العالم في واد واليمن في واد آخر، الجميع يتحدث عن خطورة الرتب العسكرية المزيفة التي تلقى بالمجان من كل الأطياف المتصارعة لإغراء الشباب والاستمرار في الحرب بلا توقف حتى آخر نفس، بينما الفقراء في اليمن على حالهم، يتنافسون في اختراع كيفيات جديدة لتمكين الموالين لهم من أرفع المستويات والمناصب العسكرية، وأصبحت مشاهدة شباب ومراهقين يتجولون في الشوارع وهم يحملون رتبًا عسكرية مختلفة، دون خلفيات دراسية في الكليات العسكرية المعروفة في البلاد، أمرًا يشهد على إفلاس الحوثي والحكومة معًا، لا سيما الأخيرة التي لجأت لنفس الحيلة، لتحفيز المقاومة التابعة، رغم امتلاكها الشرعية التي تلزمها بالدفاع عن القانون والالتزام به والاحتكام إليه!
منح الرتب العسكرية لمن لا يستحق.. لماذا؟
منذ أشهر وترقية الحوثيين (جماعة أنصار الله) لرئيس ما يسمى “المجلس السياسي”، مهدي المشاط إلى رتبة “مشير”، تلقي الضوء على حالة السخط الدائرة بالأوساط العسكرية اليمنية، بسبب هذه المظاهر غير القانونية التي تضيع هيبة المؤسسة العسكرية بين أقرانها من بين بلدان العالم.
بحسب المادة 13 من قانون رقم 67 لسنة 1991، المعنية بالخدمة في القوات المسلحة والأمن الداخلي، يعين كل الضباط لأول مرة بقرار من رئيس مجلس الرئاسة، بتوصية من لجنة الضباط العليا واقتراح من الوزير المختص، ويشمل القانون جميع أنواع الفئات، ومنها خريجي الكليات والمعاهد العسكرية والشرطية اليمنية، وخريجي الكليات العسكرية وكليات الشرطة العربية والأجنبية المعترف بها من الجهات المختصة في الجمهورية.
هذه الضوابط المشددة التي تتحكم في عملية الانتساب للمؤسسات الأمنية، وضع القانون العسكري اليمني ضوابط أشد قسوة منها لمن يتولى رتبة المشير، ليجلس على قمة النظام العسكري داخل المؤسسة، ولهذا لم يتمتع بهذا المنصب منذ ستينيات القرن الماضي إلا المشير عبد الله السلال أول رئيس بعد الثورة اليمنية على الحكم الإمامي في العام 1962، والرئيس الأسبق علي عبد الله صالح، والرئيس الحاليّ عبد ربه منصور هادي، حيث يلزم القانون الحصول أولًا على 10 رتب عسكرية أخرى، قبل أن يصعد المرشح للرتبة الـ11، التي لا تقلد إلا من خلال رئيس البرلمان ولمن تنطبق عليه الشروط.
لكن هذه الإجراءات المشددة لتحصين أعلى منصب عسكري في البلاد، لم يعد يعتبرها كل من الحوثي والحكومة، طريقة موضوعية في مكافأة خيرة قادتهما، ولهذا كان كافيًا جدًا للأول، وجود يحيى الراعي الرئيس السابق لمجلس النواب ورئيس المجلس السياسي الأعلى، لشرعنة تكريم مهدي المشاط، أحد أخطر المطلوب رأسهم للتحالف العربي، بعد منحه رتبة مشير، خلفًا للقيادي الحوثي صالح الصماد الذي قتل في أبريل من العام الماضي، بعملية جوية للتحالف بالحديدة، غربي اليمن.
الضجة التي أثارها، قرار تعيين المشاط مشيرًا للجيش، ولو تحت قيادة حوثية، جعلت وسائل الإعلام، تلقي الضوء على المواصفات القانونية اللازمة التي تؤهل للحصول على أعلى رتب الجيش العسكرية، أهمها مدة الخدمة العسكرية التي يجب أن لا تقل بأي حال عن 40 عامًا، يكون خلالها الضابط حصل على عدد من الأوسمة وشغل عددًا من الإدارات والمؤهلات العسكرية العليا، وهي مواصفات لا يعرفها المشير الجديد للجيش.
لم يمر المشاط على أكاديمية الحرب العليا والدفاع الوطني التي تدرس مواد تعادل ما يحصل عليه أستاذ دكتور في العلوم العسكرية، فضلًا عن التدرج في المناصب العسكرية، بداية من قائد فصيلة إلى سرية، مرورًا بكل مستوىات قيادة الكتيبة، وحتى يصبح قائد لواء، يجب عليه أن يجتاز 4 مناصب أخرى، بجانب الحصول على عدد من الدورات التدريبية والشهادات العسكرية واجتياز درجة الماجستير في العلوم العسكرية وكلية الأركان العامة، ومع كل هذه الألغام لكي يصل المرشح إلى المقعد الأول في الجيش، يجب أن يكون ملف الضابط نظيفًا جدًا، دون أن تسجل عليه أي مخالفات، فضلًا عن تمتعه بروح القيادة، وأن يكون تحت المجهر ونال العديد من الجوائز والأوسمة.
لم يلتفت الحوثي كثيرًا للاستياء الشديد وحالة السخط الكبيرة في الأوساط العسكرية اليمنية، ردًا على تولية شاب ثلاثيني هذه الرتبة الرفيعة وتجاهل نظام الترقيات العتيد في القوات المسلحة الذي يضع خطًا فاصلًا لمدد زمنية تبلغ 4 أعوام بين كل رتبة وأخرى، من ملازم وحتى عقيد، وتقل إلى 3 سنوات لنظام الترقيات للرتب الأعلى، ويضيق للغاية على منح أي رتب استثنائية، حيث تكون رتبة واحدة فقط في هذا النظام، ولمبررات واضحة ومعلنة.
وضع الحوثيون أيديهم على جميع القواعد العسكرية، وبنفس معايير اختيار المشير الجديد، اختاروا أحد قادة ميدان القتال، يحيى سريع، ومنحوه رتبة عميد، بجانب رئاسته للتوجيه المعنوي في صنعاء، والناطق الرسمي باسم قواتها، مع أنه لم يلتحق بالجيش مطلقًا ولا يحمل أي مؤهل حتى الآن، ولا يتجاوز عمره 26 عامًا، ويدرس سريع العلوم السياسية وما زال في المستوى الرابع بجامعة صنعاء، وعلى نفس النهج تم تعيين الصحفي عبد الله عامر، نائبًا لرئيس التوجيه المعنوي، برتبة عقيد في الجيش، رغم أنه لم يلتحق بالجيش أيضًا ولا يملك أي مؤهلات أو خبرات تجعله بالجدارة التي تليق بالمنصب.
سر صمت الجيش على ضرب مصداقية الرتب العسكرية
قبل الوصول إلى هذا المشهد، توغل الحوثيون في بنية الجيش، منذ انقلاب 21 من سبتمبر 2014 الذي قامت به ميليشيات الحوثيين وخاصة في المراكز القيادية على مستوى الميدان والإدارة، ومع ازدياد قبضة الحوثي على المؤسسة العسكرية، تحوَل معها الكثير من قادة الجيش إلى مجرد كتبة ومسيري أعمال.
وضع الحوثي شبابًا صغير السن ينتمي إليه فكريًا وعقائديًا، في وضع أعلى من القيادات، للتحكم بهم وشل خطواتهم، وأطلق عليهم “المشرفين” وهؤلاء يتبعون ما يسمى “اللجان الثورية” الحوثية، ما ضاعف الشعور بالإهانة لدى الكثير من أفراد وضباط الجيش، وخاصة الرافضين منهم لسيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة دون أي مواجهة.
التحديات التاريخية التي عاشها الجيش اليمني على مدار تاريخه كثيرة للغاية
هذا الشكل الجديد في إدارة الجيش، أجبر عددًا كبيرًا من القادة والضباط على مغادرة العاصمة، خاصة أبناء الجنوب، في تكرار لما حدث قبيل حرب 1994، ثم زادت هذه الموجة إثر هروب الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى عدن في فبراير 2015، ولم يقتصر ذلك على الجنوبيين فحسب، بل على كثير من الضباط الشماليين.
التذمر العسكري جعل ميليشيات الحوثيين، تسرع من عملية الإحلال والتجديد للقيادات، وحتى تمكن الشباب على الكبار، كان لا بد من ضرب المعايير المعمول بها في القوات المسلحة، وتحججت بالظروف الاستثنائية للبلاد، التي استخدمها من قبل الرئيس الأسبق علي عبد الله صالح الذي عمل على تجنيد المشايخ والوجهاء ومنحهم رتبًا عسكرية رفيعة ومرتبات شهرية مقابل الولاء له، بحسب كتاب الأزمة السياسية اليمنية (1990 – 1994) الصادر عن جامعة الحديدة.
خطة التعامل الميليشياوي مع الجيش، بعد تجميد كبار قادته وتولية الشباب دعمها سيطرة الحوثيين، بجيش يزيد على عشرة آلاف رجل أو أكثر، فضلًا عن الاستحواذ على معسكرات كبيرة للجيش ومئات الدبابات والعربات إضافة إلى مدافع رشاشة وصواريخ خلال الأشهر الأخيرة، لدرجة أنهم سيطروا فعليًا على نحو 70% من قوة الجيش اليمني المنهار.
يمكن القول، إن التحديات التاريخية التي عاشها الجيش اليمني على مدار تاريخه كثيرة للغاية، عرف خلالها إعادة التشكيل أكثر من مرة، إثر حروب وصراعات خاضها، تركت آثارها عليه، سواء من ناحية التكوين البشري أم القدرات العسكرية والاستعدادات القتالية، لا سيما أنه كان دائمًا أحد القوى المؤثرة في مسار الصراع الدائر باليمن، ولكن ما يعيشه الآن، ربما يكون أصعب ما واجهه طوال تاريخه، من استقطاب حاد بين صفوفه على مستوى القيادات والجنود، على أسس حزبية ومذهبية ومناطقية وقبلية، واستنزاف لقوته، وأخيرًا ضرب مصداقية رتبه العسكرية بما يضر بمستقبله على المدى البعيد.