الواقع الإنساني في غزة مثير للأسى، تتشابه أخباره وعواجله إلى حد كبير، فإما أن تكون أنباءً عن تصعيدات سياسية وعسكرية أو تضييقات اقتصادية جديدة، ثم تتوالى التحليلات والتصريحات التي تحذر من مأساة إنسانية غير مسبوقة، وبين هذا وذاك، تستمر معركة الفلسطينيين في غزة اليومية لصد ومواجهة مستوى التدهور المعيشي، فكيف ينجو هؤلاء الناس في المكان الذي قالت عنه منظمة الأمم المتحدة إنه “غير قابل للحياة”؟
خيارات البقاء
منذ بداية الحصار الإسرائيلي على غزة قبل 14 عامًا، تقلصت الفرص الاقتصادية في غزة ولم يعد أمام الغزيين إلا بضعة خيارات معدودة ومحصورة بالوظائف الحكومية أو عقود العمل المؤقتة في المنظمات والمؤسسات الدولية أو العمل الحر مع بعض الجهات الخارجية أو الاعتماد على مشروع تجاري عائلي، ولا داعي للذكر أن عوامل الأمان والاستقرار الوظيفي تغيب عن تلك المجالات.
ودون كل ما سبق، يبقى 75% من الشباب يتصارعون مع البطالة ويبحثون عن مخرج من هذه الضائقة، إذ تعتمد شريحة أخرى من العائلات الفلسطينية في غزة على مساعدات الإغاثة الإنسانية أو مساعدات أقاربهم الذين يعملون في الخارج ويرسلون إليهم مبالغ مالية من حين لآخر ليسدوا أدنى حد من احتياجاتهم الأساسية، وفي ظل هذه الأوضاع، استطاعت شريحة من الشباب استخدام منصات التواصل الاجتماعي لتأسيس مشروعاتهم الخاصة التي من الممكن أن تقلل من الأعباء المادية عليهم وتدفعهم للمضي قدمًا في حياتهم كغيرهم من الأشخاص في دول العالم الأخرى.
أبواب الأمل
وفقًا لموقع لوتس للاستثمارات المالية، بلغت نسبة صفحات التسوق الإلكتروني نحو 40% عام 2019 مقارنة مع العام الذي سبقه، كما قدرت معدلات الطلب من 20 إلى 40 ألف طلب سنويًا، وبلغ متوسط حجم الإنفاق على الإعلانات ما بين 5 إلى 10 آلاف دولار أمريكي خلال العام ذاته، والمثير للاهتمام من بين تلك التفاصيل أن غزة تصدرت القائمة من حيث أكثر المدن الفلسطينية إقبالًا على الشراء من هذه المتاجر الإلكترونية.
وبحسب الباحث المختص في مواقع التواصل الاجتماعي عز الدين الأخرس بلغ عدد المحال الإلكترونية في غزة نحو 750 متجرًا، حيث تنتشر بنسبة 95% على منصة إنستغرام أكثر من موقع فيسبوك، وغالبية مؤسسيها والعاملين عليها من النساء إذ تبلغ نسبتهم 60% تقريبًا، ما يعني بعبارة أخرى أن الحيز الافتراضي خلق فرص عمل في القطاع المحاصر وكذلك أوجد مساحة للأيادي النسائية فيه.
تتنوع منتجات هذه المتاجر بين الأدوات المنزلية والأجهزة الكهربائية والرياضية والملابس والإكسسورات والأغذية والحلويات وبعض الحرف اليدوية التي تستلزم مهارة وذائقة فنية، وكبقية منصات التسوق الاجتماعي، تختلف شروط الشراء والتسليم من مشروع لآخر، وذلك بحسب نوع السلعة والمواصفات المطلوبة لكل منتج.
صناعة النجاح
أجرى “نون بوست” حوارًا مع أمير أسامة المقوسي (26 عامًا)، مؤسس متجر “دكان إسطنبول” الإلكتروني، الذي يعتبر من أولى المحلات التي ظهرت في السوق الافتراضية بغزة، إذ تأسس المشروع قبل 3 سنوات تقريبًا ويختص في بيع الملابس والأحذية النسائية، ويعمل عليه 5 أفراد.
تخرج المقوسي من كلية الهندسة المدنية، لكن الوضع الاقتصادي المتدهور في القطاع لم يسعفه للعمل في مجال دراسته، وإذا سنحت له الفرصة بذلك، فقد كان الدخل الشهري المتدني يقف عائقًا أمام قبوله بأي عروض وظيفية، وفي الوقت ذاته، كان المقوسى يرى أن زملاءه لم ينجحوا في العمل أيضًا بمجال المهندسة لـ”انعدام الفرص” في غزة على حد وصفه.
بعد فترة من الوقت، أصبحت فكرة تأسيس المشروع طموحًا شخصيًا، مدفوعة في الوقت ذاته برغبة شخصية في إدخال تغيير على طبيعة السوق في غزة، إذ يقول المقوسي إن السوق محتكرًا من مجموعة محددة من التجار الذين يفضلون المنفعة الاقتصادية بالمقام الأول بغض النظر عن الجودة، مضيفًا أن الحصار الإسرائيلي ضاءل خيارات التسوق في القطاع، وباتت منتجات السوق محدودة جدًا ولا تتلاءم أحيانًا مع صيحات الموضة التي نشهدها في المناطق الأخرى من العالم.
قال المقوسي: “جميع العراقيل تبدأ وتنتهي عند الاحتلال الإسرائيلي”، مشيرًا إلى دوره في تأخير وصول الشحنات وحظر إدخال العلامات التجارية إلى القطاع وإغلاق المعابر بشكل متكرر ومماطلته في التدقيق الجمركي
من ناحية أخرى، أشار المقوسي إلى منع سلطات الاحتلال الإسرائيلي خدمات البريد الوارد إلى غزة، الأمر الذي زاد من محدودية الخيارات في أسواق غزة، وبناء على هذه المعطيات تبلورت الفكرة في عقل المقوسي وحولها إلى متجر إلكتروني يوصل البضائع من إسطنبول إلى غزة، ثم توسعت وجهاته إلى الضفة الغربية والأردن وقطر والمغرب.
وعن الصعوبات التي تواجه المشروع، قال المقوسي: “جميع العراقيل تبدأ وتنتهي عند الاحتلال الإسرائيلي”، مشيرًا إلى دوره في تأخير وصول الشحنات وحظر إدخال العلامات التجارية إلى القطاع وإغلاق المعابر بشكل متكرر ومماطلته في التدقيق الجمركي، فضلًا عن ممارساته الأخرى التي تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الفلسطيني وتُضعِف القدرة الشرائية للمستهلكين في غزة وبالتالي تقلل من قاعدة الزبائن ورواد المتجر، الأمر الذي يقلص أرباح المشروع ويهدد وجوده في السوق.
ومع ذلك، يعتقد المقوسي أن هذا المشروع يشكل فرصة هائلة للشباب الذين يبحثون عن عمل برأس مال صغير، وبأقل حد ممكن من المخاطر، فبحسب المقوسي، يحتاج هذا النوع من المشاريع إلى الوقت والجهد لإنجاحها، إضافة إلى الإصرار على تحدي العراقيل التي يرميها الاحتلال في وجه الفلسطينيين أينما ذهبوا وحاولوا تجاوز صعوباته.
في قصة أخرى، تروي لنا آيات محمد مطير (35 عامًا) بدايات تأسيس مشروعها “أرض الحلويات”، حيث تبيع من خلال صفحتها الإلكترونية على إنستغرام كل أنواع وأشكال الحلويات لمختلف المناسبات. تقول مطير إنها حصلت على دبلوم تكنولوجيا من الجامعة الإسلامية، لكنها لم تعمل في هذا الميدان، فالبطالة لم تترك لها مقعدًا شاغرًا في سوق العمل، كما أن إصابتها بإعاقة سمعية منذ الطفولة جعلها تميل إلى الفنون والحرف اليدوية، ولذلك عملت في الرسم والحفر على الخشب ثم عملت في إدارة أحد المطاعم، وحينها استنتجت بأنها تجيد صناعة الحلويات.
أرباح المشروع أقل مما يتوقعه أي شخص، ولكن الاستسلام في هذه الظروف يعني الخسارة، ولذلك أشجع نفسي على استغلال الوقت في صناعة أي شيء
انطلاقًا من هذه اللحظة، قررت مطير تأسيس مشروعها عام 2013 بالتعاون مع واحدة من قريباتها التي تساعدها في الإدارة، لكون مطير تعاني من صعوبة في التواصل والنطق مع الآخرين، وغير ذلك فهي تفتخر بامتلاكها لهذا المشروع وقدرتها على العمل وحدها داخل مصنعها الصغير، على حد قولها.
بخلاف ذلك، تشير مطير إلى الوضع السياسي والاقتصادي الذي يمنعها من تمويل احتياجات مشروعها من ماكينات ومواد خام ومعدات أخرى قد تساعدها في رفع جودة منتجاتها، وتضيف قائلةً إن هذه الظروف المتهالكة صاحبتها قلة في المنح والتمويلات التي تساهم المشروعات الصغيرة في التطور والتوسع، وهي الأدوات التي يمكن أن تساعدها في تحويل متجرها الإلكتروني إلى محل حقيقي على أرض الواقع، فبحسب وصفها “لا يثق الجميع بالصفحات الافتراضية، وخصوصًا أنهم لا يستطيعون تذوق حلوياتها والتأكد من جودتها”.
كما تضيف مطير قائلةً: “أرباح المشروع أقل مما يتوقعه أي شخص، ولكن الاستسلام في هذه الظروف يعني الخسارة، ولذلك أشجع نفسي على استغلال الوقت في صناعة أي شيء كي استجمع مصروفي الشهري”، خاصةً أنها المعيلة الوحيدة لأسرتها المكونة من توأم، ورغم ذلك لم ترضخ مطير لهذا الحال، وعملت كمدربة شيف حلويات وموالح في جمعية أطفالنا للصم في نفس الوقت من أجل النجاة من الضائقة الاقتصادية.
كان من السهل جدًا أن ينضم المقوسي ومطير إلى خانة العاطلين عن العمل، ولكن التكنولوجيا والإرداة الشخصية حفزتهما على مواجهة الظروف القاسية واستغلال أقل الإمكانات الموجودة بين يديهما.