أثار شروع السلطات المصرية بتشييد جدار أمني جديد على حدودها مع قطاع غزة، الكثير من التساؤلات حول أسباب ودوافع هذا الإجراء في هذا التوقيت الذي تمر به المنطقة والذي يتزامن مع مساعي أمريكا وحلفاءها تمرير خطة ترامب لمستقبل الشرق الأوسط والتي تعُرف إعلاميًا بـ “صفقة القرن”.
ورغم عدم صدور أي رد فعل رسمي من القاهرة، أوردت مواقع عبرية أن الجانب المصري بدأ في أواخر يناير الماضي، في “بناء جدار حدودي عازل على طول الشريط الفاصل مع قطاع غزة، بارتفاع ستة أمتار، ويمتد خمسة أمتار أخرى تحت الأرض، على طول 60 كلم، وذلك عمق كيلومترين تقريبًا (بين الحدود والجدار)، ومن منطقة معبر كرم أبو سالم جنوبًا وحتى معبر رفح البريّ شمالًا.
تأتي هذه الخطوة -بحسب الموقع- ضمن سعي مصر لتعزيز الأمن على حدودها مع غزة، ومنع تسلل “العناصر المتطرفة” من هناك إلى أراضيها، فيما أبدى متخصصون مخاوفهم بشأن تداعيات هذا الجدار الذي من المتوقع أن يمارس مزيدًا من الضغط على القطاع المحاصر بهدف “خنق المقاومة”، رغم تحسن ضبط الحالة الأمنية على طرفي الحدود.
المحاولة الرابعة
الجدار الجديد يتم إنشاؤه باستخدام الخرسانة المسلحة، بموازاة الجدار الصخري القديم الذي أنشأته مصر على الحدود مع غزة في مطلع يناير 2008، وتفصلهما مسافة لا تتجاوز الـ 10 أمتار، وفق ما نقل موقع “المونيتور” الأمريكي عن مصادر قبلية في شمال سيناء (شمال شرقي مصر).
ومن المقرر أن تشمل المرحلة الثانية والأخيرة من الجدار تشديد البناء في مقاطع حدودية متفرقة (غير محددة)، وهي المقاطع التي يعتبرها الجيش المصري ضعيفة أمنيًا أو تحتوي على أنفاق، بحسب المصادر، التي أشارت إلى أن أعمال إنشاء هذا الجدار قد تمتد حتى منتصف العام الجاري.
جدير بالذكر أن الجدار المزمع بناءه بطول الحدود المصرية مع غزة، ليس الأول من نوعه حيث سبقته عدة محاولات، البداية كانت في 2005، حين شيدت قوات الاحتلال سياجًا حدوديًا على الحدود مع مصر مكونًا من ألواح معدنيًا وجدران في بعض المناطق وأسلاك شائكة.
بحسب الرواية المصرية فإن الإجراءات التي تتم في سيناء على الحدود مع غزة تستهدف في المقام الأول تأمين الجانب المصري في مواجهة الحركات المسلحة
غير أن هذا السياج لم يصمد طويلًا إذ تعرضت أجزاء منه للتدمير من قبل مسلحين فلسطينيين قبل أن يقتحم مئات آلاف الفلسطينيين الحدود مع مصر في يناير 2008 للحصول على مواد غذائية واحتياجات أساسية وهو ما سمحت به السلطات المصرية لبضعة أيام.
لكن السلطات المصرية لم تسمح لهذه الواقعة بأن تمر مرور الكرام، فبعد إغلاق الحدود عقب استتباب الأمر، شرعت القاهرة في تشييد جدار صخري بارتفاع ثلاثة أمتار على الجانب المصري من الحدود، ثم في العام التالي شرعت في زرع حاجز حديدي تحت الأرض للتصدي لأنفاق التهريب.
وفي 2014 أنشأت مصر منطقة عازلة بطول الحدود مع القطاع وبعمق 1500 متر داخل الحدود المصرية، في محاولة للسيطرة على الوضع الأمني، غير أن الأمور لم تتحقق بالشكل المطلوب، إذ استمرت الهجمات ضد قوات الأمن المرتكزة هناك بصورة مكثفة وفي الـ 3 من فبراير 2019، أعلن الجيش المصري عن اكتشافه نفقا جنوبي ساحة معكسر رفح الأمني يمتد من قطاع غزّة إلى قلب مدينة رفح (المصريّة الحدوديّة) بطول يبلغ حوالي الـ 3 كيلومترات.
إجراء أمني
بحسب الرواية المصرية فإن الإجراءات التي تتم في سيناء على الحدود مع غزة تستهدف في المقام الأول تأمين الجانب المصري في مواجهة الحركات المسلحة التي تحصل على زادها من السلاح والعتاد عبر الأنفاق مع غزة، لافتة أن النفق الذي تم اكتشافه العام الماضي كان مخصصا “لتسلل العناصر الإرهابية من قطاع غزة لزرع العبوات الناسفة في الجانب المصري والدفع بعناصر إرهابيّة تدعم تنظيم الدولة الإسلامية في سيناء ونقل الأسلحة والمتفجرات”، واكتشفته السلطات المصرية بعد مقتل 5 جنود وإصابة آخرين (3 فبراير/شباط) بتفجير عبوة ناسفة في جنوب مدينة الشيخ زويد الحدوديّة مع غزة، وفقا لما نقلته وكالة “معًا” الفلسطينية.
الخبير الأمني بغزة محمد أبو هربيد، يعتبر أن “بناء هذا الجدار، يأتي ضمن الاحتياجات الأمنية لمصر، التي لديها تعاون وعلاقة مع الاحتلال، مع وجود أمن مشترك مع أكثر من طرف”، موضحا أن “هذا الجدار هو فكرة قديمة، يقام على أرض مصرية، يأتي بالتنسيق مع الداخلية في غزة لضمان الاستقرار والأمن على الحدود، والحفاظ على الحالة العامة”.
هربيد في تصريحات صحفية له أوضح أن “فكرة الجدار الخرساني الذي يجري العمل فيه هذه الأيام بوتيرة متسارعة، سبقه جدار حديدي، وقبله جدار قصير من الحجر؛ وكل هذا بهدف منع عمليات التهريب وانتقال الناس من الطرفين”، لافتًا إلى أنه “مع وجود بعض العناصر المتشددة، تطلب الأمر إقامة جدار قوي”.
أما فيما يتعلق بوجود الأنفاق بين البلدين، لم يستغرب الخبير الفلسطيني وجودها قائلًا: “في مرحلة سبقت حملة الجيش المصريّ للقضاء على الأنفاق في أكتوبر 2014، كانت هناك مئات الأنفاق في أسفل الحدود الفلسطينيّة-المصريّة، بعضها يتّسع لتهريب السيّارات، ولكن بعد الحملة المصريّة، أصبح عدد الأنفاق محدودًا للغاية، وهي أنفاق مجهولة، يديرها أشخاص لتهريب بضائع من مصر إلى غزّة من أجل التهرّب الجمركيّ، أو لتهريب مواد ممنوعة مثل المخدّرات”.
هذا جدار أمني بامتياز، ويأتي تشييده تحسبا لأي ردات فعل من قبل الشعب الفلسطيني قد تحدث نتيجة لفرض حلول صفقة القرن أو أي إجراءات أخرى من قبل الجانب الأمريكي أو الإسرائيلي… خبراء فلسطينيون
وبين أن “المرحلة الأولى من الجدار، تمتد من معبر كرم أبو سالم وحتى بوابة صلاح الدين، وهي منطقة رخوة أمنيا وقريبة من الطرف الإسرائيلي”، مع الإشارة إلى أن المسافة ما بين معبر كرم أبو سالم الذي تسيطر عليه قوات الاحتلال وحتى ساحل البحر المتوسط غربا، تصل لنحو 14 كلم.
يذكر أنه وبعد فترة هدوء نسبي شهدتها سيناء عاودت العمليات المسلحة ضد قوات الأمن المصرية هناك نشاطها مجددًا، مما أسفر عن سقوط العشرات من القتلى والمصابين، خلال الأسبوعين الماضيين، لعل أخرها مقتل سبعة من ضباط وأفراد الجيش في هجوم استهدف تمركزا أمنيا في شمال سيناء، حسبما أشار المتحدث الرسمي باسم الجيش المصري عبر صفحته الرسمية على فيس بوك.
الضغط على غزة
آخرون أبدوا تخوفهم من تسبب هذا الجدار في مزيد من تضييق الخناق على شعب غزة، وتطويق المقاومة، إرضاء للجانب الإسرائيلي، وهو الرأي الذي ذهب إليه الخبير في الشؤون الأمنية والعسكرية “رفيق أبو هاني” الذي أشار إلى أن الهدف الرئيسي من بناء مصر لهذا الجدار الخرساني المسلح والطويل هو “ضرب المقاومة الفلسطينية في غزة، وتشديد الخناق عليها”، مشددا على أن هذه الخطوة “لا يمكن أن يتخذها الجيش المصري إلا بتنسيق مسبق مع الجانب الإسرائيلي”.
أبو هاني في تصريحات له لفت إلى أن “التنسيق الأمني بين القاهرة وتل أبيب بات متطورًا للغاية، ووصل إلى مراحل متقدمة وهو تنسيق يهدف إلى حصار المقاومة الفلسطينية وقطع طرق إمدادها”، مضيفا أن “هذا الجدار من شأنه فعليًا أن يؤثر على المقاومة في ظل الحصار المشدد المفروض عليها من قبل مصر وإسرائيل”.
ويتفق معه في هذا السياق الخبير الأمني الفلسطيني كمال التربان، الذي يرى أن “هذا الجدار يساهم في زيادة التضييق على قطاع غزة المحاصر، الذي يصنف على أنه جسم متمرد، وليس من مصلحة أحد أن تبقى أنفاس المقاومة موجودة في غزة، وما يجري هو زيادة في الضغط لخنق المقاومة”، مؤكدا أن “الشعب الفلسطيني أقوى من أن تمرر عليه حلول رغما عن إرادته”.
تداعيات بناء الجدار المصري لم تنحصر عند المقاومة وفقط والتضييق عليها، بل سيكون لها تداعيات أخرى كارثية على سكان غزة المحاصرين
ونوّه التربان إلى أن “هذا جدار أمني بامتياز، ويأتي تشييده تحسبًا لأي ردات فعل من قبل الشعب الفلسطيني قد تحدث نتيجة لفرض حلول صفقة القرن أو أي إجراءات أخرى من قبل الجانب الأمريكي أو الإسرائيلي، وعليه تكون الحدود محمية”، وعن التشابه بين الجدارين المصري والإسرائيلي أوضح أن “هذه منظومة أمنية متكاملة، ومن يتخيل أن البعد الأمني للدول المحيطة منفك عن الاحتلال الإسرائيلي، فهو مخطئ”.
خبراء أشاروا إلى أن هذه الخطوة تتوافق بشكل كبير مع إجراءات الاحتلال التي تستهدف قطاع غزة، وهو ما لفت إليه الباحث المختص في الشأن الإسرائيلي، عماد أبو عواد، بقوله إنه “منذ مجيء عبد الفتاح السيسي (رئيس النظام المصري) للحكم، فقد باتت السياسة المصرية تتواءم بشكل كبير مع ما يريد الاحتلال”.
أبو عواد أوضح أن “هذا الوضع، جعل من أي خطوة مصرية تتعلق بغزة، مرهونة بشكل كبير بالتنسيق مع “إسرائيل”، وهذا يتضح ليس فقط في موضوع الجدار مع رفح، بل أيضًا في قضية المعابر والتعاطي مع ملف غزة، وفي قضية كل تصعيد، يأتي الوفد الأمني المصري في حال كان الاحتلال بحاجة لكبح هذا التصعيد”.
تداعيات بناء الجدار المصري لم تنحصر عند المقاومة والتضييق عليها، بل سيكون لها تداعيات أخرى كارثية على سكان غزة المحاصرين الذين يعتبرون الأنفاق شريان حياة لهم لإدخال الوقود والمواد الغذائية والأدوية، في ظل الأزمات الطاحنة التي يعيشونها بفعل الحصار المفروض عليهم من سلطات الاحتلال.
وفي المجمل فإن تزامن تلك التطورات مع إعلان الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب في 28 يناير الماضي عن خطّته الشرق أوسطية، التي تضمّنت منح قطاع غزّة أراضٍ جديدة داخل الأراضي الإسرائيليّة المحاذية لشبه جزيرة سيناء، تثير الكثير من التساؤلات حول العلاقة بينهما وهو ما ستكشفه الأيام القادمة.