في 5 من نوفمبر/تشرين الثاني 1989، صادَق البرلمان اللبناني على اتفاق الطائف، معلنًا بذلك انتهاء الحرب الأهلية ودخول لبنان في نفق السياسة الطائفية المظلمة والمبهمة.
لطالما كان لبنان منقسمًا ما قبل الحرب ولكن عند انتهاء تلك الحقبة، استلم زعماء الطوائف السلطة وأعطوا الطائفية شرعية مطلقة في السياسة اللبنانية، ومنذ 1989 وحتى وقتنا هذا، تمحورت معظم الأحداث السياسية في لبنان حول تنازع الأحزاب الطائفية على الهيمنة الحكومية والمؤسساتية والمناطقية والمالية.
في ظل تلك النزاعات، استنزفت موارد لبنان الاقتصادية والبشرية وتدنى المستوى المعيشي، كما تخلت الدولة عن سيادتها للخارج، وخسرت الوطنية هيبتها.
لفهم المعادلة السياسية في لبنان أكثر، لا بد من التمعن أولًا بدقة في الدور الحقيقي التي تلعبه الطائفية في الدولة اللبنانية.
الطائفية في هيكلية الدولة وأجهزتها
– الطائفية والرؤساء الثلاث
لعل أوضح وأقوى دور سياسي تلعبه الطائفية في لبنان هو في تقسيمها للمراكز الدستورية الأعلى على الطوائف الكبرى بالتساوي، وإن لم ينص الدستور اللبناني على تلك التقسيمات، فالممارسة السياسية الفعلية منذ استقلال الدولة اللبنانية حتى اليوم أتت لتشدد عليها.
تُقسم المراكز السياسية العليا في لبنان وفقًا لما يسمى “الميثاق الوطني”، وهو اتفاق شفهي غير مكتوب عقد عام 1943 بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة آنذاك، وينص هذا الميثاق على أن يكون مركز رئاسة الجمهورية بحوزة الطائفة المسيحية الكاثوليكية المارونية، في الوقت الذي يكون فيه رئيس الحكومة من الطائفة الإسلامية السنية، ورئيس مجلس النواب من الطائفة الإسلامية الشيعية.
مرت قرابة الثمانية عقود على تلك الاتفاقية، وما زالت تنفذ السلطات السياسية اللبنانية هذه التقسيمات دون أي استثنائات إلا تلك التي حصلت في حقبة الحرب والأزمة التي سبقتها.
– الطائفية في مجلس النواب
يعتبر النظام السياسي في لبنان برلمانيًا ديمقراطيًا، ما يعني أن السلطة التشريعية الممثلة في مجلس النواب تستحوذ على الطاقة الدستورية والقانونية الأعلى في الدولة، والسبب أن هذه السلطة منبثقة مباشرةً عن الشعب اللبناني الذي هو وفقًا إلى الدستور، مصدر السلطات.
ينتخب مجلس النواب رئيس الجمهورية، كما أنه يحاكمه في حال خالف الدستور، كما يعطي المجلس أيضًا الثقة للحكومة أي الموافقة عليها، ويحق له أن يحاسبها ويقيلها، ويشرع القوانين بصفته السلطة المشرعة.
تهيمن الطائفية على هذا المجلس بأحقية دستورية، حيث ورد في الدستور اللبناني ما بعد اتفاقية الطائف الفقرة التالية من المادة 24: توزع المقاعد النيابية وفقًا للقواعد الآتية:
أ. بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين.
ب. نسبيًا بين طوائف كل من الفئتين.
استنادًا إلى هذه المادة الدستورية، فإن المقاعد النيابية في مجلس النواب موزعة اليوم على الطوائف كما يلي: 64 للمسيحيين، 43 منها للكاثوليك (34 منها فقط للموارنة) و20 للأرثوذكس ومقعد للإنجليين، كذلك يحصل المسلمون على 64 مقعدًا، 27 منها للسنة و27 للشيعة و8 للدروز و2 للعلويين.
على أساس تلك التقسيمات، تقام الانتخابات النيابية اللبنانية وفقًا لقانون انتخابي يقسم لبنان إلى 15 دائرة انتخابية، حيث تحصل كل دائرة على عدد من المقاعد موزعة نسبيًا بين الطوائف.
في رأي العديد من اللبنانيين، فإن المحاكم الدينية تضطهد المواطنين خاصة النساء اللواتي تُهمش حقوقهن المدنية والإنسانية عند تطبيق القوانين الطائفية للأحوال الشخصية عليهن
– الطائفية في مجلس الوزراء:
الدستور اللبناني الحديث تطرق إلى قضية التمثيل الطائفي في الحكومة في الفقرة التالية من المادة 95:
– تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكیل الوزارة.
والممارسات الطائفية التي تقوم بها القوى السياسية في هذا الإطار تستند إلى هذه المادة وهي شبيهة جدًا بالتقسيمات الحاصلة في المجلس النيابي. فعلى سبيل المثال، تقاسمت الطوائف الممثلة بالأحزاب الحاكمة الحقائب الوزارية السيادية على مدى العقود الماضية، وهذه الوزرات هي الداخلية التي هي في الممارسة اليوم من حصة المسلمين السنة، الخارجية وهي من حصة المسيحيين الكاثوليك الموارنة، والدفاع وهي للمسيحيين الأرثوذكس، والمالية للمسلمين الشيعة. ولأن عدد الوزراء يتغيرعادة مع تعاقب الحكومات، فإن هذا الأمر لطالما دفع الأحزاب الطائفية للتنازع على الحقائب الوزارية في الحكومة.
هذا برز مؤخرًا في شهر يناير/كانون الثاني من سنة 2020، حين عرقلت المطالب الدرزية والكاثوليكية تشكيل الحكومة بحجة أن عدد الحقائب الوزارية المحدد لكل من الطائفتين لا يمثلهما حق التمثيل.
– الطائفية والمحاكم الدينية
لا يحكم القضاء المدني بلبنان في الأحوال الشخصية للمواطنين وذلك لأن هذه المسؤولية تقع على عاتق المحاكم الدينية اللبنانية كالمحكمة الجعفرية للطائفة الشيعية.
يوجد في لبنان 15 قانونًا للأحوال الشخصية، أي تقريبًا قانون لكل طائفة، وهي مبنية على الشرع الديني لمختلف الديانات والمذاهب الموجودة على الأراضي اللبنانية، وتنظم المحاكم الدينية اللبنانية هذه القوانين وتطبقها.
في رأي العديد من اللبنانيين، فإن المحاكم الدينية تضطهد المواطنين خاصة النساء اللواتي تُهمش حقوقهن المدنية والإنسانية عند تطبيق القوانين الطائفية للأحوال الشخصية عليهن.
في هذا السياق، لا بد أيضًا من التطرق إلى عقدة الزواج المدني في لبنان، بحيث لا تقوم الدولة اللبنانية حتى يومنا هذا، بعقد الزواج بين المواطنين المنتمين إلى طوائف مختلفة نظرًا لعدم وجود قانون موحّد للأحوال الشخصية، وهذا لربما أكبر برهان على تجذر الطائفية في المجتمع اللبناني.
لمحة عن الممارسات الطائفية في لبنان
ليس من الغريب إذًا في دولة كلبنان أن نرى العديد من الممارسات السياسية التي تعزز مفهوم الطائفية على الأراضي اللبنانية، وهذه بعضها:
– امتناع الدولة عن إجاء إحصاء سكاني رسمي.
آخر مرة أحصت فيها الدولة اللبنانية عدد سكانها كانت عام 1932، عندها كان عدد السكان ما يقارب 900000 نسمة، حيث شكَل المسيحيون 58% من الرقم الإجمالي، والمسلمون 40%.
لكن تغير الكثير في الديمغرافيا اللبنانية منذ ذلك التاريخ وتفوق عدد المسلمين على عدد المسيحين، ولهذا السبب فإن القوى السياسية المسيحية الطائفية تمنع إجراء إحصاء سكاني رسمي جديد، حيث تتخوف هذه الأحزاب الطائفية من أن معلومات رسمية كهذه قد تدفع الأحزاب الإسلامية إلى الإطاحة بالمعادلة الحاليّة للتمثيل الطائفي واستبدالها بأخرى تضع المسيحيين في مركز الأقلية.
– تسلح الأحزاب الطائفية
كل من يعيش في لبنان يعرف أن ظاهرة السلاح المتفلت بارزة بقوة على جميع أراضيه، وهذا التفلت لا يظهر بصورة فردية فقط بل بطريقة منظمة وحزبية أيضًا.
ففي 7 من مايو/أيار 2008، نشب صراع عسكري مؤقت بين الفريق الشيعي متمثلًا بحزب الله وحركة أمل والفريق السني-الدرزي متمثلًا بالحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل. ومؤخرًا في سنة 2019، حاول بعض مناصري الحزب الاشتراكي منع جبران باسيل رئيس حزب التيار الوطني الحر ذي الأغلبية المسيحية من الدخول إلى قرية درزية بالسلاح.
تبين خلال هذه الأحداث وغيرها أن زعماء لبنان الحالييّن لم يتخطوا بعد مرحلة الحرب الأهلية وما زال التسلح قائمًا بين أحزابهم باسم الطائفية.
– المناطقية
لطالما كان لبنان منقسمًا ما قبل الحرب ولكن عند انتهاء تلك الحقبة، استلم زعماء الطوائف السلطة وأعطوا الطائفية شرعية مطلقة في السياسة اللبنانية
المناطقية في لبنان لها دور كبير جدًا في تفعيل الطائفية الاجتماعية، كما أن للطائفية دورًا كبيرًا في تفعيل المناطقية، فمنذ قيام لبنان وحتى اليوم، نرى أنه من الصعب اختلاط الطوائف بالتساوي في المدن والقرى خارج العاصمة بيروت ودائمًا ما نلاحظ هيمنة طاغية لطائفة معينة على منطقة ما.
هذه المناطقية تقلصت قليلًا اليوم ولكن بعض الممارسات السياسية ما زالت تحاول تعزيزها، ففي عام 2010 مثلًا، منع رئيس بلدية منطقة الحدث المسيحي تأجيرأو بيع البيوت للمسلمين بعد أن تملك المسلمون الشيعة أكثر من 60% من العقارات هناك.
ثورة 17 من أكتوبر/تشرين الأول وبداية الحرب على الطائفية
في 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2019، اشتعلت في لبنان انتفاضة شعبية تاريخية نتيجة للوضع الاقتصادي المتردي في البلاد.
سرعان ما أصبحت هذه الثورة حربًا على الطائفية التي اعتبرها المتظاهرون الوسيلة الأساسية التي سمحت للفساد بالانتشار في الدولة ومؤسستها، وشارك في هذه الانتفاضة مئات آلاف اللبنانيين من مختلف الانتماءات الدينية، مؤكدين بذلك أن الطائفية السياسية والاجتماعية في لبنان قد تشرف قريبًا على الاضمحلال.