ترجمة وتحرير: نون بوست
أدى القتل المستهدف لقائد فيلق القدس التابعة للحرس الثوري الايراني، قاسم سليماني، والهجمات الصاروخية الإيرانية اللاحقة التي استهدفت القواعد الأمريكية في العراق، إلى إثارة جدل حول الحرب في الشرق الأوسط. وحيال هذا الشأن، يعتقد أعضاء الكونغرس، على غرار وزير الدفاع الأمريكي السابق ليون بانيتا، بالإضافة إلى خبراء السياسة مثل دانيال بايمان وتريتا فارسي، ووسائل إعلامية مختلفة، أن الأحداث قد أوصلت المنطقة إلى شفا حرب.
في الواقع، جاء تقديم العديد من وجهات النظر هذه وردود الأفعال بشكل مباشر أو غير مباشر في شكل حجج، على غرار المقال الذي كتبه روبرت مالي في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية للعدد الصادر في تشرين الأول/نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 2019، والذي يحمل عنوان “الحروب التي لا يريدها: لماذا أصبح الشرق الأوسط أكثر قابلية للاشتعال من أي وقت مضى؟” في هذا المقال، يزعم مالي أن الشرق الأوسط يجسّد في الوقت الحالي مفارقة. في ظل تزايد الانقسامات التي تعيشها المجتمعات والدول في المنطقة، أضحت المنطقة في الآن ذاته أكثر تكاملا واندماجا من خلال ظهور الحركات عبر الوطنية وتدخل الجهات الخارجية الفاعلة في النزاعات المحلية. وفقًا لمالي، حولت هاتان الظاهرتان منطقة الشرق الأوسط إلى منطقة قابلة للاشتعال، حيث يكون الحدث المحلي قادرًا على إشعال حرب أوسع بين مختلف البلدان.
على سبيل المثال، أدّى انقسام المجتمع العراقي إلى اندماج بعض المنتمين إلى المجتمع الشيعي العراقي مع إيران، ليصبحوا بذلك امتدادًا لنفوذ وسلطة إيران. ويعتبر دعم سليمان للميليشيات الشيعية العراقية وعلاقات التعاون التي تربطه معها تجسيدا لهذه الظاهرة. لذلك، قد تؤدي أي مواجهة أميركية مع هذه المليشيات الشيعية العراقية إلى اندلاع حرب بين الولايات المتحدة وإيران. ويشير مالي في مقاله إلى أن سوريا واليمن منطقتان لإثارة حرب من المحتم أن تندلع في الولايات المتحدة أو بلدان أخرى. وتعكس تغريداته الأخيرة والتغريدات المعاد نشرها وجهة نظر مماثلة فيما يتعلق بالأحداث في العراق.
تشير الأحداث المحيطة بمقتل سليماني، أو عدم وجودها، إلى أن تأكيدات مالي وغيرها غير مبررة، فالمنطقة ليست على شفا حرب. إنها ليست قابلة للاشتعال مثلما يعتقد الكثيرون، ولن تكون كذلك في المستقبل القريب. أظهرت الدول التي تتدخل في نزاعات الشرق الأوسط المحلية عدم استعدادها للتصعيد عندما تتعرض مصالحها للخطر أو التهديد.
فشل استخدام السيناريوهات القصيرة والمعاصرة للعراق وسوريا واليمن والتكهن بها في إدراك واقع المنطقة. ينبغي على المرء معاينة القوى المحركة في لبنان على مدى فترة زمنية طويلة لفهم أن المنطقة ليست عرضة لخوض صراعات أكبر. في نهاية المطاف، تمنع عملية المراقبة للبنان إجراء تحليل أكثر إيجازا وفهم أعمق وتوصيات سياسية أمريكية للشرق الأوسط.
انظر إلى لبنان، وليس العراق أو سوريا أو اليمن، من أجل الوضوح
يعتبر لبنان، وليس العراق أو سوريا أو اليمن، نموذجا ودليلا لمنطقة شرق أوسط معاصرة. يجسّد لبنان المفارقة التي حددها مالي، الانقسام والتكامل. يملك هذا البلد تاريخا طويلا من الانقسامات الاجتماعية العميقة والصراعات المتداخلة مع التدخل الخارجي والحركات عبر الوطنية التي تمتد على سبعين سنة. جعلت هذه التجربة الطويلة لبنان مختبرا غنيا لفهم التطورات والنقد وبناء سياسة فعالة للصراعات في الشرق الأوسط اليوم. فضلا عن ذلك، من الممكن أن تعمل على إعداد صناع السياسة لما هو منتظر بعد نهاية هذه الصراعات.
لقد شهد لبنان بنية دولة ضعيفة وجهات فاعلة قوية غير تابعة للدولة لعقود طويلة. لقد كان لبنان، وما زال، يعتبر صورة مصغرة من الانشقاقات العديدة التي شهدتها المنطقة، حيث ساهم الصراع العربي الإيراني الإسرائيلي في تدميره، إلى جانب الصراع السني الشيعي الذي لطالما كان موجودا، والانقسام المتزايد للمجتمع السني. فضلا عن ذلك، يعتبر لبنان منطقة للمواجهة الأمريكية الإيرانية.
في الواقع، يؤدي الانقسام والتكامل المتزايدين في الشرق الأوسط إلى خلق الكثير من الدول التي ستعيش أوضاعا مشابهة لوضع لبنان. بدأ كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا في تقليد لبنان بشكل كبير في أوقات السلم والحرب. ومن المرجح أن يتبعها السودان والجزائر ومصر وغيرها من الدول الأخرى. إننا نشهد تزايدا في عدد الدول دون شعوب في الشرق الأوسط، وهو الوضع الذي يطالب به لبنان منذ سنة 1943.
يعد حجم الجهات الفاعلة المحلية والأجنبية المشاركة حاليًا في الحرب الأهلية في ليبيا منافسا لعدد الجهات الفاعلة المشاركة في لبنان خلال أوائل الثمانينيات
تقتضي دولة دون شعب بوجود مكاتب إدارية مستقلة وهيكل اجتماعي اقتصادي. ومع ذلك، تعتبر الهوية القومية ضعيفة. في هذه الدول، تتنافس الهويات الطائفية/ العرقية، والحركات الإيديولوجية، والانتماءات القبلية، أو تتحدى الهوية القومية. يعمل غياب المجتمع المتماسك على تقويض وظائف الدولة. وينتج عن هذا الواقع سوء إدارة، على غرار استبعاد المجتمعات، والفساد، وانعدام المساءلة. ويوفر دعوة إلى جهات فاعلة أخرى للتدخل.
تظهر الدول دون شعوب صفات وسلوكيات ونتائج محددة أثناء أوقات الحرب والسلام. يخلق وجود المعضلات الأمنية في المجتمعات والحركات احتكاكًا وعنفًا داخل المجتمعات والحركات وفيما بينها. في هذه البيئة، تتطور العلاقات التي تنطوي على منفعة متبادلة بين المجتمعات/الحركات والجهات الفاعلة الخارجية. تؤدي هذه الخصائص إلى خلق حالة من عدم الإرادة للتوصل إلى تسوية، وإسقاط التأثير الخارجي على الشؤون الداخلية، وحساسية الوضع تجاه التطورات الإقليمية. وتنطوي النتائج على التعنّت، والمزيد من الاستقطاب، وحلول مخصصة أو غير مكتملة، وعدم وجود إنفاذ سياسات، وإنهاء العلاقات مع الجهات الخارجية الفاعلة.
توجد أوجه تشابه مذهلة بين لبنان والشرق الأوسط اليوم. وعلى شاكلة الطائفة الكاثوليكية المارونية في لبنان، تعتبر مجموعة تبو الإثنية في ليبيا نفسها تحت تهديد وجودي. يشبه فشل الحكومة العراقية في تحقيق احتكار للعنف في حقبة ما بعد تنظيم الدولة تجربة لبنان المستمرة منذ عقود مع حزب الله ومنظمة التحرير الفلسطينية.
من المحتمل أن تظهر سيناريوهات مماثلة في سوريا واليمن وليبيا. في الواقع، تعادل مشاكل العرق فيما يتعلق بالمرافق العامة إخفاقات لبنان المستمرة في القطاع ذاته. بالإضافة إلى ذلك، تفرض إيران نفوذها في العراق وسوريا واليمن مثلما فعلت في لبنان منذ ما يقارب من أربعين عامًا. كما يعد حجم الجهات الفاعلة المحلية والأجنبية المشاركة حاليًا في الحرب الأهلية في ليبيا منافسا لعدد الجهات الفاعلة المشاركة في لبنان خلال أوائل الثمانينيات.
برميل بارود دون شرار
في الواقع، إن حالة التصدع والتكامل المتزايدة التي تعاني منها المنطقة تقلل من احتمال نشوب صراعات أكبر. يؤدي تنامي عدد الدول التي تفتقر إلى شعوب فعالة إلى توفير المزيد من الفرص للجهات الفاعلة الخارجية للتدخل في شؤونها. مع إتاحة المزيد من الفرص، لا يُطلب من أي شخص أن يسلط تركيزه على كل الجهود والموارد في مجال واحد أو وضع جميع أوراقه الرابحة على الطاولة. وتجعل هذه الحقيقة احتمال نشوب صراعات أكبر في المنطقة غير وارد. ولا تعني مواجهة الهزيمة أو العقبات في مكان بعينه النهاية لبلد مثل السعودية أو إيران. ومن المرجح أنه ستتاح لهم فرصا أخرى حتما في المناطق ذاتها.
ستواصل الانقسامات التي تعاني منها المجتمعات اللبنانية والعراقية والسورية واليمنية والليبية في توليد الصراعات وخلق التوتر، مما يجعلها أرضًا خصبة لتدخل أطراف أجنبية وعرضة لتفاقم أعمال العنف. ستستمر الدول في فرض نفوذها على هذه المناطق، ولكن بشكل محدود.
لم يؤد قصف ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في سنة 1983 إلى اندلاع صراع واسع النطاق ضد سوريا أو إيران
في هذا السياق، يوضح التاريخ أنها لا تخاطر بكل شيء. عندما يتعلق الأمر بالتصعيد، فإن الجهات الفاعلة الخارجية مثل السعودية وقطر وإيران وغيرها ليست على استعداد للمجازفة بعملائها، حيث لا يخدم ذلك مصالحهم. لذلك لا يتعين عليها اتخاذ مثل هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر. لماذا تخاطر هذه الأطراف بحدوث صراع أكبر في حال أنه من المحتمل أن تظل بعض العلاقات الأخرى التي تربطها قائمة أو يتم إحياء العلاقات مع بعض العملاء في المستقبل؟
في هذه الحالة، يعد لبنان خير شاهد على هذا السلوك. لم تتدخل إيران نيابة عن حزب الله أثناء حرب الأيام السبعة في عام 1993، وعملية عناقيد الغضب الإسرائيلية في سنة 1996، وحرب الثلاثة والثلاثين يوما لسنة 2006. خلال احتلال سوريا للبنان، لم تمنع سوريا إسرائيل من إجراء عمليات تحليق فوق لبنان وظلت تشاهد قصفها للبنية التحتية اللبنانية.
من جهة أخرى، لم تمنع عدم رغبة إيران أو سوريا في مساعدة حلفائها اللبنانيين هؤلاء الحلفاء من الاستمرار في طلب المساعدة الإيرانية والسورية. علاوة على ذلك، لم تنتج الحرب الجوية السورية الإسرائيلية على لبنان سنة 1982 حربًا أكبر. فضلا عن ذلك، لم يؤد قصف ثكنات مشاة البحرية الأمريكية في سنة 1983 إلى اندلاع صراع واسع النطاق ضد سوريا أو إيران.
العمل على الصعيد الإقليمي وتجاهل المستوى المحلي
في الوقت الحالي، ليس لدى صناع السياسة في الولايات المتحدة خيارات قابلة للتطبيق في حل النزاعات التي تدور رحاها بين العراقيين واليمنيين والسوريين واللبنانيين والليبيين وغيرهم. نتيجة لذلك، يعد تدخل الولايات المتحدة بعمق في المستوى المحلي لهذه البيئات المعنية عديم الفائدة وبمثابة إهدار لموارد للولايات المتحدة. تزداد نسبة تعقيد السياسات والصراعات اليومية في الشرق الأوسط، لا سيما في العراق وسوريا واليمن ولبنان وليبيا، بسبب الاستقطاب والاندماج.
ساهمت التصدعات التي تعاني منها هذه المجتمعات بين الطوائف وداخلها، ناهيك عن تدخل أطراف فاعلة خارجية في تضاعف عدد الجهات الفاعلة والمصالح ذات الصلة. وهذا ما يفرض تحديات صعبة بشكل لا يصدق على التسويات التي يتم التفاوض عليها أو الاتفاقات السياسية. على سبيل المثال، استغرق تشكيل الحكومة العراقية وقتًا أطول، ناهيك عن أن العديد من مؤتمرات القمة المتعلقة بالصراع السوري لم تسفر عن نتائج ملموسة طويلة المدى.
لا يوحي علاج المنطقة من خلال عدسة لبنان بإيجاد مسار مثالي للتقدم نحو الأمام. وستكون السياسات الفعالة مضنية وبطيئة ومؤلمة في بعض الأحيان
على العموم، يحتاج صناع السياسة في الولايات المتحدة أولاً إلى التعامل مع هذه الصراعات والتوترات السياسية على المستوى الإقليمي. وتجدر الإشارة إلى أن التدخل الخارجي يؤدي في أغلب الأحيان إلى تفاقم الصراع وحالة من الجمود السياسي عن طريق عرقلة مسار التسوية وتقديم المساعدات العسكرية. من جانب آخر، يقلل عدد الجهات الفاعلة الإقليمية المعنية من حجم المصالح التي من شأنها تذليل العوائق السياسية والتخفيف من حدة الصراع. ونتيجة لذلك، يتم وضع عبء المسؤولية على عاتق الجهات الفاعلة المحلية لمعالجة الانقسامات والخلافات.
في الواقع، يعد هذا هو المسار الوحيد البناء للمضي قدما، وإن كان بطيئًا للغاية وليس سلميًا تمامًا. في هذا الإطار، لم ينه اتفاق الطائف الحرب الأهلية اللبنانية التي دامت خمسة عشر عاما. كانت العزلة الدولية لجيش ميشال عون وهزيمته من قبل الجيش السوري هي التي أنهت الحرب. في المقابل، يمكن للولايات المتحدة تحقيق هذا الهدف من خلال إتباع نهج ذو شقين. يجب أن تعالج دبلوماسيًا الانقسامات والخلافات مع حلفائها وبين الحلفاء الأمريكيين. كما يجب عليها الحد من التدخل الإيراني في هذه المناطق من خلال انتهاج سياسة الضغط القصوى.
في حال استمرت واشنطن في إتباع سياسة الضغط القصوى، فستجد الحكومة الإيرانية نفسها مضطرة للاختيار بين مواطنيها وعملائها اليمنيين والسوريين والعراقيين. وفي الواقع، يبدو أن ملامح هذا السيناريو بدأت تتحقق في إيران مع اندلاع الاحتجاجات المتعلقة بارتفاع أسعار الغاز. من شأن الإحالة إلى لبنان كمرجع أن يخفف الهيستيريا المتعلقة باقتراب اندلاع حرب كبيرة في الشرق الأوسط.
الجدير بالذكر أن روبرت مالي وكثيرون آخرين تجاهلوا فائدة لبنان لتشخيص وعلاج العديد من مشاكل الشرق الأوسط. يعتبر لبنان موردا قيِّما وغير مستغل إلى حد كبير لصانعي السياسة في الولايات المتحدة، لأن يمتلك تاريخا حافلا بالديناميات والاضطرابات. ومن دواعي الأسف، لا يوحي علاج المنطقة من خلال عدسة لبنان بإيجاد مسار مثالي للتقدم نحو الأمام. وستكون السياسات الفعالة مضنية وبطيئة ومؤلمة في بعض الأحيان. على غرار لبنان، لا يبدو أن المنطقة ستتخلص من متاعبها قريبا.
المصدر: ناشيونال إنترست