أدب الأطفال أو النشء عمومًا يتميز بالإشراق وقصص النجاح المختلفة وانتصار الخير على الشر بشكل ملحمي جذاب، فأغلب عوالم قصص النشء تتبع هذا النمط باعتبار أن الأطفال مستقبلون جيدون لمثل هذه القصص، ولكن هل هذا هو العالم الحقيقي فعلًا؟
يعتقد الكثيرون أن الأطفال لا يجب أن يكبروا وهم يستمعون إلى المعاملات أو المواقف السيئة لكي لا يتأثروا بها، لذا كانت المحصلة هي أدب الأطفال المشرق، ولكن هناك تيارًا معاكسًا يرى أن هذه القصص غير واقعية ولا تعكس العالم الحقيقي بل تحوله إلى عالم خيالي بالكامل، حيث يتعامل الجميع بلطف مع الأطفال وهو ما يؤدي إلى صدمة ربما تعطي نتائج سيئة للغاية عند التعرض للعالم الحقيقي غير الخالي من الشر هذه المرة.
ومن هذه الفكرة سلك بعض الأدباء طريقًا مختلفًا في كتاباتهم الموجهة للأطفال والنشء وربما أشهرها “سلسلة القصص المأساوية” للكاتب ليموني سنيكت التي تحكي عن أطفال يتامى ويحاول الجميع إيذائهم والاستيلاء على تركة والدهم، وعلى غير المتوقع لسلسلة بهذا الاسم فقد حققت نجاحًا كبيرًا وتحولت إلى سلسلة أفلام، فإن كانت السلسلة المأساوية هدفها الواقع فهناك رواية أخرى ولأول مرة تطرح سؤالًا عن جدوى الأمل والتحفيز!
“حكى للأطفال على مر السنين قصصًا تعطيهم صورةً خاطئة عن العالم الذي هم بصدد دخوله، وتُصور لهم الحياة فيه سهلة وبسيطة. وفي لحظات اليأس يتولى السحر تغيير الأمور وتحقق الحوريات الأماني ويتحقق العدل دائمًا، وتظهر الحقيقة في النهاية دائمًا، الخير جميل على الدوام والشر قبيح على الدوام. الغنى قيمة والفقر خزي. لذلك يتوقع الأطفال أن تكون الحياة شبيهة بعالم الحكايات فيخيبُ أملهم ويتأذون، لأن الواقع لا يوافق توقعاتهم”.
“أبناء غوندوانا” هي رواية كتبت بالفنلندية رغم جنسية الكاتب الإيرانية ورغم ذلك فقط ظهرت الثقافة الفارسية في عدة مواضع وحكايات، ربما توحي بقصة بسيطة عن طائر يحاول التحليق مثل باقي أفراد عائلته ويترتب على ذلك مقابلته لحيوانات أخرى تبدو أكثر حكمة وخبرة وتخبره أن المحاولة والتعليم والإرادة في النهاية سوف يوصلونه إلى الطيران، هذه النصائح نسمعها دائمًا وبأشكال مختلفة ولكن هل ستغير رأيك عندما تعلم أن هذه النصائح موجهة لبطريق؟
تعمد الكاتب أن تكون كل النصائح حقيقية بلا مبالغات بل حكيمة للغاية ومطابقة لعبارات النجاح الشائعة، لذا عندما تكتشف عدم قابليتها للتحقيق يتحول الأمر إلى الهزل تمامًا، ليس بسبب محتوى النصائح بل لكونها غير مناسبة لهذه الشخصية ببساطة.
أما عن الشخصيات المتمثلة في الحيوانات فأيضًا لم تكن وهمية ولم يسخر الكاتب منها رغم بعض الأخطاء في تفكيرهم والتوجيهات الخاطئة، فهم يمثلون العامة والمجتمع العادي لأننا لا نتعلم بشكل دائم من النخبة والمثقفين، بل قد نتعرض لأفكار قديمة أو وجهات نظر شخصية للغاية قد لا تعبر عن الموقف المطلوب، لذا جعل الحكمة الأخيرة والأكثر إقناعًا في يد (غوندوانا) كتلة الأرض التي تأسست منها أغلب القارات ورأت الحيوانات وتطورها وتعلمت طويلًا لتكون أهلًا للنصح.
هل نعلمهم الأمل بلا شروط؟
القصص ذات النهايات البراقة دائمًا تبهرنا، نتمنى أن تكون حقيقية وأن يصبح العالم بهذه البساطة واللطف، لكن لا تحمل الرياح ما تشتهي السفن لأن العالم خليط من الخير والشر معًا، ولكن القصص أحيانًا تعطي انطباعًا بعدم وجود الشر وأن الأمل بلا حدود، ليس بسبب قلة العزم بل لأنه لا يمكننا الوصول إلى بعض الأماني وعلينا تقبل اختلافتنا، في النهاية البطريق لا يستطيع الطيران لكنه سباح ماهر، فهل كان من الأصح إخباره عن الإرادة التي تفعل المستحيل أم عن باقي إمكاناته التي يجب أن يكتشفها بنفسه؟
الهوية وأفكار فلسفية أخرى
لم تعتمد الرواية على فكرة واحدة بل تعددت لتصل لطرح بعض الأفكار الفلسفية بعرض مناسب للناشئين وكانت أكثرهم طغيانًا تبعًا للحبكة الرئيسية هي الهوية.
عندما يكتشف البطريق الصغير ضياعه وسط مجموعتين من الطيور، الأولى تشبهه في الأفكار بينما الثانية تشبهه في الشكل، والجماعتان ترفضان استقباله لعدم انتمائه الكامل.
يختار الكاتب ترك القصة مفتوحة بلا نهاية خيالية سعيدة أو نهاية مأساوية للغاية بل بالطريقة العادية ومعالجة الوقت الذي يمضي لهذه القضايا
“إيمانك أو أفكارك، أو أن طريقة نظرتك إلى الأمور قد تجعلك غريبًا وسط أهلك، فتصبح عدو من كنت تعدهم أصدقاءك، ويصبح وجودك تهديدًا لأمانهم. سلامتك لا تهمهم، وسرعان ما تجد نفسك متهمًا بجريمة الاختلاف.. جلادك يشبهك تمامًا في الشكل، لكنه يفكر بطريقة مختلفة تمامًا. يحكم عليك قاض لا يحب طريقة تفكيرك، أو لا يجب أن تفكر أصلًا.. هو يشبهك في الشكل تمامًا، لكنه لا يشاطرك الأحلام ولا الأفكار.. ذلك القاضي يمثل نظامًا بناه أشخاص يشبهونك تمام في الشكل”.
ما الطريقة الصحيحة للتعامل مع الرفض في هذه الحالة، خاصة إذا كان هذا الاختلاف غير مقصود، فلا أحد منا يختار مكان ولادته أو لونه لكي يتعرض للرفض من أجله؟
استكمالًا للواقعية فإن الكاتب يختار ترك القصة مفتوحة بلا نهاية خيالية سعيدة أو نهاية مأساوية للغاية بل بالطريقة العادية ومعالجة الوقت الذي يمضي لهذه القضايا، فليس كل المشكلات تحل بنقلة واحدة.
“إنهم لم يحسبوا حساب روحي التي لم تنمُ مع نمو جسدي، التي أصبحت داخل جسد يكبرها بكثير.. لقد أصبحت ضائعة داخل نفسي”.
فازت رواية “أبناء غوندوانا” بجائزة فنلندا جونيور عام 1997، فالكاتب ألكسيس كوروس ليس له أي سوابق في الكتابة الموجهة إلى النشء أو الكتابة بشكل عام، بل مجال تخصصه هو إخراج الأفلام وقد حصل على عدة جوائز عن أفلامه الوثائقية، ولكن جاءت فكرة الكتاب الأول قوية ومؤثرة بدرجة كبيرة وأصبح من الأعمال القليلة التي تبنت مبدأ مخالفة الكتابة السائدة والأفكار القليلة التي تطرح على الأطفال باستمرار.