لإيران علاقات اقتصادية واسعة النطاق مع العراق والصين، لكنها تخضع لعقوبات أمريكية شاملة وصارمة أثرت بشدة على مبادلاتها الخارجية وماليتها الداخلية، الأمر الذي أفضى إلى ارتفاع عجز الميزانية العامة وتدني سعر صرف الريال وتصاعد معدلات التضخم وتدهور مستوى معيشة المواطنين، وبسبب هيمنتها على القرار السياسي العراقي ستستغل طهران الاتفاقية العراقية الصينية لتحسين أوضاعها الاقتصادية عن طريق تنمية صادراتها النفطية إلى الصين واستثماراتها المباشرة في العراق.
تتسم الاتفاقية العراقية الصينية لعام 2019 بسمتين أساسيتين: الأولى ضخامتها، حيث تبلغ الاستثمارات في البنية التحتية العراقية على الأقل عشرة مليارات دولارات في السنة لمدة عشرين سنة، تمول بقروض مصرفية صينية بالدرجة الأولى وبإمدادات نفطية عراقية للصين بالدرجة الثانية، والثانية سريتها لصدورها بشكل مذكرات تفاهم، ولكن في حدود ما تسرب منها من معلومات أو على الأصح ما تقرر رسميًا أن يكون علنيًا يستنتج البعض بأنها ستنقل العراق إلى مرحلة جديدة مشرقة في مسيرته الاقتصادية.
في حين هنالك تناقض واضح بين التكتم على الاتفاقية وهذا الاستنتاج، فلو كانت الاتفاقية على هذه الدرجة من الأهمية للقطاعات الإنتاجية والعمالة والمالية العامة الداخلية والخارجية لنُشرت حال إبرامها. ترى ما الذي تريد الحكومة إخفاءه على المواطنين؟
علاقة إيران بالاتفاقية وطيدة
تكاد تقتصر الاتفاقية على مشاريع ترتبط بالبنية التحتية العراقية، وبالتالي لا يعقل أن يشكل بناء المدارس وإقامة المستشفيات وتشييد دور للسكن وتنظيم الصرف الصحي خطرًا إستراتيجيًا أو سرًا عسكريًا أو خسارة اقتصادية فادحة تستوجب السرية.
وفق المادة 12 من قانون الإدارة المالية تخضع القروض الدولية للموافقة البرلمانية، أي ستناقش القروض الصينية في مجلس النواب ثم يصوت عليها عندما تعرض عليه ميزانية الدولة، وحتى يتمكن البرلمانيون من المناقشة والتصويت يتعين عليهم معرفة الاستثمارات التي يجري تمويلها بواسطة هذه القروض، بمعنى آخر سيتعرف البرلمانيون وبالتالي المواطنون على الاستثمارات والقروض الصينية، ولكن الاتفاقية ستبقى محافظة على سريتها. هنالك إذن قضايا خارج الاستثمارات والقروض تنوي الحكومة إخفاءها.
هل للعقوبات الأمريكية ضد إيران صلة بهذه الاتفاقية؟ هل ينوي العراق المساهمة في إنقاذ الاقتصاد الإيراني من التردي الذي أصابه جراء هذه العقوبات لا سيما حظر الصادرات النفطية؟ للوهلة الأولى لا توجد للاتفاقية علاقة بهذه العقوبات للأسباب التالية:
1. ما يُقال من أن هذه الاتفاقية ليست وليدة اليوم بل بدأ التفاوض بشأنها عام 2015، أي قبل العقوبات الأمريكية المترتبة على البرنامج النووي الإيراني بل حتى قبل تولي الإدارة الأمريكية الحاليّة.
2. أن مساعدة إيران بطريقة أو أخرى تعرض العراق لعقوبات أمريكية، ويعلم العراقيون أن تجميد أصولهم لدى الفيدرالي الأمريكي يدمر اقتصادهم خلال فترة قصيرة. عندئذ تخسر إيران أحد أبرز مسانديها من الناحية المالية.
3. أن الصين لا تحتاج إلى هذه الاتفاقية لخرق العقوبات الأمريكية باستيراد النفط الإيراني خاصة أن بكين حليف أساسي لطهران وتدين بشدة هذه العقوبات وتعتبرها غير شرعية، وللعراق موقف مماثل.
ولكن كيف يقتنع المواطنون العراقيون بهذه الأسباب خاصة بعد أن برزت اتجاهات إيرانية تدعو الحكومة العراقية إلى تنفيذ الاتفاقية؟ وكيف يمكن إقناعهم بعدم علاقة الاتفاقية بإيران في حين أن التحليل الموضوعي للمصالح المتمخضة عنها يشير بوضوح إلى كونها خطة وضعت باتفاق إيراني صيني وفرضت على العراق؟
لما كانت المعلومات عن هذه الاتفاقية غير كافية ولما كانت مفاوضات عام 2015 غير معلنة يصبح من غير المنطقي التأكيد أن هذه الاتفاقية نتيجة لمفاوضات سابقة، فقد تكون الاستثمارات متشابهة إلى حد ما في الحالتين، لكن طرق التمويل وتبعاتها وكذلك العوامل الخارجية مختلفة.
نتيجة الخضوع للنفوذ الإيراني لا يطرح في العراق سؤال هل ستسهم بغداد في إنقاذ الاقتصاد الإيراني؟ بل كيف ستسهم فيه بفاعلية عالية؟ وإذا لم تجد طهران ضيرًا في أن يتحمل الإيرانيون أزمة اقتصادية خانقة بسبب العقوبات الأمريكية فإنها من باب أولى لا تكترث بما يصيب غيرها من عقوبات. أما السبب الثالث المرتبط بعلاقة الاتفاقية بالنفط الإيراني فيحتاج إلى وقفة أطول.
تهريب النفط الإيراني
لا شك أن إيران حققت تقدمًا باهرًا في الميدان الإنتاجي الصناعي والزراعي نتيجة اهتمامها بالبحث العلمي والتطوير الصناعي، الأمر الذي أدى إلى هبوط الأهمية المالية والتجارية للاستخراج النفطي والغازي، ولكن من الخطأ الفادح إهمال الدور الذي يلعبه هذه القطاع، بدليل أن التدهور الاقتصادي ما هو إلا نتيجة تردي الصادرات النفطية بغض النظر عن الأسباب الأخرى خاصة سوء إدارة الشأن العام.
أدت العقوبات الأمريكية إلى هبوط حاد للواردات الصينية من إيران مقابل زيادة الواردات من السعودية لتعويض هذا الهبوط
لما كان العراق خاضعًا للهيمنة الإيرانية وجب عليه أن يسهم في تحسين هذه الصادرات، فهو على سبيل المثال يستورد البنزين والغاز الطبيعي من إيران ويستجدي من الإدارة الأمريكية الحصول على رخصة استثنائية لذلك رغم توافر البديل الأرخص، كما يستورد موادًا صناعية وزراعية حتى أصبحت إيران تحتل المرتبة الأولى في الواردات الكلية العراقية تليها الصين، لكن ذلك لا يكفي من وجهة نظر طهران.
ستكون الاتفاقية وسيلة من وسائل تنمية الصادرات النفطية الإيرانية على النحو التالي: تصدر إيران النفط إلى العراق بشتى الوسائل المتحايلة على العقوبات الأمريكية، ويتولى العراق بدوره تصديره إلى الدول الأخرى كالصين كأنه نفط عراقي المنشأ بموجب الوثائق اللازمة. ولا تدفع الصين مقابل هذه المشتريات مبالغ نقدية للعراق بل ستقدم له استثمارات وفق الاتفاقية.
بمعنى آخر هنالك بالضرورة اتفاق إيراني صيني بشأن الأسعار والكميات ووسائل النقل والوثائق، ولا بد من الإشارة إلى أن هذا الأسلوب ليس وليد اليوم، لكن الجديد أن النفط الإيراني سيكون أحد الضمانات في حصول الصين على مقابل لاستثماراتها في العراق، وهذا الضمان على درجة كبيرة من الأهمية للمالية الصينية لأن السمعة الائتمانية الدولية للعراق متردية وفق تصنيفات الوكالات العالمية المتخصصة، وفي نفس الوقت تضمن الاتفاقية استمرار العراق بتصدير النفط الإيراني، وهكذا تتحسن الصادرات الإيرانية، وقد تكون هذه النتيجة على حساب دول أخرى خاصة السعودية.
في الوقت الحاضر تستورد الصين 11 مليون برميل، مليونا برميل من السعودية ونحو مليون برميل من العراق و0.2 مليون برميل من إيران، فقد أدت العقوبات الأمريكية إلى هبوط حاد للواردات الصينية من إيران مقابل زيادة الواردات من السعودية لتعويض هذا الهبوط، ونتيجة موافقة الصين على مقايضة الاستثمارات بالنفط فإن الاتفاقية ستقود إلى زيادة الواردات الصينية من إيران على حساب هبوط الواردات من السعودية، وقد تمنح طهران حسب اتفاقها مع بكين امتيازات سعرية.
تزايد الاستثمارات الإيرانية
لا تتوقف الطموحات الإيرانية عند تصريف النفط بل تمتد لتشمل المزيد من الاستثمارات في العراق.
ورد النص التالي في الاتفاقية: “يحق للعراق اختيار شركات عالمية أوروبية وأمريكية لتكون شريكة مع الصين وحسب نوع المشروع”، ويبدو واضحًا أن تسريب هذا النص مقصود، فهو يطمئن الرأي العام العراقي أن الاستثمارات ستقوم بها شركات معروفة تابعة لدول صناعية كبرى، لكنه غير منطقي إذ يفترض فيه التعميم دون ذكر جنسية الشركات.
لكن ممارسة العراق حقه في اختيار الشركات غير ممكن من الناحية العملية إلا بموافقة الجانب الصيني، فلا يعقل أن يقدم مصرف صيني قرضًا للحكومة العراقية بسعر فائدة مدعوم من الحكومة الصينية من أجل أن تتولى شركة ألمانية مثلًا الاستثمار في العراق، وبطبيعة الحال لا تمنح الصين موافقتها إلا تحت شروط محددة تستند إلى حسابات المصالح.
من هذا الجانب يمكن للصين منح الشركات الإيرانية مكاسب استثمارية في العراق نظرًا للعلاقات المتينة بين البلدين منها تعامل طهران باليوان في تجارتها مع الصين وكذلك حلول شركة النفط الوطنية الصينية محل شركات النفط الأوربية التي غادرت إيران بسبب العقوبات الأمريكية.
ومن المعلوم أن الاستثمار الإيراني في العراق لا يهتم بالقطاعات الإنتاجية لأنها لا تخدم المصالح الإيرانية التي تستوجب استمرار ريعية الاقتصاد العراقي: الحصول على العوائد النفطية لاستيراد المعدات الصناعية والمواد الغذائية، لذلك يرتكز الاستثمار الإيراني حاليًّا على دور السكن والسياحة الدينية خاصة في المحافظات الجنوبية.
ومن السمات الأساسية لهذا الاستثمار تشغيل اليد العاملة الإيرانية خلافًا للقوانين العراقية التي توجب استخدام اليد العاملة العراقية، وأدى هذا الوضع إلى تذمر المواطنين في هذه المحافظات خاصة أن العامل الإيراني (العاطل عن العمل في بلده) يوافق على أجور زهيدة.
ستقود الاتفاقية إلى فتح ميادين استثمارية جديدة أمام إيران، لكنها ستنصب على قطاع الخدمات وستؤدي الاتفاقية إلى توافد أعداد كبيرة من الإيرانيين إلى العراق وما يترتب على ذلك من مشاكل اجتماعية.
نظرًا للعقوبات الأمريكية، تسعى إيران إلى تحسين صادراتها النفطية بطرق عديدة منها تهريب الخام إلى الدول الأخرى عبر العراق
إقحام الشركات الإيرانية في الاتفاقية أمر لا بد منه لسببين على الأقل: السبب الأول هيمنة إيران على القرار السياسي العراقي وما يترتب عليها من ضغوط تمارس على الصين من بغداد وطهران في سبيل مساهمة الشركات الإيرانية، والسبب الثاني يرتبط بالفساد المستشري في العراق، حيث تعاني الشركات الأجنبية العاملة في العراق من أزمة خطيرة طاردة للاستثمار تتمثل في الابتزاز الذي تتعرض له من المليشيات العراقية، فتخلت شركات عديدة عن أنشطتها وغادرت العراق بسبب هذا الفساد الذي أثر تأثيرًا بالغًا على أرباحها، ولما كانت الشركات الإيرانية العاملة في العراق الوحيدة التي لا تتعرض لهذه الأزمة يصبح من مصلحة الشركات الصينية المستثمرة أن تجد لها شركاءً إيرانيين.
مكاسب لإيران والصين
ستقود الاتفاقية إلى حصول العراق على استثمارات صينية مقابل تقديم خمسة مكاسب للصين وإيران:
1. حصول الصين على النفط العراقي وفق آلية الاتفاقية، وكذلك حصولها على النفط الإيراني عن طريق العراق. وفي الحالتين سيكون للصين النفط مقابل الاستثمار وسيكون للعراق الاستثمار مقابل الديون.
2. تحقق إيران هدفها في بيع النفط رغم العقوبات الأمريكية، أما الصين فتجد في العراق سوقًا لشركاتها المستثمرة ومصارفها المقرضة.
3. العراق غير قادر حاليًّا على خدمة ديونه الخارجية لأسباب ترتبط بسوء إدارة الشأن المالي، وسوف تتدهور هذه القدرة تدهورًا هائلًا عندما تنقلب القروض الصينية إلى ديون خارجية. عندئذ لن يستطيع العراق سداد المستحقات المالية، ولن يستطيع كذلك دفع ما يترتب عليه من التزامات مالية لإيران، وسوف تضطر بغداد إلى التنازل عن بعض المؤسسات العامة للدائنين، كأن تمنح لهم أسهمًا في شركة النفط الوطنية. وقع العراق في الفخ الذي وقعت فيه دول أخرى تعاملت بنفس الطريقة مع الصين خاصة كينيا وسريلانكا، وستكون النتائج أكثر خطورة بسبب التأثير الإيراني.
4. مساهمة العراق في المشروع الصيني العملاق المعروف باسم الحزام والطريق، ومن بوادر هذه المساهمة انضمام العراق إلى هذا المشروع رسميًا منذ منتصف العام المنصرم.
5. حصول الشركات الصينية على عقود نفطية جديدة بشروط تفضيلية.
نظرًا للعقوبات الأمريكية تسعى إيران إلى تحسين صادراتها النفطية بطرق عديدة منها تهريب الخام إلى الدول الأخرى عبر العراق، وترمي أيضًا إلى توسيع استثماراتها في العراق للحصول على إيرادات أكبر، فتمثل الاتفاقية العراقية الصينية فرصة لتحقيق هذا الهدف، ولكن ستقود الاتفاقية إلى تزايد غير مسبوق للمديونية الخارجية العراقية وما يترتب عليه من تداعيات اقتصادية وخيمة.