اهتم أهل العراق بالقرآن الكريم وعلومه وبلغت ذروة الإتقان والاحتفاء به في العصر العباسي عندما أصبحت بغداد قبلة العلماء، وشاعت في البلاد مدارس مختلفة كمدرسة واسط في القراءة ومدرسة الموصل ناهيك عن مدرسة بغداد، ولكل من هذه المدارس صفات خاصة وتتأثر بالمحيط الاجتماعي والجغرافي لها.
وقد وصف الرحالة الشهير ابن جبير إجادة قرّاء بغداد خلال زيارته لمجالس العلم في مساجدها، فيقول في وصف مجلس ابن الجوزي: “يبتدئ القراء بالقرآن وعددهم نيف على العشرين قارئًا، فينزع الاثنان منهم أو الثلاثة آية من القرآن يتلونها على نسق بتطريب وتشويق، فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم آية ثانية، ولا يزالون يتناوبون آيات من سور مختلفات إلى أن يكملوا قراءة، وقد أتوا بآيات متشابهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصل عددها أو يسميها نسقًا”.
ويقول في وصف مجلس آخر: “فابتدروا القراءة على الترتيب وشوقوا وما شاؤوا، واطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بإرسال الدموع، فلما فرغوا من القراءة وقد أحصينا لهم تسع آيات من سور مختلفة”.
رواد المدرسة العراقية
تغنى قرّاء بغداد بالقرآن الكريم فأجادوا في تطبيق حديث رسول الله “ليس منا من لم يتغن بالقرآن” واستخداموا معرفتهم وإتقانهم للمقامات فجعلوها في خدمة كتاب الله وغلب الطابع الحزين للشخصية العراقية على مدارس القراءة فكانت سمة خاصة ومميزة لهذه المدرسة، وعرفت التلاوة العراقية مصطحبة دائمًا بالشجن والحزن العراقي السرمدي، وتأثرت المدارس العراقية للقراءة باختلافات المقامات العراقية وفروعها القديمة والحديثة في مدن العراق، فاشتهرت المدرسة الموصلية بمقام البيات وترك وتأثرها بالنغم التركي، فيما استحوذت المدرسة البغدادية قراءة المخالف، أما مدرسة واسط فاشتهرت بقراءة القرآن بمقام باجلان وهكذا الحال في غالبية مدن العراق.
الشيخ الحافظ خليل قراءة مقام الزنجران
وإذا أردنا الحديث عن أشهر المدارس العراقية للقراءة، وهي المدرسة البغدادية فلا بد من البداية بعميدها الحافظ خليل إسماعيل الذي أتقن استخدام المقامات في قراءة القرآن حتى إنه قرأ القرآن بمقام الزنجران وهو من أصعب المقامات العراقية.
ولد الحافظ خليل عام 1920 بمنطقة الكرخ في بغداد، وحفظ القرآن ودرس الفقه والتفسير في صباه وأُذيعت تلاوته في الإذاعة العراقية عام 1941، ويعتبر الشيخ خليل مؤسس المدرسة العراقية التي تعتمد المقام في خدمة تلاوة القرآن.
قراءة القرآن بالطور العراقي للشيخ عامر الكاظمي
ذاعت شهرة الخليل وقراء للمسلمين في المسجد الحرام والمسجد الأقصى وعدد من المدن العربية والإسلامية، وعاصره من الشيخ الحافظ حيدر الجوادي من الموصل والذي يعتبر من علماء قواعد التجويد في العراق ومن الرعيل الأول للمقرئين في العراق.
تعقب الحافظ خليل أجيال متعددة من القراء الذين أجادوا أمثال وليد الديمي وفراس الطائي وعامر الكاظمي وعلاء الدين القيسي.
القرآن الكريم والمقامات.. حديث مع القارئ محمد العزاوي
فيما برز جيل شبابي منذ تسعينيات القرن الماضي متميز في المدرسة العراقية عرف غالبيتهم بالإجادة والعلم بعلوم المقام وفروعه وكيفية خدمته لترتيل وتجويد كتاب الله ومنهم محمد العزاوي وشيرزاد عبد الرحمن ونعمة حسان فكانوا روادًا في العالم الإسلامي في هذا المجال.
تميز الشيخ عبد الرزاق عبطان الدليمي في أداء تلاوة القرآن، وسجل ثلاثة مصاحف وهي: “المصحف المرتل المحقق والمصحف المجود في بغداد والمصحف المرتل في دولة الإمارات”، وقد اعتنى الدليمي بالأداء التصويري والتبحر بالأنغام القرآنية حتى برع فيها وأصبح أستاذًا بها.
المدرسة العراقية وعقدة الانتشار
رغم أن الإجادة العراقية المبكرة في قراءة القرآن ترجع للقرون الهجرية الأولى، ورغم جهود مؤسس القراءات العراقية الحديثة ملا عثمان الموصلي وشهرته بين تركيا والحجاز، فإن القراءة العراقية بقيت حبيسة العراق ولم تصدر لغيره من البلاد الإسلامية.
ويفسر الدكتور ضاري العاصي ذلك بقوله: “الأداء بالطريقة العراقية تجده صعبًا وشاقًا على غير أهله ولهذا لا تجد أحدًا يستطيع تقليد مدرستنا بأسلوبها وطريقتها، بل تجد القارئ العراقي يستطيع تقليد كل المدارس القرآنية”.
الطفل العراقي طه القيسي يرتل القرآن بالقراءة العراقية
ويوضح سبب صعوبة قراءة القرآن بالطريقة العراقية فيقول: “القراءة العراقية متأثرة بالمقام العراقي، بأصوله وفروعه، فهو هويتها وصورتها وتراثها، ولهذا فالمقام يحتاج إلى حنجرة وصوت عريض ذي مساحة كبيرة بالجواب والقرار والميانة والبحة وهذا كله لا تجده إلا عند أهل العراق، وكل هذا يعود إلى بيئتهم وحياتهم وظروفهم وتاريخهم، لهذا فاللهجة والغناء والقراءة العراقية تحتاج إلى حنجرة خاصة لا يملكها إلا العراقي”.
ورغم تلك الخصوصية، فإن بعض القراء في العالم الإسلامي تمكنوا من القراءة بالطريقة العراقية مثل السعودي عبد العزيز الزهراني والمغاربي إلياس حجري وأجادوها خاصة بعدما وفرت التكنولوجيا جسرًا تعبر منه المدرسة العراقية في القراءة للكثير من القراء الشباب في العالم الإسلامي.
القراءة بالطريقة العراقية للشيخ المغاربي إلياس حجري
ختامًا فإن المدرسة العراقية في قراءة القرآن الكريم بما تملكه من موروث معرفي بعلم المقامات وإتقان في أحكام التجويد، ووجود خامات صوتية عراقية عذبة، إضافة لتوافر التكنولوجيا الحديثة التي تمكنها أن تكون ممرًا للوصول للجمهور في عموم العالم الإسلامي، فقدت عذرها في مواصلة التقوقع على الذات، ويجب على روادها بذل جهد حقيقي في نشر هذا العلم خدمة لكتاب الله عز وجل، وبعثًا جديدًا في تدبر آياته.