاحية يعمل أبوه في الزراعة. بدأ حفظ القرآن في كتاب القرية وهو في السادسة من عمره فأكمله وجوده، ثم انتقل إلى مدينة دسوق عام 1945 للالتحاق بمعهدها الابتدائي الأزهري، فحصل على الشهادة الابتدائية الأزهرية 1949، ودخل المعهد الأحمدي الثانوي الأزهري بمدينة طنطا فنال الشهادية الثانوية التي درس بها في كلية دار العلوم جامعة القاهرة.