منذ إعلان خليفة حفتر انقلابه التلفزيوني الأول في فبراير 2014 وانقلابه الثاني في يونيو من العام ذاته ثم إطلاقه “عملية الكرامة”، تتركز الرؤية الرسمية المصرية للأزمة الليبية باعتبارها صراعًا بين جيش وطني ليبي يقوده حفتر من جهة وميليشيات إسلامية جهادية بظهير إسلام سياسي حاكم من جهة أخرى، وأن الحل في ليبيا عسكري أو على الأقل فهو حل يعلي من شأن العسكريين ودورهم في القرار السياسي، ومن ثم فهي تعتبر هذا الجيش الوطني الليبي يحارب الإرهاب ولذلك تسانده بغض النظر عن فشله أو نجاحه وعن مدى صحة هذا الطرح والتبسيط المخل لواقع ليبي معقد وينم عن الفهم المبسط والساذج أحيانًا الذي تطرحه السياسة الخارجية المصرية ويردده الإعلام المصري.
وفي الشهور القليلة الماضية وجراء الاتفاق التركي الليبي بشأن الحدود البحرية والتنسيق العسكري مع حكومة الوفاق الليبية شهدت مصر سجالات عن أهمية التدخل العسكري في ليبيا ومواجهة النفوذ التركي، وخاض الإعلام المصري حربًا كلامية ضد تركيا التي نجحت مع روسيا في فرض وقف لإطلاق النار منذ 12 من يناير 2020 قبيل انعقاد مؤتمر برلين بشأن ليبيا بأسبوع، الذي أثارت بعض الصور الختامية له جدلًا بخصوص استبعاد مصر من المشهد.
مطالب متناقضة مع المسارات الأممية
الرؤية اقتضت أن تطالب مصر برفع حظر توريد السلاح إلى ليبيا وبمحاولة شرعنة وجود خليفة حفتر وعملياته العسكرية، باعتباره حليف نظام ما بعد ترتيبات الثالث من يوليو 2013 في مصر، ومن ثم كانت تدفع دومًا باتجاه نقطة رفع الحظر الأممي لتوريد السلاح لليبيا ظنًا منها بأن حليفها قادر على الحسم حال رفع هذا الحظر وعلى أقل تقدير فهي تطالب برفع جزئي للحظر والسماح بتوريد السلاح للجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر، بيد أن الأمم المتحدة واللجان الدولية التي تراقب الأوضاع في ليبيا تؤكد أن خرق حظر توريد السلاح لليبيا دائم ومتكرر من كل الأطراف المتدخلة في الأزمة الليبية بشكل عام والنظام المصري والإماراتي بشكل خاص.
لكن هذه الرؤية لم تنجح في إقناع الحلفاء التقليديين كالإيطاليين والفرنسيين لا بمسار دول الجوار ولا بفرض نقطة رفع حظر السلاح ولا بجدوى وإمكانية الحل العسكري، وفي المقابل فإن الدعم العسكري للطرف الذي تريده القاهرة لم يحسم المسألة بعد أكثر من أربع محاولات لاقتحام طرابلس، بل إن هذه النقاط تتعارض مع المسارات الدولية التي تضمنت جميعها فرض حظر توريد السلاح وطالبت بمعاقبة الأطراف التي تخرق هذه النقاط، إذن هو سير عكس السرب لا تؤيده قدرة واقعية على فرض الرؤية المصرية أو حتى طرحها للنقاش على نطاق أوسع.
خاضت مصر محاولات عدة لإبطال شرعية حكومة الوفاق وروج دبلوماسيون مصريون لعدم شرعية الحكومة
إذن تعارضت هذه الرؤية مع المسار الأممي ومسارات باليرمو وموسكو وبرلين بشأن الأزمة الليبية التي انطلقت من نقطة توافق دولية عن استحالة الحل العسكري للأزمة الليبية من أي من أطرافها وعن أهمية اتفاق الصخيرات كأساس لحلحلة هذه الأزمة، وهي نقاط خلاف رئيسية مع الرؤية المصرية التي ترى إمكانية وشيكة للحسم من حليفها حفتر منذ سنوات، لكنه لم ينجز هذا الحسم ولم يستطع حلفاؤه شرعنة تدخلهم لدعمه في أي مسارات.
وبينما استُبعدت القاهرة من مسار التفاوض الذي أفضى لاتفاق الصخيرات في نهاية العام 2015 فإنها استدعيت في باليرمو نوفمبر 2018، وباريس مايو 2018، واجتماعات دول الجوار لكنها استبعدت من حليفها الروسي في مسار موسكو الذي أفضى لعملية وقف إطلاق النار مؤخرًا الذي نجم عن توافقات تركية روسية بشأن الأزمتين الليبية والسورية.
حراك ما قبل المؤتمرات.. ضجيج بلا طحين
قبيل انعقاد مؤتمر برلين خاضت مصر حراكًا دبلوماسيًا مكثفًا كانت ليبيا حاضرة فيه بقوة سواء عبر اجتماعات القاهرة وروما بشأن ليبيا أم غاز شرق المتوسط، لكن الرؤية المصرية كانت تدور حول إبطال الاتفاق التركي الليبي الذي وقع في نوفمبر 2019 بين الحكومة التركية وحكومة الوفاق الوطني الليبي، إذن انتقلت مصر من التعامل مع حكومة الوفاق إلى محاولة إنهائها وإفقادها الشرعية عبر المطالبة بمسار جديد للتوافق الداخلي الليبي، وبالتالي استبدال مسار الصخيرات بينما كانت التوافقات الدولية تدور بشأن إنهاء المرحلة الانتقالية وضرورة وقف إطلاق النار واستكمال المسار السياسي الأممي المنبثق عن اتفاق الصخيرات وتفعيل وقف إطلاق النار وحظر توريد السلاح.
خاضت مصر أيضًا محاولات عدة لإبطال شرعية حكومة الوفاق وروج دبلوماسيون مصريون لعدم شرعية حكومة الوفاق وحاولت القاهرة سحب شرعية هذه الحكومة في الجامعة العربية باعتبار أنه في أوقات الثورات فالشرعية للقوة وهو منطق غريب، لكن هذه المساعي كللت بالفشل، فاتفاق الصخيرات يحول دون سحب شرعية هذه الحكومة وهو الاتفاق الذي أُنجز بعد مهمة أممية ومغربية شاقة لجمع الفرقاء الليبيين على مائدة حوار امتدت لشهور وأيدت مخرجاته الجامعة العربية.
إذن هذه الرؤية تتعارض كثيرًا مع تطلعات الحل السلمي وهو طرح أساسي في خطابات دول المغرب العربي الذي كانت ليبيا أحد أهم محاور اتحاده المجمد، وبالتالي فإن الخلافات مع المغرب وتونس والجزائر وموريتانيا بشأن الأزمة الليبية تتزايد وتترسخ.
فقدان صفة الوسيط النزيه وتذيل التحالفات
بينما نجحت مصر سابقًا في عقد مؤتمرات دولية عن أزمات عدة لم تنجح في عقد أو استضافة أي مؤتمرات أو مشاورات دولية على مستوى القمة بشأن ليبيا دولة جوارها المباشر، باستثناء الاستضافة الدورية لاجتماعات وزراء خارجية مجموعة دول الجوار التي يرعاها الاتحاد الإفريقي، وهي الاجتماعات التي لم تنتج إلا بيانات هشة.
إن الإصرار على مسار الانحياز لحفتر لم يجر على مصر إلا موجة من استبعاد قدرتها على المساهمة في الحل بليبيا باعتبارها وسيطًا غير محايد وغير قادر على إقناع الطرف الذي يدعمه بأهمية وإمكانية الحل السلمي وبالتالي زيادة إصراره على إمكانية الحل العسكري مما يعطل المسارات الأممية، هذا بالإضافة لموجة كراهية في الغرب الليبي ضد مصر والمصريين انعكست على تدهور موجات العمالة والتجارة والاستثمارات المصرية إلى ليبيا واقتصارها على المنطقة الشرقية فقط، وبالتالي ضعف موقفها ودورها في المساهمة بخلق أو إنجاح أي توافقات دولية بشأن الأزمة الليبية، بل ولا تخدم الأمن القومي المصري ولا المصالح التجارية والاقتصادية المصرية في ليبيا وهو ما تؤيده بعض الدراسات التي تشير لتراجع التجارة والاستثمار والعمالة المصرية في ليبيا منذ 2014.
كما يمكن قراءة المشاركة المصرية الشكلية في المؤتمرات الدولية بشأن ليبيا باعتبارها دولة مستدعاة بحكم موقعها وليست ذات نفوذ كما هو الحال بالنسبة للإمارات التي لا تمتلك أي حدود مع ليبيا واستدعيت لمؤتمر برلين، بل إن تقييم الموقف الإماراتي يسهل توصيفه نجاحًا لنظام أبو ظبي في فرض نفسه طرفًا ذا نفوذ في أزمة دولية بعيدة نسبيًا عنه والمشاركة في مؤتمرات دولية للتأثير في فرض أو إفشال توافقات بشأنها وفرض نفوذ إماراتي متمثل بقاعدتي الخادم والجفرة وهو ما يدعم تدخلها المباشر في ليبيا، وهو الأمر الذي تجاوز التنسيق المعهود مع القاهرة في هذا الملف وفي ملفات إقليمية أخرى ويثير العديد من التساؤلات عن تطوير الإمارات لسياستها المنفردة دون التنسيق مع المحور المصري الإماراتي السعودي في هذا الملف.