خلال فترة الاستعمار الفرنسي للجزائر التي امتدت لأكثر من 130 سنة، أنشأت سلطات الاستعمار العديد من التنظيمات السرية بهدف تصفية قيادات الحركة الوطنية في البلاد، حتى تتمكن من السيطرة عليها وتسلب خيراتها دون رادع أو عائق لأطماعها.
ولم يكن النشاط الأمني السري حكرًا على مؤسسات الدولة الاستعمارية فقط، فحتى المستوطنين أنشأوا جيشًا سريًا إجراميًا، متبعين بذلك سياسة الأرض المحروقة، كي تظل الجزائر فرنسية وتتلاشى فكرة الاستقلال عن ذهن أبنائها.
نتناول في هذا التقرير تاريخ التنظيم السري الذي شكله مجموعة من أوروبيي الجزائر المتطرفين الذين اعتمدوا على منهجية الاغتيالات والتصفيات الجسدية وتخريب وحرق المؤسسات هناك.
ديغول يعترف بحق الجزائريين في تقرير مصيرهم
في الـ16 من سبتمبر/أيلول 1959، اعترف الرئيس الفرنسي شارل ديغول بحق الجزائريين في تقرير المصير، وعرض يوم 10 من نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه على قادة الثورة الدخول في مفاوضات لبحث شروط إيقاف القتال وإنهاء المعارك، ثم أعلن في الـ14 من يونيو/حزيران 1960 استعداده لاستقبال وفد من قادة الثورة في باريس.
في الـ8 من يناير/كانون الثاني 1961، دُعي الشعب الفرنسي وأهالي المستعمرات للاستفتاء بشأن تقرير المصير في الجزائر، ونص هذا الاستفتاء على أنه عندما تسمح الشروط الأمنية فإن المصير السياسي للجزائر مع الجمهورية الفرنسية سيقرر من طرف الشعب الجزائري، وصوت 75% من المنتخبين بـ”نعم”.
تسببت منظمة الجيش السري، المسؤولة عن مئات الهجمات وعمليات الإعدام في الجزائر وفرنسا، في مقتل 2700 شخص
في الـ11 من أبريل/نيسان 1961، تحدث ديغول عن الجزائر باعتبارها “دولة ذات سيادة”، فقد تيقن الرئيس الفرنسي من ضرورة منح هذا الشعب العربي استقلاله بعد الخسائر التي تكبدتها القوات الفرنسية خلال حرب التحرير التي دامت 7 سنوات.
لم ترق هذه التطورات للعديد من أوروبيي الجزائر، وأصحاب مقولة “فرنسية الجزائر”، ما جعلهم يخططون للانقلاب على ديغول الذي خانهم بحسب نظرتهم وخضع حينها للجزائريين المطالبين باستقلال بلادهم وخروج المستعمر منها.
منظمة الجيش السري
كان العديد من الجنود والمدنيين المتطرفين، يشعرون بسخط كبير إزاء تحول موقف الجنرال ديغول الذي وصل إلى السلطة في 13 من مايو/أيار 1958 باسم الجزائر الفرنسية، لقد رأوا فيه خائنًا لفكرة الحفاظ على ملكية الجزائر، وكذلك خائنًا للصورة المثالية للجنرال المتمرد في يونيو 1940.
في الـ11 من فبراير/شباط 1961، التقى جون جاك سوزيني وپيير لاگايار وجان كلود بيريز في مدريد باجتماع سري بعد لقاءات سابقة، لقاء تم خلاله تأسيس تنظيم جديد كبديل لكل التنظيمات السياسية العاملة على غرس فكرة “الجزائر فرنسية”.
كان هؤلاء من قادة المتاريس الهاربين إلى مدريد، حيث ترأسوا تمردًا للمستوطنين الفرنسيين في الجزائر من 24 من يناير/ كانون الثاني حتى 1 من فبراير/شباط 1960 بمدينة الجزائر ونظموا الحدث الذي شارك فيه السكان الأوروبيون للتعبير عن عدم رضاهم عن نقل الجنرال ماسو، بقرار من الرئيس شارل ديغول، وقد أقيمت المتاريس في شارعي ميشليه وشارل پيگي.
حمل هذا التنظيم الذي تأسس في مدريد وانتقل إلى الجزائر، اسم منظمة الجيش السري واتخذ الصليب شعارًا له، فيما ترأسه الجنرال المتقاعد صالان بمساعدة الجنرالات: جوهو وغاردي وسوزيني والعقيد غودار، وضم العديد من الأوروبيين المواليين لأطروحة الجزائر الفرنسية، كما كان الجامع لمختلف التنظيمات الإجرامية السرية الرافضة لاستقلال الجزائر.
ضمن أهدافه المعلنة عند تأسيسه، الدفاع عن أسطورة “الجزائر فرنسية”، وتعبئة الرأي العام الفرنسي بشأن فكرة الحفاظ على الجزائر فرنسية، إلى جانب التصدي لسياسة الرئيس شارل ديغول ومحاولة الإطاحة بنظامه، فضلًا عن عرقلة المفاوضات بإشاعة حالة من الرعب وممارسة التهديدات والضغوطات على حكومة ديغول.
لم تكن هذه المنظمة السرية المتطرفة حزبًا سياسيًا يجمع رجال لديهم نفس الخيارات ولا حركة أيديولوجية تجمع أصحاب معتقد واحد، بل كانت نقطة التقاء بين مدنيين وجنود وجنرالات يسعون لإبقاء الجزائر فرنسية.
عُهد “تنظيم الجماهير” إلى العقيد غاردز، و”العمل النفسي والدعاية” لجان جاك سوسيني وجورج راس، و”جمع المعلومات” إلى جان كلود بيريز والعقيد دوفور، أما الملازم روجر ديغولدري الهارب من فوج المظلات الأجنبية الأول، فعهد إليه قيادة فرقة الكوماندوز.
يُشرف على الجميع مجلس أعلى يجمع بين الجنرالات سالان وجوهو وغاردي والعقيد غاردي وغودار، وكذلك جان جاك سوسيني وجان كلود بيريز. كان الجميع ضد استقلال الجزائر ويريدون بقاء الجزائر فرنسية.
كان تنظيم الجيش السري هرمي للغاية ومجزأ، فالأعضاء لا يعرفون بعضهم بعضًا، فباستثناء القادة لا يعرف شيء عن باقي الأعضاء، حتى إن أماكن الاجتماعات لم تكن معروفة، ففي بعض الأحيان يجتمعون في المقاهي وحتى في الشارع.
اغتيالات وقتل ممنهج
تسببت منظمة الجيش السري، المسؤولة عن مئات الهجمات وعمليات الإعدام في الجزائر وفرنسا، في مقتل 2700 شخص، من بينهم 2400 جزائري، في الفترة من مايو 1961 إلى سبتمبر 1962، كما قام هذا التنظيم السري بأكثر من 2500 تفجير بالعبوات.
بالنسبة إلى هؤلاء المتطرفين، فقط دولة قوية وسلطوية مثل نظام النازي والفاشي أو نظام أنطونيو دو أوليفيرا سالازار في البرتغال، سيكون قادرًا على الحفاظ على فرنسية الجزائر، ما عاد ذلك فإن هذه البلاد ستهرب من بين أيديهم وستخرج عن طوعهم.
تعتبر منظمة الجيش السري من بين أخطر العقبات التي واجهت الثورة الجزائرية في سنتيها الأخيرتين
أقدم هذا التنظيم على ارتكاب العديد من الجرائم وفق تقنيات مدروسة تركزت على القتل الجماعي والعشوائي بهدف ترهيب الجميع، حيث اغتالت العديد من المثقفين المتعاطفين مع القضية الجزائرية سواء جزائريين أم أوروبيين، ومن ذلك اغتيال الكاتب مولود فرعون الذي تلقى العديد من التهديدات من المنظمة، واستهدفت بذلك إفراغ الجزائر المستقلة من كفاءات في التعليم وغيرها من المجالات.
تم اغتيال الكاتب الجزائري مولود فرعون يوم 15 من مارس/آذار 1962، حيث كان في مقر عمله، من عناصر تابعين لهذه المجموعة الإرهابية السرية، إلى جانب بعض زملائه، رميًا بالرصاص.
كما أقدم التنظيم على قتل المساجين في زنزانات مراكز الشرطة مثلما حدث في مركز شرطة حسين داي بالعاصمة، وقتل العديد من المرضى في المستشفيات واتهمتهم أنهم آمنوا بضرورة تقرير مصير الجزائر.
وقد اهتدت المنظمة إلى القتل بالسلاح الأبيض ورمي الجثث في الشوارع والمنحدرات والغابات لاتهام جبهة التحرير الوطني بتنفيذ هذه الأعمال ووصل بها الحد إلى حرق الجزائريين وإخفاء أجسادهم في المدافئ.
تفجير الطحطاحة
يوم الأربعاء 28 من فبراير/شباط 1962 قبيل ساعات من الإفطار في اليوم الـ23 من شهر رمضان، كانت ساحة “الطحطاحة” بمدينة وهران مكتظة بالسكان لاقتناء مستلزماتهم، فجأة سمع صوت رهيب، تبين فيما بعد أنه انفجاران بواسطة سيارتين مفخختين قرب محل لبيع الحلويات.
تفجيران أديا إلى سقوط أكثر من 100 ضحية وإصابة المئات بجروح، وتناثرت الجثث في كل مكان وسقت الدماء تربة المكان، مجزرة بشعة تؤرخ لإحدى أبشع مجازر منظمة الجيش السري الفرنسي في وهران التي كانت في طليعة المدن التي جرت بها المذابح والتفجيرات.
تفجير ميناء الجزائر
جرائم المستعمرين الفرنسيين بالجزائر لم يسلم منها أحد، حتى إنهم أقدموا يوم الـ2 من مايو/أيار 1962 على تفجير سيارة مفخخة أمام مركز توظيف عمال الموانئ، تفجير خلف سقوط 62 شهيدًا من العمال والمواطنين الجزائريين وإصابة أكثر من 250 أغلبهم من الشباب الذين جاؤوا للمطالبة بمنصب شغل في الميناء بجروح متفاوتة الخطورة. وتزامن هذا التفجير وأعمال إجرامية أخرى مع إعلان وقف إطلاق النار رسميًا بين الجزائر وفرنسا في 18 من مارس/آذار 1962.
حرق مكتبة جامعة الجزائر
لم تقتصر عمليات الجيش السري على تصفية قيادات الحركة الوطنية والمتعاطفين معهم فقط، بل شملت أيضًا المعارف الإنسانية وذاكرة الجزائريين، فقد أقدم هذا التنظيم على فعل شنيع تمثل في حرق مكتبة جامعة الجزائر.
في الـ7 من شهر يونيو/حزيران 1962 اهتزت الجزائر على وقع جريمة ثقافية بشعة، حيث أقدم مجرمو منظمة الجيش السري الفرنسي على تفجير مكتبة جامعة الجزائر، لضرب عمق البلاد الثقافي وإرثها التاريخي وذاكرتها الوطنية.
ألقى المجرمون ثلاث قنابل فوسفورية داخل المكتبة، حولت محتواها من الكتب والوثائق باللغتين العربية والفرنسية إلى ركام أسود، ليذهب قرابة 400 ألف كتاب ومخطوط من مجموع 600 ألف عنوان طعمًا لألسنة النار، لتزداد بذلك أوجاع الشعب الجزائري الذي كان يَتُوق إلى الحرية واسترجاع سيادته المسلوبة.
جريمة شنعاء استهدفت إحدى أقدم وأهم المكتبات في العالم العربي وإفريقيا، حيث كانت تحتوي على رصيد ثري وغني وكتب قيمة في مختلف العلوم ومخطوطات نادرة بالعربية وبالأحرف اللاتينية يعود بعضها للقرن الـ17 الميلادي.
هذه بعض جرائم منظمة الجيش السري في الجزائر، جرائم نُفذت انطلاقًا من الحقد الدفين لبعض الأوروبيين المتطرفين على الشعب الجزائري وتطلعاته وآفاقه المستقبلية في الحرية والكرامة، وللهستيريا التي أصابتهم بعد اقتناعهم بضرورة خروجهم من الجزائر وإرجاع البلاد إلى أهلها.
تعتبر منظمة الجيش السري من أخطر العقبات التي واجهت الثورة الجزائرية في سنتيها الأخيرتين، فقد لقي هذا التنظيم تأييدًا واسعًا لدى غالبية الأوروبيين وبدا وكأنه القوة الوحيدة المسيطرة على المدن الجزائرية الكبرى.