إذا كان المتنبي يرى أنه ملأ الدنيا وشغل الناس وعم الآفاق بشعره وأدبه، وهو ما بيّنه في قصيدته واحر قلباه: “أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم”، من خلال اعتزازه بنفسه وفخره بجودة شعره وبقدرته على نظم أبيات رائعة صورةً وتعبيرًا لا يقدر عليها غيره من الشعراء، إلا أن اليمني عبد الله البردوني الذي حافظ على كيان وبنية القصيد العربي التقليدي وطرائقه وفرادته، شكل استثناءً بكل المقاييس، فالبردوني لم يقترب يومًا من السلطة ولم يرم عطاياها كما فعل المتنبي مع سيف الدولة، بل سعى لهدم أسوار الحكام وطغيانهم وإنارة دروب المشتاقين إلى الحرية والديمقراطية.
من جانب آخر، كان المتنبي مبصرًا مدركًا لما يدور حوله ومطلعًا على حال الناس، ينظم الشعر بعد المعاينة والتفحص، فيما كتب البردوني (الضرير) أشعاره ونظم قصائده من مخيلته وهمومه وما اطلعه عليه الناس، فكانت قصائده تمثل حالةً شعريةً وفكريةً فريدةً من نوعها وطريقًا مشى على نوره اليمنيون.
ويعد اليمني البردوني شاعرًا وناقدًا وأدبيًا ومؤرخًا، تناول في مؤلفاته تاريخ الشعر القديم والحديث في اليمن ومواضيع سياسية متعلقة ببلده أبرزها الصراع بين النظام الجمهوري والملكي الذي أطيح به في ثورة الـ26 من سبتمبر 1962.
ولدت #صنعاء بسبتمبر
كي تلقي الموت بنوفمبر
لكن كي تولد ثانية
في مايو او في أكتوبر
في أول كانون الثاني
(أو في الثاني من ديسمبر)
ما دامت هجعتُها حبلى
فولادتُها لن تتأخر
الأستاذ عبد الله البردوني
— فيصل الشبيبي (@F__alshabibi) December 1, 2019
بداياته
ولد عبد الله البردوني في قرية “بردون” شرق محافظة ذمار باليمن عام 1929، وأصيب بالجدري وهو في الخامسة من عمره حتى أفقده الوباء بصره كليًا، لكن هذا لم يحل دون نبوغه الشعري الذي جعله من أبرز الشعراء والأدباء في العالم العربي منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى أغسطس 1999 (تاريخ وفاته).
التحق البردوني بالكتاب في قريته وحفظ ثلث القرآن الكريم ثم انتقل إلى مدينة ذمار ودرس في مدارسها عشر سنوات حيث أكمل حفظ القرآن الكريم، وظهرت ملامح نبوغه وموهبته الشعرية في الـ13 من عمره، حيث كان يقرأ كل دواوين الشعراء القدامى.
قبل إتمامه العقد الثاني من عمره انتقل إلى العاصمة صنعاء ليكمل دراسته في جامعها الكبير وتتلمذ على يد خيرة من الأساتذة منهم العلامة أحمد ميعاد، ليلتحق بعدها بمدرسة دار العلوم (1953) حتى نال جائزة التفوق اللغوي، ليُعين بعدها مدرسًا للأدب العربي في المدرسة العلمية ذاتها.
تنقل البردوني في عدد من الوظائف الحكومية والمناصب، فترأس لجنة النصوص في إذاعة صنعاء وأدار البرامج في نفس الإذاعة عام 1980، كما أعد برنامجًا أسبوعيًا بعنوان “مجلة الفكر والأدب” الذي يعتبر من أفضل البرامج الإذاعية الثقافية في إذاعة صنعاء، واستمر في إعداده منذ 1964 حتى وفاته.
كما عمل في الفترة بين 1969 و1975 مشرفًا بالقسم الثقافي في مجلة الجيش ونشر مقالات بعنوان (قضايا الفكر والأدب) في صحيفة 26 سبتمبر، وفي صحيفة الثورة تحت عنوان (شؤون ثقافية)، إضافة إلى أنه أول من وضع حجر أساس اتحاد الأدباء (ترأسه في 1970) والكتاب اليمنيين.
أعماله
أصدر الشاعر اليمني عبد الله البردوني طوال مسيرته الأدبية 8 دراسات نقدية و12 ديوانًا، وهي: “من أرض بلقيس” و”في طريق الفجر” و”مدينة الغد” و”لعيني أم بلقيس” و”السفر إلى الأيام الخضر” و”وجوه دخانية في مرايا الليل” و”زمان بلا نوعية” و”ترجمة رملية لأعراس الغبار” و”كائنات الشوق الآخر” و”رواغ المصابيح” و”جواب العصور” و”رجعة الحكيم بن زائد”.
“ماذا عَن القوم؟!”..من روائع الشاعر “عبد الله البردوني”
— إبراهيم محمد الحمدي (@j1pzds1rsb6a1BS) February 15, 2020
أما الدراسات النقدية فهي: “رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه” و”قضايا يمنية” و”فنون الأدب الشعبي في اليمن” و”الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية” و”من أول قصيدة إلى آخر طلقة: دراسة في شعر الزبيري وحياته” و”أشتات” و”اليمن الجمهوري”.
لم يقتصر إنتاج البردوني على الشعر وحده، فقد كان ناقدًا ومؤرخًا وكاتبًا سياسيًا، خلَد اسمه في الذاكرة اليمنية بنقده اللاذع وسخريته المبكية من حال الطبقة السياسية في ذلك الوقت.
حصل الشاعر اليمني على عدد من الجوائز منها: وسام الأدب والفنون في صنعاء (1984) وجائزة مهرجان أبي تمام بالموصل في العراق عام (1971) وجائزة مهرجان جرش الرابع بالأردن عام (1981) وجائزة شوقي وحافظ في القاهرة (1981) وأصدرت الأمم المتحدة عملة فضية عليها صورة البردوني كأديب تجاوز العجز (1982).
كفاح الكلمات
يقول الشاعر اليمني محمد القعود: “البردوني عانى من الجوع وكان مثالًا حيًا لما كانت عليه فترات بائسة من تاريخ اليمن في تلك الفترة”، وتلك المعاناة أنتجت شاعرًا ثوريًا وجريئًا مشغولًا بأمر أهل بلده، مهووسًا بمقاومة التسلط والديكتاتورية والقهر وبدعم المظلومين والغلابة، لا يخاف الجهر برأيه وبانتقاده للسلطة والفساد القائم وهو يعرف حقيقة ما قد يناله من متاعب كالتجويع والسجن (سجن في عهد الإمام أحمد حميد الدين).
صور البردوني في أشعاره كقصيدته “رحلة التيه”، معاناة اليمنيين وما تعرضوا له من ظلم وتفقير وتجهيل، وكتب عن أحلام البسطاء وأحزانهم بأسلوب إبداعي فريد، وأطنب الشاعر في وصف ما عاشه الوطن، فكانت كلماته مرآةً لآلام الشعب وهمومه، داعيًا من خلالها إلى استيراد حقوق الناس ورفع المظالم عنهم، وإلى ثورة تشعبية تُعيد هيبة ومجد المنسيين والمسحوقين، فكانت قصيدته الرائعة “حين يصحو الشعب” التي قال فيها:
يا زفير الشعب: حرِق دولة تحتسي من جرحك القاني مداما
دعوة صريحةً لنفض غبار القهر والوقوف في وجه السلطة ذلك المارد الذي رآه البردوني مانعًا لكل صحوة ودولة حديثة تقوم على ضمان حقوق الأفراد وحمايتهم في كنف نظام ديموقراطي يقوم على أساس سلطة الشعب فهو مناط كل حكم.
كما امتاز الشاعر اليمني بأسلوبه الساخر في نقده للأوضاع السياسية والاجتماعية في وطنه خاصة وبلاد العرب عامة، فكانت قصيدته “من حماسيات يعرب الغازاتي” مقارنة بين حالتين متضادتين الأولى ماضٍ مجيد استعرض فيه بطولات العرب وصولاتهم والثانية حاضر مؤلم يصور ما آل إليه العرب من انكسار ومهانة.
نحن أحفاد عنترة نحن أولاد حيدرة
كلنا نسـل خــــالـد والسيوف المشهرة
يعـــربيون إنمــــا أمنا اليــوم لنـــدره
امــــراء وفوقنـــا عيـن ريجن مؤمره
وســـكاكيننا على أعين الشعب مخبره
رحمة الله تغشاه وأسكنه فسيح جناته…فعلا واقع اليوم يحكي..البردوني مايدور..من حروب ومؤمرات من العرب أنفسهم على إخوانهم من بني جلدتهم
— عبد القوي الجرف (@fGVguPdZyw1kE3X) February 13, 2020
وفي السياق ذاته، أكد الباحث بمركز الدراسات والبحوث اليمنية عبد الباري طاهر، أن البردوني كان إنسانًا متعددًا ومتنوعًا، وهو على رأس قائمة الشعراء الكبار كالجواهري والبياتي وشوقي وحافظ إبراهيم، لكنه امتاز عن كل هؤلاء بأنه كتب القصيدة الكلاسيكية بأفق آخر مغاير ومنفتح على العصر.
كما وصفه الناقد العراقي حاتم الصكر قائلًا: “لم تغره بهرج الضوء بسبب عماه، ولم يحتجب خلف نظارات، كما أن بصيرته تسخر من ضوء عالم المبصرين، واكتفى برؤية تتجاوز النظر الهش”، فيما أكد اليمني محمد القعود أنه “امتلك رؤى استشرافية للمستقبل لم يمتلكها أحد من الأدباء العرب، فهو شاعر ومفكر وأسطورة لكل الأزمنة”.
تلحف الشاعر اليمني عبد الله البردوني بمشاعر السخط والحزن والغضب والتمرد وروح التغيير والتجديد، معتمدًا على لغة ساحرة وكلمات مؤنقة تجمع بين سحر السخرية وأوجاع الصورة، فأخرج للعالم أشعارًا موغلة في الإبداع والجمالية.
ظلم السلطة والمثقفين
لم يكن البردوني على علاقة جيدة بالحكام عامة والرئيس الراحل علي عبد الله صالح خاصة، فالسلطة اليمنية دأبت على إسكات المثقفين والأدباء الخارجين عن طوعها، وعملت على محاصرة البردوني ومراقبته في حركاته وسكناته ولم تخل جلساته من الوشاة والمخبرين ناقلي أقوال الشاعر وانتقاداته للرئيس وسياساته تجاه اليمنيين.
وعلى الرغم من أن النظام اليمني لم يستهدف الشاعر جسديًا بسجنه أو نفيه أو تسليط عقوبات على شخصه، وذلك بفضل الحاضنة الشعبية التي يتمتع بها البردوني فكانت سلطة الناس أقوى من الحكام، فإن أعوان الحكومة وأعينهم لم تغفل عن شاعر الشعب ولم تشح بناظريها عنه، فراقبته ولاحقته خوفًا من تسرب بعض كتاباته وأشعاره إلى العامة أو مقولاته الناقدة والساخرة من صالح التي يصدح بها في مجالسه، فالدولة لا ترتاح لمواقف الشاعر ونقده السليط.
وبحسب مصادر يمنية، فإن نظام صالح نجح في الانتقام بوقوفه وراء اختفاء بعض إنتاجات الراحل البردوني التي تحدث عنها قُبيل وفاته ومنها “الجمهورية اليمنية” (جزء ثانٍ لكتابه القديم اليمن الجمهوري 1983) التي شرح فيها أسباب حرب صيف 1994 بين الشمال والجنوب بعد أربع سنوات من وحدة قامت بينهما، وعلاقة علي عبد الله صالح بها واغتياله فكرة الوحدة اليمنية، إضافة إلى اختفاء “رحلة ابن من شاب قرناها” و”العشق في مرافئ القمر” وكتاب في النقد سماه “الجديد والمتجدد في النقد الأدبي” ورواية عنوانها “العم ميمون”.
قال رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الشاعر مبارك سالمين في وقت سابق: “لا أحد يستطيع أن يؤكد شيئًا بخصوص تلك المخطوطات، البردوني جزء من ضمير الشعب ولهذا كانت تهابه كل الأنظمة المتعاقبة وتتبع أثره، واستعادة أعماله تحتاج إلى جهد كبير”.
من جهة أخرى، وعلى الرغم من أشعاره الفذة وكتاباته النقدية، لم يلق الشاعر البردوني ما يليق بمقامه وإنجازاته وبصمته التي طبعها في الحياة الثقافية اليمنية والعربية، ولم تحظ إنجازاته العلمية والأدبية بالعناية اللازمة في الأوساط العلمية والأدبية من خلال إحياء إرثه الأدبي العظيم وإعادة دراسة إبداعه الشعري والنقدي.
شخصيا لم أكثف القراءة في الأدب اليمني، ولا أكاد أعرف الكثير عن هذا البلد العربي العريق، ولكني اطلعت على نزر يسير من أدب عبد الله البردوني والذي له إسقاطات شعرية عميقة المعنى والأثر على ما يدور حاليا في العالم العربي، والزبيري هو ثاني اليمنيين الذين أقرأ لهم شعرهم وتاريخهم.
— راسخ الكشميري (@Raasikh) August 23, 2019
ويرى الشاعر المغربي صلاح بوسريف أن “البردوني شاعر غير سعيد في أرض اليمن السعيد، باستثناء اليمن وبعض الدول العربية القليلة يكاد يكون غير معروف، إلا كاسم”، محملًا اليمنيين مسؤولية التقصير، فيما يؤكد الناقد اليمني مبخوت العزي الوصابي أن البردوني بقي إشعاعه محليًا وتعرض إلى ظلم الإنسان والجغرافيا.
وفي سياقٍ ذي صلة، فإن سيرة الشاعر وأثره لم تلق العناية الكافية وترقى إلى منزلته ومستوى روعة إنتاجه وقيمته الفنية والأدبية، ويُوصي بعض المختصين بضرورة طباعة أعماله غير المنشورة وتفريغ حلقات البرنامج الإذاعي “واحة الفكر والأدب” في كتاب، وإعادة نشر كتبه ومؤلفاته، إضافة إلى السعي للوصول إلى مخطوطاته ودواوينه الشعرية التي لم تر النور بسبب خلاف بين ورثته.
بالمحصلة، فإن اليمنيين بحاجة إلى استحضار شخصية عبد الله البردوني الأسطورية وإرثها الثقافي والإبداعي خاصة في هذه المرحلة الدقيقة التي أعقبت سقوط نظام علي عبد الله صالح، فالشاعر كان ذي رؤية مستقبلية ثاقبة تنظر لوطن جديد موحد، كتب عن اليمن وعن الوحدة العربية وعن القضية الأم فلسطين، شاحذًا كل الهمم من أجل تغيير واقع الحال المرير.