الفكرة تتحول إلى قوة حين تعتنقها الجماهير، ويغدو بنيانها وصورتها أكثر وضوحًا كلّما استوت ونضجت في أرض العمل، فهناك المختبر الحقيقي لواقعيتها وصوابها، وحتى لمدى ثباتها ورسوخها في قلوب أصحابها، فتغدو على هيئة إنسانٍ حيٍّ، يتحرك ويهاجم ويدافع في الوقت ذاته، وهكذا تستمر الفكرة تقتاتُ على قلوب حامليها لا تكلّ ولا تنضب، في بحثٍ دؤوب عمن يعيد لها صياغاتها الفعلية بعيدًا عن خطابات التنظير، وأفق المساومة عليها، ومحطات اجتراح البدائل لمجرد أننا لم نكن أهلاً لحملها والعيش فيها ومعها.
هذه الصورة الحقيقة تبدو أكثر قربًا في حديثنا عن غزة، التي استطاعت من خلال “النفق” أن تتفوق على عدوها في واحدٍ وخمسين يومًا، ليغدو فيها معلمًا دالاًّ على جهوزيّتها وشراستها في الدفاع عن فكرة الوجود، والانتماء لكل ما يتصل بمعنى التحرر، فقد استطاع النفق أن يعيد تشكيل خطاب الفلسطيني لذاته، بعيدًا عن لغة الاستجداء واستحضار محطات التشرّد والهزيمة، وأن يرمم وعيه في مسارات المقاومة المبصرة، وأن يضفي معاني جديدة للعمل المرحلي التراكمي، فالنفق استطاع إعادة تعديننا وصياغتنا بالنص والصورة، ليبقى منبهًا تستحضره النفوس كلّما مسها فتور، أو أسدلت ستائر معركة الوجود.
واتصالاً بما حققته المقاومة بإيمانها العميق وتكوينها الدقيق، وبالعمل والتطبيق، لم يزل أصحاب “الهوس النهضوي” وشعارات إنقاذ الأمّة وتغيير الذات، يعيشون في خرافة، ما لم يستشهدوا بآيات الأنفاق والمقاومة في غزة، وما لم يدركوا أن الأفكار الحقيقية والمفاصلة الكاشفة بين واقعية النظريات ووهميتها، تولد من قلب الحرب، من كبد المعاناة، من نفوس تجد في الدفاع عن حاضر الانتماء فعلاً يسبق كل قول، ففي غزة كل الأمانيّ والطموحات تحقق من مسافة الصفر، فهي أرض عمليات الإزاحة في الداخل، والتفكير من خارج الصندوق، والانطلاق من ضيق الجغرافيا إلى سعة الرؤيا، ومن سطور تاريخية الأحداث إلى أفق العقيدة العملية الراسخة.
وأمام هذا النموذج، هل ستتمكن الضفة الغربية من أن تحفر أنفاقًا خاصة بها، وأن تفكّر بطريقة غير مألوفة تخرج فيها عن سياسات التنسيق الأمني، وتحرر نفسها من الارتهان لحبائل اقتصادية وأمنية حوّلت بندقيتها إلى مجرد صورة على جدار! أم أن واحدًا وخمسين يومًا ليست كافية لتصنع منها جهوزية كافية لإتمام مسيرة المقاومة عملاً، لاسيما أن أبناءها يعودون من مدارسهم باكرًا إلى البيوت بحجة التضامن مع غزة، ولم تزل الجهود والطاقات تنظّم في قالب – مقاومة ما بعد أوسلو – بحملات جمع التبرعات بدلاً من التوجه إلى مناطق التماس، والتنسيق الأمني واستدعاء الشباب مافتئ جزءًا من مشهد عام لم يزدد فيه سوى التأييد للمقاومة شكلاً كما الترانيم الشعبية لها، يبدو أننا إن لم ندافع عن شيء، فسنضطر لتصديق أي شيء، والخضوع لكل محاولات التدجين بعيدًا عن المقاومة كفكرة ومؤسسة وشخصيات، لا بد أن نبني في داخل كلّ منا نفقًا، نطلُّ به على غزة، عندما تشيب مقاومتنا وترتخي عزائمنا.