في ظل الزخم المشتعل حول أغاني “المهرجانات” في مصر، بعد نجاح إحدى هذه الأغاني في الانتشار إلى الحد الذي جعلها تحصل على المركز الثاني في قائمة “الأكثر استماعًا” عالميًا على تطبيق “ساوند كلاود”، متفوقةً بذلك على أغنية الملياردير ورائد الأعمال العالمي “إيلون ماسك” التي جاءت في المركز الثامن من هذه القائمة، كتب الناشط اليساري المصري ورسام الكاريكاتور المعروف محمد أنديل (بالألف كما يحب رسم اسمه) منشورًا على صفحته لدعم أغاني المهرجانات.
منشور أنديل الذي يقدم برنامجًا سياسيًا ساخرًا معروفًا في الأوساط الشبابية العربية، بالتعاون مع موقع “مدى مصر” تحت اسم “أخ كبير”، لم يكن ينافح عن المهرجانات من زاوية حق الجميع في الإبداع وعدم حق الدولة في المصادرة كما كان متوقعًا وحسب، وإنما جاء دفاعًا عنها من زاوية تسببها في إزعاج الدولة بشكلٍ عام والنظام المصري المستبد بشكل خاص، حيث يسعى هذا النظام دائمًا إلى “تنميط” الجمهور وهندسته، وتحويله إلى “مواطنين سمر” بلغة أنديل، بينما تخلق المهرجانات بموسيقاها الصاخبة وانفعالاتها المصاحبة، جوًا مغايرًا من التمرد وعدم القابلية للتوقع.
وقد تحولت دفة الجدل في مصر خلال الأيام الأخيرة بالفعل، من السؤال عن مشروعية المهرجان والمختلف في الأغنية الأخيرة، إلى السؤال عن موقف الدولة من هذا اللون الغنائي، عقب قرارات نقيب الموسيقيين هاني شاكر، المُقوضة لمساحات عمل منتجي المهرجانات، إذعانًا لغضب كثير من شرائح المجتمع بعد إحياء مطربي أغنية “بنت الجيران”، حديث الساعة، ليلة “عيد الحب” في إستاد القاهرة .. ولكن، هل رواية أنديل عن الدولة التي تخشى المهرجانات صحيحة؟
كيف نشأ المهرجان؟
يختلف “المهرجان” عن “الشعبي” الكلاسيكي كثيرًا. فإذا كان الشعبي طالما صُنف مقابلًا للرسمي بشكل عام، في كل الثقافات، فإن “المهرجان” يقع في منطقة بعيدة تمامًا عن الشعبي التقليدي، وإن كان أقرب إليه من حيث الشكل، فإنه أقرب إلى الرسمي من حيث المضمون.
وبشيء من التفصيل، تعتبر نشأة المهرجان، في مصر، نتاجًا لظاهرتين: الأولى ظاهرة اجتماعية/ حضرية، لم تتوافر شروطها، من بين مدن العالم العربي عامة ومصر خاصة إلا في القاهرة، وهي غياب الدولة الكامل عن أطراف العاصمة بالخدمات الأساسية، حيث تعد الدولة، في ظل غياب مجتمع مدني حقيقي، الكيان الوحيد القادر على العمل العام، وذلك، في نفس الوقت الذي ركزت الدولة جهودها الحضرية، بالتعاون مع رجال الأعمال، على الاستثمار العقاري في المدن الكبرى، التي كان بعضها ملاصقًا لتلك المستعمرات الشعبية.
وحتى وقتٍ قريب، كانت الدولة في عهد نظام مبارك عاجزةً عن إيجاد حل تقني لمشكلة العشوائيات وسكان المقابر، في أطراف القاهرة، بما في ذلك حي الدويقة المدجج بالسُكان، الذي كان مهددًا بالتدمير بسبب إحدى الصخور الكبرى التي أوشكت على الانهيار فوق رؤوس الأهالي.
المهرجانات شأنها شأن كل الفنون، ليست فنًا مستقلًا، وإنما نشأت في لحظة تاريخية معينة، استجابة إلى شروط اجتماعية، كرد فعل حتمي على سوء سياسات الدولة
العامل الثاني، وهو عامل غير محلي هذه المرة، يتعلق بتطور تكنولوجيا الإنتاج الصوتية والنشر والتوزيع، كجزء من تطور التكنولوجيا بشكل عام ثم وصولها إلى دول العالم الثالث بأسعار رخيصة عبر الصين، بالتزامن مع نشوء جيل جديد من الشباب في هذه المناطق، بات بإمكانه صناعة أغنية، وتوزيع موسيقي صاخب ملائم لسرعة هذا الجيل وهذه اللحظة التاريخية عالميًا، وكلمات مُعبرة عن قيم هذه الشريحة، ونشرها داخليًا للتخديم على الأنشطة “الاجتماعية” في هذه “الكانتونات”.
وقد ظهر أول مهرجان نعرفه رسميًا، من حي المطرية (والأميرية)، الواقع على هامش القاهرة، بغرض إحياء “تنجيد” شعبي، وهو طقس ملازم للأفراح في هذه الطبقة، تعرض خلاله العروس جهازها على الملأ، افتخارًا، في أجواء احتفالية صاخبة.
وفي وقتٍ مبكر من نشوء هذه الصناعة، جاءت وفود “غربية” من صناع الموسيقى العالمية إلى هذه المناطق بغرض استكشاف هذا اللون الجديد، الذي يعد منتجًا مصريًا خالصًا، كما أكد أوكا وأورتيجا، أول من صنعا المهرجان، في حوار تليفزيوني قديم مضى عليه نحو عقد.
الشاهد من هذه المقدمة، التي لم تبتر شيئًا من القصة لتنتصر إلى وجهة نظر مُسبقة، أن المهرجانات، شأنها شأن كل الفنون، ليست فنًا مستقلًا، وإنما نشأت في لحظة تاريخية معينة، استجابة إلى شروط اجتماعية، كرد فعل حتمي على سوء سياسات الدولة، خاصة منذ النصف الثاني من ولاية الرئيس الأسبق مبارك.
دعوى التمرد
يقول أنديل في منشوره، والنقاش هنا ليس معه وحده وإنما مع كثيرين ينحازون إلى نفس وجهة النظر، إن هذه الموسيقى تخلق زخمًا نفسيًا مغايرًا للحالة الانضباطية المستقرة، خاصة حينما تسري في جو شبابي خالص، من المبدع إلى المتلقي، مع التأكيد هنا على البُعد التاريخي والاجتماعي المشار إليه في ظروف نشأة هذا الفن.
وبالفعل كما يقول أنديل، تتضمن هذه الموسيقى نوعًا من الخشونة والتلقائية. ولكنها، في الحقيقة، خشونة في الشكل لا في المضمون، في الموسيقى لا في الكلمات، في الطقس نفسه لا في الغرض من الطقس، وهي بذلك تعد نوعًا من التكيف مع الواقع المُنحط، وليست شكلًا من أشكال التمرد عليه كما يُخيل إلى البعض.
وبشكلٍ أدق، يندرج العنف المُضمن في المهرجان، سواء في الموسيقى أم في الأداء الحركي التفاعلي، وبوجه أخص في الكلمات، تحت تصنيف “العنف السلبي”، والعنف السلبي لمن لا يعلم، هو وسيلة غير ناضجة ينتقم الفرد من خلالها من عدو غير حقيقي، نظرًا لعدم قدرته على الانتقام من العدو الحقيقي أو لعجزه عن التمييز بين العدو الحقيقي والوهمي. وباستقصاء بسيط لطبيعة العنف الكامن في هذه الأغاني، سنجد أن معظمه موجه داخليًا، إلى بعضهم البعض (غدر الأصدقاء والحياة)، وليس عنفًا سياسيًا أبدًا.
تاريخٌ من الاستخدام
ومن هذا المنطلق، فإن الدولة لا تمانع أبدًا في تلميع بعض رموز هذه الطبقة، ما دامت هذه الرموز، غير الفعالة، مطلوبةً جماهيريًا في سياقٍ ترفيهي (Entertainment) ولا تخالف الخطوط السياسية الحمراء التي حددتها الدولة. وقبل أن نفسر عداوة بعض ممثلي الدولة لهذه الشريحة، مثل نقيب الموسيقيين، بخوف الدولة من هذه الطبقة، علينا أن نسأل كيف استضافتهم نفس الدولة في إستاد القاهرة، بكل ما يحمله هذا المكان من رمزية سياسية، كما سبق وقدم أحد أبرز إعلاميي النظام أحمد موسى، أحد أشهر فناني هذه الطبقة، قبل هذه الاستضافة بمدة قصيرة.
والحقيقة هنا، أن الدولة، باعتبارها الكيان الأهم في مصر، “والأخ الكبير” تستغل الأوضاع الاجتماعية المتردية ونقص التعليم وضعف الثقافة في هذه الطبقة المنتجة لهذا النوع من الفن، في خدمة أهدافها السياسية، بشكل مباشر أو غير مباشر.
ففي ثورة يناير 2011، دفع النظام بهذه الفئة غير المحسوبة عليه بشكل مباشر لأداء الدور الذي عجزت الداخلية، جهازه الأمني الرسمي وأداته لتنفيذ القانون، عن أدائه، بسبب زخم المظاهرات غير المسبوق، وذلك عند استدعائه (النظام) بعض سكان منطقة “نزلة السمان/الهرم” لفض ميدان التحرير، في الحادثة الشهيرة المعروفة بـ”موقعة الجمل”.
وقد برع فيلم (18 يوم) في تصوير هذا الاستغلال، خلال الحوار المهم بين مقاول البلطجية محمد ممدوح الذي أجر آسر ياسين (البلطجي) لغرض وطني، وهو طرد أنصار أمريكا من الميدان، مقابل خمسين جنيهًا في اليوم. وفي أحداث العباسية ومحمد محمود التي تلت ثورة يناير إبان فترة حكم المجلس العسكري، كانت الداخلية تدفع بهذه النوعية من الشباب في مواجهة المتظاهرين المطالبين بسرعة تسليم السلطة إلى المدنيين، تحت غطاء إعلامي رسمي اصطلحت على تسميته “المواطنون الشرفاء”.
وقد كشف فيلم “المندس” الذي أعده الناشط مُهند جلال وعرضته قناة “الجزيرة”، أن أكثر الحالات التي حرص الإعلام على تسليط الأضواء عليها، بغرض اتهام الراحل محمد مرسي بإصدار أوامر استخدام العنف إلى الداخلية خلال أحداث “الاتحادية”، عام 2012، (المواطن حمادة) كانت سوء تفاهم أو تمثيلية مرتبة، بين المواطنين الشرفاء المتعاونين مع جهاز الشرطة. وكما يعلم المصريون، فإن المواطنين الشرفاء، بشقهم الفاعل على الأرض، كانوا من أبناء نفس هذه المناطق.
كما جرت العادة أن تستخدم الدولة هذه الطبقة لإحياء مهرجانات سياسية موسمية أيام الانتخابات، بغرض صناعة مشاهد مزيفة عن الإقبال الجماهيري على اللجان أو عبر شرائهم بواسطة وكلائها الرسميين من مرشحي مجلس الشعب، بمبالغ زهيدة، في سياق تنافسي داخلي، للتصويت، وفرض السيطرة أمام مقرات الاقتراع.
تستثمر الدولة في الخوف الاجتماعي العام من السلوكيات الفوضوية غير المتوقعة لسكان الأحياء الفقيرة، في تعزيز شرعية وجودها كضامن لعدم تغول هذه الفئات على الطبقات الراقية
وبفضل التحريض الإعلامي الرسمي على جماعة الإخوان بعد الانقلاب وقبل الفض، فلم يتورع كثير من تجار هذه الطبقة عن النزول إلى ميدان رابعة العدوية، قبل أن تجف دماء الشهداء والمصابين، لبيع مقتنيات المعتصمين ومستلزمات الإعاشة (خردة)، كما ساهموا من قبل في تعزيز حالة الانفلات الأمني التي خلفها النظام، أيام الثورة، بالسطو على المتاجر الكبرى الواقعة في نطاقاتهم الجغرافية، وكلها وقائع موثقة يمكن لأي شخص الوصول إليها تفصيلًا بسهولة.
وبشكلٍ غير مباشر، تستثمر الدولة في الخوف الاجتماعي العام من السلوكيات الفوضوية غير المتوقعة لسكان هذه الأحياء الفقيرة، في تعزيز شرعية وجودها كضامن لعدم تغول هذه الفئات على الطبقات الراقية التي تشارك الدولة في الثروة والنفوذ. وقد بدت سيطرة هذا الهاجسُ الأمني على عقلية هذه الطبقات العالية بوضوح في توجه صناع التجمعات العمرانية الجديدة إلى الصحراء، بعيدًا عن نطاق القاهرة القديمة، مع الاهتمام بـ”تسوير” هذه “الكومباوندات” بسياجات حديدية وجدران عازلة، في مظاهر غريبة على المجتمع المصري.
وقد أورثت هذه المقاربة الأمنية من جانب الدولة، بجانب الإحساس الدائم بالذنب وعدم الاستحقاق، نتيجة التركيز على الأنشطة التجارية غير الرسمية، وتداول المُخدرات بكثافة، أبناء هذه الطبقة إحساسًا مستمرًا بالخوف من السلطة، حتى إنه لدى بعض المهن الأساسية في هذه الأحياء، مثل قيادة “التوكتوك” – وهي مهنة تعطي لصاحبها حرية إدارة المال بعيدًا عن عناء الصنعة ولا تخلو أبدًا من إذاعة المهرجانات الصاخبة – يعتبر النجاح في الهروب من الحكومة أو التماهي معها عبر دفع مبالغ مالية كبيرة بشكل غير قانوني (جبايات ورشاوى) مهارةً مهمة لضمان الحفاظ على مصدر رزق ثابت دون مشكلات.
لذلك، فإن ذروة التمرد المتوقع من هذه الطبقة، هو ذلك العنف الموجه إلى الطبقات الأرقى، لأنها مع نجاحها في مراكمة الكثير من الأموال، تفتقد إلى الرجولة والشجاعة والشقاء الذي يعطي معنىً للرزق وطعمًا للحياة على حد قولهم، ولكن أبناء المهرجانات، في نفس الوقت، ينتظرون مجيء ذلك اليوم الموعود حاملًا بشريات التخلص من ربقة الفقر والانسلاخ من هذه البيئة إلى الطبقات الأرقى، وهو ما تعززه الدولة فيهم عبر تلميع بعضهم مؤخرًا: إمكان الخلاص الفردي.
الأولتراس
في المقابل من حالة المهادنة أو الاستغلال الحاكمة للعلاقة بين الدولة وطبقة المهرجانات، فإن الدولة، خاصة بعد الثالث من يوليو، قررت أن روابط الأولتراس عدوٌ مبدئي لها، ولكن ما الذي قد يجمع بين طبقة المهرجانات وروابط الأولتراس في جملةٍ واحدة؟
تشترك الجماعتان في كثير من الخصائص المشتركة مثل الفئة العُمرية المتقاربة، وهي مرحلة المراهقة والشباب بشكل عام، والاعتماد على الإنترنت في الظهور، فكما اعتمد منتجو المهرجان على التكنولوجيا في الخلق الفني والإنترنت في التوزيع، اعتمد شباب الأولتراس على وسائل الاتصال الحديثة في “التشبيك”، كما تجتمع الفئتان على بُنية العنف الداخلي، فالأصل في روابط الأولتراس أنها تمارس العنف الرمزي – والفعلي – ضد بعضها البعض، وقد استدعى حضور منتجي المهرجان أنفسهم إلى الإستاد السؤال عن غياب جماهير الكرة بما فيهم روابط الأولتراس.
والإجابة أن الدولة قررت اعتبار هذه الروابط الكروية في نفس المكانة التي أولتها إلى خصومها السياسيين التقليديين، ومن ثم كان سحقهم وإبعادهم عن الملاعب قرارًا مهمًا في النظام الجديد. وفي الوقت الذي تستضيف كل القنوات الرسمية “شاكوش” المهرجانات ليغازل “بنت الجيران”، كان قرار السماح إلى سيد مشاغب (كابو أولتراس وايت نايتس الزملكاوي) بزيارة والده طريح الفراش كرمًا وافرًا من الدولة.
والاختلاف بين الوضعين، ببساطة، أن هذه الروابط بعد فترة من الصراع الداخلي قررت، فيما يبدو، تمصير تجربتها باعتبارها صدىً لمنظمات عالمية مشابهة في الأساس، وتطوير خطابها واستغلال قدرتها التنظيمية ووعيها الثقافي لأداء واجبها الوطني في التصدي لعنف الشرطة ودعم الثورة بسلمية خشنة ربما لم تعرفها التجمعات المصرية من قبل، وهو ما دفع وزير الدفاع الأسبق المشير محمد حسين طنطاوي، إلى إظهار تشفيه فيما جرى خلال مذبحة بورسعيد متسائلًا: هو الشعب ساكت عليهم ليه؟
كثير من أعضاء النقابة، شبه الرسمية، يشعرون في الواقع بانزعاجٍ شديد من انتشار هذه الموسيقى، ومنافستها إياهم على موائد رزقهم
صحيح أن كثير من روابط الأولتراس المحلية طفت وانزوت وعادت، تحت وطأة البطش الأمني، إلى خطاب العنف القديم، إلا أنهم ما زالوا، وعلى طريقة “اللي في القلب في القلب”، على العهد، يضمرون عداءهم للاستبداد، ويصرحون بالوفاء لشهدائهم في الدقيقة (20) و(74) من كل مباراة: “ولع في ناس، اضرب رصاص، جيلنا من الموت ما بقاش بيخاف خلاص”.
ليس ذلك تحليلًا طبقيًا شعبويًا بالقطع، فأي من هؤلاء الشباب لم يختر موقعه من المجتمع بكامل إرادته، فكثير من العوامل الخارجة عن الإرادة الشخصية تتحكم في مصائر البشر، بل إن كثيرًا من شباب الأولتراس، ومعظمهم من الطبقة المتوسطة، قد يتحول إلى معسكر “اليمين” وتأييد الدولة والقيم، بمجرد اكتسابهم هُويات جديدة أكثر رسوخًا واستقرارًا، بعد العمل والزواج والإنجاب، ولكن الشاهد في هذا الاستدعاء هو بيان كيف تتعامل الدولة الحاليّة مع أعدائها الحقيقيين أو حتى أعدائها المحتملين.
قرار المنع
إذا كانت الدولة لا ترى في المهرجانات خطرًا محتملًا، لماذا لجأت إذًا إلى فرض إجراءات تنظيمية تحد من انتشار منتجيها، كما فعل نقيب الموسيقيين هاني شاكر؟ والإجابة، أن الدولة ليست كيانًا واحدًا، وكما تُرحب الدولة بأنماط التكيف التي تستخدها هذه الفئات للتعايش مع القهر ولا تمانع في تلميع منتجي المهرجانات، فإنها، في نفس الوقت، منوطة بحماية الحد الأدنى من القيم الضابطة للمجتمع، التي تضمن الحماية لهيبة هذه الدولة نفسها، كما تلتزم أيضا بحماية الحدود الناعمة بين الطبقات، فلا تُصعد طبقةٌ من المفترض أن وجودها، بحالتها المتردية، يشبع نرجسية الطبقات الأرقى.
وفي هذه الزاوية الأخيرة تحديدًا، علينا أن نلحظ أن “بنت الجيران” لم يكن مهرجانًا تقليديًا، وإنما أقرب في موضوعها إلى “الغزل”، وهذا الموضوع لا يندرج في موضوعات المهرجانات المعروفة أصلًا، التي تركز في أغراضها دومًا على الفخر الجهوي والكربلائيات والشجاعة كأغراض رئيسية، بينما طرقت أغنيتنا موضوعًا جديدًا، بلغة أقرب إلى لغة الفن الشعبي التقليدي الذي يجذب كل الطبقات، بل إن اللحن نفسه مسروق من إحدى الأغنيات الرومانسية المعروفة لأحد المطربين المشهورين كما اعترف أحد صناع العمل.
وقد ثار كثير من رموز المجتمع المرموقين على مشهد غناء صناع الأغنية في “الإستاد” الذي حظي بدوره على أكثر من 10 ملايين مشاهدة، استنكارًا لغياب دور الدولة الرقابي في الظاهر، بينما يتساءلون في الواقع عن دورها في حماية الحدود الطبقية: كيف لـ”شاكوش” أن يغني بجوار تامر حسني؟ هل يستويان؟!
ومن منظور أضيق، فإن كثيرًا من أعضاء النقابة، شبه الرسمية، يشعرون في الواقع بانزعاجٍ شديد من انتشار هذه الموسيقى، ومنافستها إياهم على موائد رزقهم، بعد أن حصلت كثير من هذه الأغنيات في الفترة الأخيرة على ملايين المشاهدات، وارتقى منتجوها طبقيًا ليقارعونهم في الحظوة والممتلكات والسفر إلى أفخم الأماكن، وقد بدت هذه النية السيئة إلى العلن عندما تظاهر بعضهم أمام النقابة ليطالبوا بحظر هؤلاء المنتجين من نشر أغانيهم على “يوتيوب مصر” نفسه غير مكتفين بالمنع من الأماكن العامة.