كثفت فرنسا الاستعمارية خلال خمسينيات القرن الماضي عملياتها السرية ضد رموز الحركات الوطنية في تونس والجزائر والمغرب، فأنشأت لذلك وحدة خاصة بالاغتيالات تحمل اسم “اليد الحمراء”، وأسندت لها وظيفة تصفية معارضي الاحتلال الفرنسي للمنطقة بشكل سري.
في هذا التقرير الجديد لـ”نون بوست”، ضمن ملف “جرائم فرنسا في إفريقيا”، سنتطرق معًا لهذه المنظمة التي تنكرت من خلالها المخابرات السرية الفرنسية في إفريقيا كإرهابيين، وكانت بمثابة آلة القتل لهذه الأجهزة الفرنسية.
آلة القتل لأجهزة المخابرات الفرنسية
في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، تنامى الوعي الوطني وتزايد عمل نشطاء الحركات الوطنية المناهضين للاستعمار والمطالبين باستقلال دولهم وخروج المحتل الفرنسي من دول شمال إفريقيا التي تفنن في إذلال أهلها وسرقة خيراتها والتحكم في قرارها السيادي وطمس هويتها.
في تلك الفترة أبدى المستعمر الفرنسي في العلن حسن النية، وأكد رغبته في منح دول المنطقة استقلالها، خاصة بعد الضربات التي تلقاها من المقاومين وبداية تشكل وعي عالمي جديد يرتكز على ضرورة منح المستعمرات حقها في تقرير مصيرها.
كان هذا في العلن فقط، أما واقعيًا فقد كان المستعمر الفرنسي يعمل على إطالة أمد بقائه هناك، ورأى في تصفية رواد الحركات الوطنية سبيلًا لذلك، فأسس منظمة مسلحة ترتبط بالأجهزة السرية الفرنسية، وتكون مهمتها تصفية نشطاء الاستقلال من المغرب والجزائر وتونس.
هذه المجموعة السرية، أوكلت لها مهمة اغتيال رموز ومؤيدي حركات الاستقلال في دول شمال إفريقيا الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي
التأسيس الأول لهذه المنظمة المسلحة التي حملت اسم “اليد الحمراء” تم في ظل الجمهورية الرابعة تحديدًا سنة 1952، حيث شكلها جهاز المخابرات الفرنسي، تحديدًا مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس التي كان يقودها حينها بيار بورسيكوت، وبدأت عملها أولًا في تونس والمغرب.
تضاعف نشاط هذه المجموعة في ظل الجمهورية الخامسة، ففي سنة 1957 طور الجنرال بول غروسان الذي كان يدير مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس”(SDECE)، طريقة عمل هذه الشبكة ووسع نشاطها لتشمل أيضًا الجزائر ودول أوروبية تأوي مساندين لحركات التحرر على غرار ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا وسويسرا، وعين قنسطنطين ملنيك على رأس هذه المجموعة.
يذكر أن مصلحة الوثائق الخارجية ومكافحة التجسس (SDECE)، هي الوحدة المعنية بمتابعة الأحداث الخارجية وتوثيقها بالإضافة إلى مكافحة التجسس، وهذه الوحدة هي المكلفة بالتضليل الإعلامي إلى جانب تنفيذ الانقلابات وقد نجحت في بعض مهامها وفشلت في البعض الآخر.
استهداف قادة الحركة الوطنية في تونس
اغتيال فرحات حشاد
هذه المجموعة السرية أوكلت لها مهمة اغتيال رموز ومؤيدي حركات الاستقلال في دول شمال إفريقيا الواقعة تحت الاستعمار الفرنسي، وكانت البداية من تونس، حيث تم اغتيال الزعيم السياسي والنقابي التونسي الذي أسس الاتحاد العام التونسي للشغل فرحات حشاد، بحسب أنطوان ميليرو، وهو شرطي في الدار البيضاء شارك في العمليات، حيث ارتكبت اليد الحمراء نحو 40 هجومًا في تونس.
اُغتيل حشاد في 5 من ديسمبر/كانون الأول 1952، وعثر على جثته في طريق بمنطقة نعسان قرب تونس العاصمة وعليها آثار طلقة نارية في الرأس ووابل من الرصاص في الجسم، وقد اعترف أنطوان ميلير عضو المنظمة الفرنسية السرية “اليد الحمراء” في كتاب أصدره عام 1997 بعنوان “اليد الحمراء: الجيش السري للجمهورية” بوقوف فرنسا وراء اغتيال حشاد.
عرف حشاد، بدفاعه الكبير عن حقوق العمال واستقلال تونس من الاستعمار الفرنسي، وقد أسس في 20 من يناير/كانون الثاني 1946 الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر منظمة نقابية في تونس، وانتخب أول أمين عام له.
اعتقال السلطات الفرنسية جميع الزعماء الوطنيين بعد فشل محادثات الاستقلال بين تونس وفرنسا بداية سنة 1952، حتّم على فرحات حشاد قيادة المقاومة التونسية، ففتح باب الكفاح المسلح السري ضد الاستعمار الفرنسي وشرع في تنظيم إضرابات وتحركات شعبية كان لها تأثير كبير على المستعمرين الذين تأكدوا أنه من يدير المقاومة، فأصبح مطلوبًا لديهم.
اغتيال الهادي شاكر
فضلًا عن فرحات حشاد، أقدمت هذه المجموعة الفرنسية السرية على اغتيال القيادي البارز صلب الحزب الدستوري الجديد “الهادي شاكر” في 13 من سبتمبر/أيلول 1953 وهو في منفاه بمدينة نابل شمال شرق تونس العاصمة.
يرجع اغتيال الهادي شاكر، إلى دوره الكبير في تنظيم صفوف الحركة الوطنية، حيث ترأس المؤتمر الرابع للحزب الدستوري الجديد الذي انعقد بسرية يوم 18 من يناير/كانون الثاني 1952، وهو نفس اليوم الذي ألقي فيه القبض على رئيس الحزب الحبيب بورقيبة، وما لبث أن ألقي عليه القبض هو أيضًا ونفيه إلى مدينة طبرقة ثم رمادة فجربة فتطاوين، وأخيرًا مدينة نابل التي اغتيل فيها.
عبد الرحمان مامي
إلى جانب هؤلاء، استهدفت “اليد الحمراء” عبد الرحمان مامي، يوم 13 من يوليو/تموز 1954، ويعتبر مامي أحد زعماء الحركة الوطنية، وقد كان أحد أعضاء اللجنة التي كونها “الأمين باي” في صيف 1952 لدراسة الإصلاحات الفرنسية، التي رفضتها هذه اللجنة في النهاية لخلوها من مطالب الاستقلالية والسيادة الوطنية.
كان مامي ساعة اغتياله ممتطيًا سيارة من نوع بيجو رفقة ابن عمه الطاهر الذي توفي على عين المكان في حين نقل عبد الرحمان إلى المستشفى على متن شاحنة حيث توفي هناك، فيما فر الشخص الذي كلف بتنفيذ الاغتيال إلى جهة قمرت ولم يُقبض عليه.
وجاء اغتيال عبد الرحمان مامي لمكانته الكبيرة في صفوف نشطاء الحركة الوطنية، فقد كان يشارك بكثافة في الاجتماعات والتحركات وخاصة صلب الحزب الدستوري القديم كما كان همزة وصل بين الحزبين الدستوريين القديم والجديد.
عمليات سرية في المغرب
عمل هذه المجموعة السرية شمل المغرب أيضًا كما قلنا في الأعلى، حيث تم يوم 11 من يونيو/حزيران 1955 اغتيال الناشط السياسي الفرنسي المدافع عن استقلال المغرب جاك ليمايي دوبريويل، وقد تم اغتيال دوبريويل في الدار البيضاء، في الساحة التي تحمل اسمه الآن، عند سفح مبنى الحرية الذي كان يعيش فيه.
شهدت مدينة الرباط المغربية يوم 28 من نوفمبر/تشرين الثاني 1958 اغتيال المحامي ألفونس أوجست توفيني في انفجار قنبلة وضعت في سيارته، فكان ألفونس أوجست عضوًا في مجموعة محامي جبهة التحرير الوطني الجزائرية.
قبل عملية اغتياله، تم القبض ألفونس أوجست توفيني في بداية عام 1957، على أيدي شرطة محافظة وهران، واحتُجز لمدة 11 شهرًا، بعدها تم إطلاق سراحه مؤقتًا، ثم وقع ترحيله إلى فرنسا، وفي مارس/آذار 1958، لجأ إلى المغرب حيث اعتقد خطأً أنه آمن، ليتم اغتياله هناك.
استهداف الثورة الجزائرية في أوروبا
الاغتيالات التي استهدفت نشطاء حركات التحرر والداعمين لهم في دول أوروبا كانت عديدة، خاصة في ألمانيا الغربية وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا، وقد كانت العملية الأولى في هامبورغ (ألمانيا) يوم 28 من سبتمبر/أيلول 1956، حيث تم استهداف مكاتب شركة أوتو شلوتر، مزود أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية بقنبلة، مما أدى إلى مقتل شريكه متأثرًا بجراحه الخطيرة وإصابة والدته.
3 من يونيو/حزيران 1957، استهدفت مجموعة اليد الحمراء مرة أخرى رجل أعمال وتاجر أسلحة في هامبورغ أوتو شولتر عبر تفجير سياراته، لكنه نجا من الحادثة فيما أصيبت ابنته بجروح خفيفة وأصيبت والدتها بجروح قاتلة.
يوم 9 من سبتمبر/أيلول 1957 أقدمت عناصر تابعة لمجموعة “اليد الحمراء” على اغتيال جورج جيتسر، في جنيف السويسرية، بسهم مسمم أطلق من بندقية، وكان جيتسر يدير مصنعًا لتصنيع القنابل اليدوية والألغام في علاقة بالمقاومة الجزائرية.
في 5 من نوفمبر/تشرين الثاني 1958، شهدت مدينة بون الألمانية عملية جديدة لليد الحمراء، حيث تم إطلاق الرصاص على مندوب جبهة التحرير الوطني في ألمانيا الغربية المحامي أمزيان آيت أحسن، البالغ من العمر 27 عامًا بواسطة رشاشة أمام السفارة التونسية هناك.
وكان المحامي أمزيان آيت أحسن بمثابة حلقة الوصل بين جبهة التحرير الوطني الجزائرية ومهربي الأسلحة في ألمانيا الغربية، وأرادت فرنسا تصفيته للحد من وصول الأسلحة الألمانية للمقاومين الجزائريين.
الاغتيالات شملت أيضًا الجزائريين في فرنسا، ففي يوم 21 من مايو/أيار 1959، استُهدف المحامي الجزائري أمكران ولد عوديه بالرصاص أمام مكتبه في شارع سان مارك بباريس بناءً على أوامر من أجهزة المخابرات الفرنسية، ويعتبر ولد عوديه أحد أبرز المحامين الذين يدافعون عن نشطاء جبهة التحرير الوطني خلال الحرب الجزائرية.
لم تكتف هذه الفرقة الأمنية السرية بهذه العمليات التي ذكرناها في هذا التقرير فقط، فقد قامت بعمليات عديدة أخرى، نجح بعضها وفشل البعض الآخر، حتى إنها استهدفت سفنًا تجارية ادعت السلطات الفرنسية أنها تعمل لصالح المقاومة في دول شمال إفريقيا، والهدف من كل ذلك ضرب حركات التحرر والبقاء في المنطقة للتمتع بخيراتها والتحكم في مستقبلها ومصير أبنائها.