مرت أمس الذكرى الـ31 عامًا لتأسيس اتحاد المغرب العربي الذي يبقى إلى اليوم مشروعًا مجمدًا بسبب الخلافات الموجودة بين أعضائه الخمس التي أجلت تحقيق الحلم المغاربي، رغم حاجة المنطقة وشعوبها اليوم أكثر من أي وقت مضى للاتحاد وتنفيذ الأهداف التي أسس من أجلها لمواجهة التحديات المحلية والإقليمية التي ترهن مستقبل منطقة الشمال الإفريقي ككل.
وفي 17 من فبراير/شباط 1989، اجتمع قادة دول الجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والمغرب الذي احتضن لقاءً تاريخيًا تم خلاله إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي، إحياءً لمؤتمر طنجة التاريخي الذي كان في أبريل/نيسان 1958.
قضية مستعجلة
بالنسبة للجزائر، فإن تفعيل عمل هياكل اتحاد المغرب العربي يكتسي طابعًا استعجاليًا في الظرف الحاليّ، بالنظر للتحديات المطروحة على الساحة المغاربية، وشكل الملف محور نقاش واسع يوم الإثنين بالبرلمان الجزائري، حيث لفت المدير العام للبلدان العربية بوازرة الخارجية الجزائرية مرحوم أحمد مراد إلى “الضرورة الملحة والأكيدة لتفعيل اتحاد المغرب العربي، الذي تفرضه مجموعة الأخطار والأطماع التي تستهدف المنطقة”.
لكن الأمين العام لمجلس الشورى لاتحاد المغرب العربي سعيد مقدم يعتقد أن الدفع بالاتحاد المغاربي نحو الطريق الصحيح لا يتوقف عند تفعيل عمله فقط، إنما أيضًا “من الضروري كذلك مراجعة الاتفاقية التأسيسية لاتحاد المغرب العربي وهيكلته الإدارية، ورسم إستراتيجيات عمل على المديين القصير والمتوسط للنهوض باقتصادات دول المنطقة وتعزيز التنمية الاجتماعية”.
وقال رئيس المجلس الشعبي الوطني (البرلمان) سليمان شنين بمناسبة إحياء هذه الذكرى التاريخية إن اتحاد المغرب العربي يعد “طموحًا مشتركًا وتطلعًا مشروعًا للشعوب وفضاءً خصبًا للتكامل الاقتصادي والتواصل العلمي والثقافي والإنساني”، وأضاف شنين أن “الطبيعة المركبة للرهانات والتحديات والتهديدات التي تفرزها تحولات العلاقات الدولية تقتضي من دول المغرب العربي العمل برؤية استشرافية وبمنطق إستراتيجي وبمنهجية بناءة وخلاقة للفرص لتحقيق تطلعات شعوب المغربي العربي الكبير”.
ولا تتوقف هذه النظرة على الجانب الجزائري فقط، بل إن جميع الدول مدركة لأهمية تفعيل الصرح المغاربي، فقد جددت تونس تمسكها بهذا المشروع الحضاري الذي يمثل خيارًا إستراتيجيًا ومكسبًا تاريخيًا لبلدان المنطقة وشعوبها، لما يفتحه من آفاق واعدة وما يوفره من أسباب القوة والمناعة لمواجهة التحديات المشتركة، وكسب رهانات التنمية والتقدم وتوطيد مقومات الأمن والاستقرار في ربوعه وتعزيز التضامن بين شعوبه”.
غير أن هذا الطابع الاستعجالي والأهمية التي تتحدث عنها مختلف الدول المشكلة لاتحاد المغرب العربي تبقى مناسباتية، لا تترجم إلى تحركات ميدانية توقظ هذا التكتل من السبات الذي يعيشه، وتنتشله من المشاكل التي يغرق فيها منذ تأسيسه، بل مع مرور الزمن ازداد الوضع تعقيدًا.
مجرد شعارات
قد لا يمثل هذا الخطاب القادم من الجزائر أو من مختلف الدول الأخرى نظرة وإرادة جديدتين بالنسبة لكثير من شعوب المنطقة، لأن الشعوب المغاربية اعتادت سماع هذه الأسطوانة يوم 17 من فبراير/شباط من كل سنة، إذ إن الدعوات التي أطلقها خلال السنوات الماضية الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة ونظيريه التونسي الراحل الباجي قايد السبسي والمغربي محمد السادس لم تلق طريقًا للتنفيذ حتى اليوم رغم عبارات الترغيب في الاتحاد والترهيب من خطر الفرقة التي تضمنتها.
وقبل عامين من هذا التاريخ، شدد الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة على ضرورة “النهوض بمؤسسات اتحاد المغرب العربي وتنشيط هياكله بما يمكن من الذود عن المصالح المشتركة لبلدانه”، غير أن هذه الدعوة لم تلق استجابة من باقي الأطراف المغاربية، كما لم تعمل الجزائر أيضًا على الدفع بها إلى الأمام، لأن الفشل كان نتيجة معروفة لمختلف المحاولات التي سعت إلى رفع الجمود عن هذا التكتل المغاربي.
ويرجع الفشل في ترجمة الأقوال إلى أفعال إلى أن لا أحد من الدول المغاربية الأعضاء يملك الجرأة لوضع الدواء على الجرح حتى ولو كان مرًا، والحديث بصراحة عن الخلافات الحقيقية بين هذه الدول رغم كم العوامل المشتركة التي تجمع بين شعوبها أكثر مما تفرقها.
كما يعود هذا التعثر المتواصل في بعث الاتحاد المغاربي إلى ارتباط كل دولة بأجندات تصنعها البلدان الغربية، خاصة فرنسا التي تبقى لها اليد في صناعة القرار على المستوى المغاربي، إضافة إلى أن الخلاف القائم بين الجزائر والمغرب الذي أدى إلى غلق حدودهما المشتركة ساهم هو الآخر في عدم وجود نية حقيقية لحلحلة الوضع، بالنظر إلى عدم استطاعة الرباط بلع إمكانية لعب جارتها الغربية دور الريادة في المنطقة بالنظر إلى موقعها الجغرافي الذي يتوسط الدول الخمسة، وكذا الحساسية والتنافس المفرط المعلن والخفي بين البلدين الذي أضر حتى اليوم بمستقبل المغرب العربي أكثر من نفعه.
ولا يمكن أيضًا إهمال ملف الصحراء الغربية في بقاء الاتحاد المغاربي مجمدًا، فالمغرب الذي وقع عام 1989 الاتفاق التأسيسي الذي تضمن إخراج الصحراء الغربية من الملفات المطروحة على مستوى الاتحاد، لم يف بذلك ويقحم هذا الموضوع كل مرة في تعزيز علاقاته مع الجزائر بل يتهمها أنها طرف في هذا النزاع الأممي.
وبسبب استمرار ما تعتبره الجزائر “احتلالًا مغربيًا” للصحراء الغربية، وتجربتها في “حرب الرمال” لما حاولت الرباط اجتياح الحدود الغربية الجزائرية عام 1963، واستمرار التصريحات الاستفزازية لبعض الأحزاب المغربية باسترجاع مناطق من الجزائر وموريتانيا، لا تتردد الجزائر في خوفها من “النزعة التوسعية” لنظام المخزن المغربي، وفي إعطاء الثقة اللازمة لتصريحاته التصالحية.
مشاكل داخلية
رغم أن الحل لكثير من الرهانات التي تعيشها دول الاتحاد المغاربي قد يأتي من تكتلها وتفعيل التعاون المشترك، فإنها حتى الآن لا تزال تستبعد هذه الطريقة للخروج من التخلف الذي تعيشه خاصة في المجال الاقتصادي، وتبقى حتى اليوم منهمكة بمشاكلها الداخلية.
وبالنظر إلى كل بلد وظروفه، فالجزائر اليوم تعيش مشاكل سياسية تتمثل في استمرار الحراك الشعبي الذي انطلق في 22 من فبراير 2019، وبالنسبة لها فإن معالجة انشغالاتها الداخلية أولى من كل الملفات الخارجية، وهو الموقف الذي عبر عنه الرئيس عبد المجيد تبون الذي قال إن تمتين الجبهة الداخلية أولوية بالنسبة له، رغم العودة البارزة لبلاده في حل الأزمة الليبية.
ولا يختلف الوضع كثيرًا في المغرب، فرغم ظهور النظام مستقرًا نوعًا ما، لا يمكن إغفال جملة من المشاكل تتمثل في انبطاح نظام المغرب كليًا للأجندات الخارجية مقابل تسوية أممية لقضية الصحراء الغربية وفق مقترح الحكم الذاتي الذي يريده بدل الاستقلال، الذي تمثل في العمل على فرنسة منظومته التربوية لتقديم تنازلات جديدة لباريس التي تدعم موقفه ومساعيه الحثيثة للتطبيع مع “إسرائيل” حتى لو كان ملكه من يرأس لجنة القدس، إضافة إلى مشكلة منطقة الريف.
أما تونس التي تتولى الأمانة العامة لاتحاد المغرب العربي، فأزمتها السياسية الأخيرة زادت من مشاكل البلد الوحيد الذي يسعى لإنجاح تجربته بعد ثورات الربيع العربي، وهي الأزمة التي وصلت حتى أمانة الاتحاد المغاربي بعد مساعي الرئيس قيس سعيد لانهاء مهام الطيب البكوش.
وبالنسبة للبلدين الآخرين (ليبيا وموريتانيا) فوضعهما واضح، فطرابلس غارقة في أزمتها الأمنية والسياسية والصراع الدولي على خيراتها الذي أفرز صراعًا بين مليشيات خليفة حفتر وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا، ونواكشط تواجه تحديات أمنية بسبب عدم الاستقرار في منطقة الساحل، كما أن إمكاناتها المالية الضعيفة جعلتها محل تدخلات متواصلة لقوى دولية تريد أن تكون لها يد في المنطقة.
يعتقد الخبراء أن ثروة المنطقة المغاربية أكبر بكثير من المصرح به، بالنظر إلى أن العديد منها لا تزال غير مكتشفة بسبب قلة الإمكانات العلمية لها وغياب الإرادة السياسية والاقتصادية للاستثمار الحقيقي المنتج في هذه الثروات
ثروة ضائعة
تسبب هذا التشتت المغاربي في ضياع قوة أقليمية واقتصادية لدول المنطقة حتى على المستوى الجهوي، إذ صنف التكتل المغاربي الحاليّ كأضعف الاتحادات الجهوية الإفريقية الثمانية، وفق ما توصلت إليه اللجنة التنفيذية للاتحاد الإفريقي عام 2016.
ولذلك، يؤكد الأمين العام لمجلس الشورى لاتحاد المغرب العربي سعيد مقدم أن المنطقة المغاربية في حاجة إلى تموقع إستراتيجي على وجه أمثل في خريطة التجمعات الاقتصادية الناشئة، خاصة أنها تحوز مقومات “لا يستهان بها” يمكن استغلالها واستثمارها مغاربيًا حتى تشكل قوة تقول كلمتها في المحافل الإقليمية الدولية.
وحسب سعيد مقدم، فتتمثل هذه المقومات في موقعها الإستراتيجي ومواردها الطبيعية والبشرية الهائلة، فهي تتربع على مساحة شاسعة تقدر بنحو 6 ملايين كيلومتر مربع، ويقطنها أكثر من 100 مليون نسمة، وتتوافر على 1.400 مليون كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية واحتياطي نفطي يبلغ ما يقارب 60 مليار برميل وغازي مقدر بـ6 تريليونات متر مكعب.
ويعتقد الخبراء أن ثروة المنطقة المغاربية أكبر بكثير من المصرح به، بالنظر إلى أن العديد منها لا تزال غير مكتشفة بسبب قلة الإمكانات العلمية لها وغياب الإرادة السياسية والاقتصادية للاستثمار الحقيقي المنتج في هذه الثروات.
والأكيد أن السنوات القادمة ستفرض على القادة المغاربة العمل على الوصول إلى الاتحاد الحقيقي لتحقيق حلم الشعوب في مغرب عربي موحد عبروا عنه في العديد من المرات حتى في المنابر والمناسبات الرياضية، وإلا سيلفظهم التاريخ خارج مساراته، لأن التحديات والرهانات التي تواجهها وستواجهها المنطقة المغاربية صارت لا تقبل مزيدًا من التشتت والفرقة.