في تجربة سينمائية هي الأولى من نوعها بعد ثورة يناير أنتجت شركة AtoZ بالتعاون مع قناة مكملين الفضائية الفيلم المصري “بسبوسة بالقشطة” الذي عُرض للمرة الأولى في مدينة إسطنبول التركية بتاريخ 7 من فبراير من العام الحاليّ وذلك بعد مشاركته في المهرجان الأوروبي للأفلام المستقلة، إذ حصل الفيلم على الجائزة الماسية كأفضل فيلم قصير والجائزة البرونزية بفئة السيناريو، وأدى دور البطولة كل من النجم هشام عبد الحميد والفنان محمد شومان وأخرج العمل عبادة البغدادي في تجربته الدرامية الأولى وكتب سيناريو الفيلم أحمد زين.
قصة الفيلم: جهل البسطاء قد يقتل الحرية
للوهلة الأولى وقبل مشاهدة الفيلم الذي ينتمي لإبداع أدب السجون يُخيل للمشاهد أن الفيلم سيكون قاتمًا للغاية وسيستعرض عمليات التعذيب التي يتعرض لها المعتقلون السياسيون في مصر، ولكن الحقيقة أن قصة الفيلم مختلفة تمامًا إذ ترتكز على تناول علاقة إنسانية رمزية بين معتقل سياسي وسجان، حيث ابتعد الفيلم بشكل كامل عن كليشيهات الدم والتعذيب وركز على تفاصيل العلاقة الإنسانية والنفسية بين الطبيب المعتقل والسجان وكل ما يعتري تلك العلاقة من أبعاد مجتمعية ونفسية.
منذ اللقطات الأولى من مشاهدة الفيلم نتذكر على الفور بأن شخصية محمد السجان في فيلم “بسبوسة بالقشطة” تتشابه مع شخصية “أحمد سبع الليل” بطل فيلم “البريء” للمخرج المصري عاطف الطيب ذلك الفيلم الذي أحدث ضجة واسعة وجدلًا كبيرًا في مصر، فبسبب تناوله قضايا شائكة وجرأته غير المعهودة اضطرت الحكومة المصرية في الثمانينيات إلى تشكيل لجنة من وزراء الداخلية والدفاع والثقافة لحسم مسألة عرضه، إذ دخل صناع العمل في معركة كبيرة مع الرقابة المصرية وانتهت تلك المعركة بحذف مشاهد عديدة من الفيلم ولم يُعرض كاملًا إلا عام 2005 بقرار من وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني.
في فيلم “البريء” أيضًا تم استغلال جهل السجان سبع الليل وشحنه بالكراهية ضد المعتقلين السياسيين، إذ صوره قادته في الشرطة بأنهم أعداء الوطن وكفرة وسبب كل الشرور التي تحدث في المجتمع.
وبالعودة إلى فيلم “بسبوسة بالقشطة” يعاني السجان من المعضلة ذاتها ولكنه يكتشف خطأه ويدخل في صراع نفسي بشأن معتقداته حين يُصاب ابنه بالمرض ويحاول الطبيب المعتقل علاجه، وفكرة الفيلم هنا ورسالته تتلخص في أن الجميع، مؤيدين ومعارضين، بمركب واحدة والصراع المستمر بين الطرفين لن يؤدي إلا لتعثر الوطن.
جدير بالذكر أن الفيلم لم يشر من قريب أو من بعيد للحقبة التي تدور خلالها الأحداث، ولم يذكر أبدًا أن المقصود هو العصر الحاليّ ولكن الفيلم يستعرض شكلًا متكررًا من فترات الحكم المصري، حيث لم تتغير معاملة المعتقلين السياسيين وطبيعة ما يعايشوه داخل أقبية السجون المصرية.
رد فعل الإعلام المصري على الفيلم
في الفيلم الأمريكي Trumbo يحكي لنا المخرج جاي روتش عن الحملة الشرسة التي شنتها السلطات الأمريكية في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين على كل متعاطف أو مؤمن بالشيوعية وهو الأمر الذي نجم عنه في النهاية “قائمة هوليوود السوداء” التي كانت تضم كتابًا وممثلين وموسيقيين وصناع سينما ومخرجين اتهموا بالتآمر على الأمن القومي الأمريكي.
وقد جسد الفيلم ببراعة منقطعة النظير حالة التخوف الهستيري الذي شاب المجتمع الأمريكي خلال حقبة الحرب الباردة تجاه كل ما هو شيوعي، يومذاك حاصرت السلطة الأمريكية كل ما هو ليبرالي أو يساري في حقبة عُرفت بالحقبة المكارثية نسبة إلى السيناتور اليميني جوزيف مكارثي، بعدها دخلت “المكارثية” في قاموس السياسة لتعني الملاحقة والاضطهاد من الدولة وأجهزتها لكل من يعتنق فكرًا مناوئًا لها.
لم يكن هناك طريقة لاستعراض رد فعل الإعلام المصري على فيلم “بسبوسة بالقشطة” دون الحديث عن المكارثية في البداية، فبمجرد ظهور البرومو الترويجي للفيلم شن إعلام النظام المصري هجومًا شديدًا على الفيلم قبل مشاهدته، ففي برنامجه “على مسئوليتي” الذي يُذاع على قناة “صدى البلد” ذكر الإعلامي المصري أحمد موسى أن الفيلم يهدف إلى تشويه صورة الشرطة المصرية واعتبر أنه “فيلم تركي إخواني صُور داخل السجون التركية بعلم أردوغان” وهو الأمر الذي نفاه المخرج عبادة البغدادي، إذ أكد أن الفيلم لم يصور داخل السجون التركية، فشكلها يختلف تمامًا عن السجون المصرية.
كما قال المذيع محمد الباز في برنامج 90 دقيقة بقناة المحور الفضائية إن الفيلم يسعى لتشويه سمعة مصر في المحافل الدولية معتبرًا أن “جماعة الإخوان تروج للشائعات بهدف هز ثقة المصريين في بلدهم”، وأضاف الباز أن البرلماني المصري السابق أيمن نور سرق مليون دولار من ميزانية فيلم “بسبوسة بالقشطة” وهو الأمر الذي دفع قطر لتهميش دوره السياسي لصالح عزام التميمي، إذ إن هناك صراعًا محتدمًا بين الاثنين بشأن التمويلات القطرية وهو الأمر الذي نفاه أيضًا مخرج الفيلم، قائلًا بأن العمل اكتمل رغم الميزانية المتواضعة، إذ تبرع جميع المشاركين بجزء من أجورهم حتى يظهر الفيلم للنور وكل الحديث عن صرف ملايين الدولارات على إنتاجه خرافات غير صحيحة روج لها إعلام النظام بإملاءات سياسية.
حالة الذعر التي تملكت إعلام النظام كرد فعل على فيلم “بسبوسة بالقشطة” قبل حتى مشاهدته والحكم على محتواه الفني ورسالته تتشابه إلى حد كبير مع ما حدث في الولايات المتحدة خلال حقبة “المكارثية”، ولكن المرعب هنا ما يقوم به إعلام النظام من تشظٍ فكري مجتمعي شديد الخطورة يخلق أنساقًا من الذوات المجرّمة للخصم السياسي والفكري وذلك من خلال رميه بكل نقيصة وتشويه صورته ومنتجه في الداخل والخارج، وهو الأمر الذي قد يتحول في النهاية إلى كرة متدحرجة ملتهبة لا قبل لأحد بإيقافها أو التقليل من التهامها لتماسك أبناء الوطن الواحد.
في النهاية ما أثاره فيلم “بسبوسة بالقشطة” لا علاقة له بتشويه الشرطة المصرية ولا المساس بالأمن القومي، ولكنه تحدث فقط عن الوضع القاتم للمساجين السياسيين هؤلاء الذين بُحت أصواتهم في السنوات الأخيرة وهم يطالبون فقط بظروف سجن عادلة لا تنتهك آدميتهم ولا تنخر في عظامهم وتدمر صحتهم ويتساقطون واحداً تلو الآخر دون أن يتحدث عنهم إعلام النظام ولا عن حقوقهم الإنسانية، وربما هذا هو دور المعارضة ودور الإعلام المعارض إذ لا يجب أن يقتصر الأمر على البرامج السياسية بل يمتد للأعمال السينمائية والدرامية التي تشكل تاريخًا موازيًا للشعوب.