ترجمة وتحرير موقع نون بوست
راهنت أنقرة على سياسات حازمة لتحقيق مجموعة من المصالح بشكل ملموس من خلال الاستراتيجية التي اتبعتها تجاه سوريا وقبرص وليبيا وكذلك الولايات المتحدة وربما حتى روسيا. حتى اللحظة الراهنة، حققت هذه الاستراتيجية بعض النتائج المهمة قصيرة الأجل، ولكنها تحمل في طياتها الكثير من المخاطر الجسيمة طويلة المدى. على وجه التحديد، تخاطر هذه الاستراتيجية بأن تصبح نبوءة ذاتية التحقق، حيث سيؤدي رد تركيا العدواني على خصومها المتصورين والتهديدات التي يشكلونها إلى تحولهم إلى أعداء حقيقيين. يُمثل تجنب الاستسلام للضغوط التركية مع البقاء في حالة التأهب للفرص التي ستسمح بخروج تركيا عن هذا المسار، التحدي الذي تواجهه واشنطن.
منذ سنة 2016، حرص السياسيون الأتراك والمحللون المؤيدون للحكومة على وصف عقيدة السياسة الخارجية الجديدة لتركيا لأي شخص يمتلك الرغبة بالاستماع. أكدوا باستمرار على رغبة تركيا في تحقيق قدر أكبر من الاستقلال في العالم، وتقليص اعتمادها على حلفائها الغربيين السابقين. بالإضافة إلى ذلك، أوضح السياسيون الأتراك والمحللون أن تركيا ستصبح أكثر حزمًا من أجل تأمين مصالحها، وذلك من خلال الاعتماد على القوة الصلبة والتدخلات العسكرية الخارجية.
يعتقد المحللون والسياسيون الأتراك، أن وضع استراتيجية هجوم جيدة يعد أفضل وسيلة للدفاع بالنسبة تركيا.
من خلال شرح السبب المنطقي وراء انتهاجها هذه الاستراتيجية، يجادل هؤلاء السياسيون والمحللون بأن تركيا تواجه، في الوقت الراهن، تهديدًا وجوديًا من مجموعة من الأعداء، بما في ذلك الولايات المتحدة وشركاؤها السوريون الأكراد والمحور الإقليمي المتكوّن من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر و”إسرائيل”.
نظرا لاقتناعهم بأن محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا في 15 تموز / يوليو سنة 2016 كانت هجومًا من تدبير قوى أجنبية. في الوقت الحالي، يعتقد المحللون والسياسيون الأتراك، أن وضع استراتيجية هجوم جيدة يعد أفضل وسيلة للدفاع بالنسبة تركيا، من خلال نقل ميدان المعركة إلى أراضي أعدائها. يوفر أخذ هذه العقيدة بمعناه الظاهري مرشدا جيدا لفهم معالم السياسة الخارجية التركية الحالية. لا يحتاج المرء إلى تقبّل صحة مفهوم أنقرة للتهديد حتى يستنتج بأنها تمكنت من توجيه أفكار الشعب التركي في السنوات الأخيرة وستواصل القيام بذلك.
تركيا تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية
من جانب آخر، يمكن رؤية مقاربة أنقرة للسياسة الخارجية الجديدة بشكل أوضح من خلال العلاقات التي تربطها مع الولايات المتحدة. طيلة عقود، ظلت أنقرة تشعر بالاستياء من الشروط غير المتكافئة للعلاقة الأمريكية التركية، مشيرة من بين أمثلة أخرى إلى معارضة واشنطن المستمرة للتدخل التركي في قبرص. وبعد محاولة الانقلاب التي جدّت سنة 2016، التي يعتقد الكثيرون في أنقرة أن الولايات المتحدة تقف ورائها، أظهر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التزامًا جديدًا فيما يتعلق بإعادة ضبط شروط العلاقة.
على سبيل المثال، عند شراء صواريخ الدفاع الجوي الروسية إس -400، أعلن أردوغان استقلال تركيا عن واشنطن. في حين توقّع العديد من المحللين الأمريكيين أن تتراجع أنقرة، في نهاية المطاف، تحت الضغط الأمريكي. كما كان الحال في الماضي، ظل أردوغان ثابتًا مخاطرًا بذلك بفرض عقوبات على بلاده، على الرغم من تعثر الاقتصاد. حتى اللحظة الراهنة، يدرك أردوغان، على الأقل وبشكل صحيح، أن تركيا تعد ذات أهمية أكبر بالنسبة لواشنطن من أن تخاطر باتخاذ إجراءات عقابية قاسية لا مبرر لها.
أدى شراء تركيا إس-400 إلى حرمانها من دورها كمنتج مشارك للطائرة المقاتلة من طراز إف-35، مما قد يكلفها أكثر من 10 مليارات دولار.
بالإضافة إلى ذلك، اتخذت أنقرة نهجا عدوانيا مماثلا في شمال شرق سوريا من خلال تهديدها المتكرر بالتدخل العسكري في بعض المناطق السورية على الرغم من خطر مواجهة القوات الأمريكية. في نهاية المطاف، أقنعت أنقرة الرئيس دونالد ترامب في بالسماح بتوغل تركي ضد وحدات حماية الشعب (المليشيا الكردية السورية الرئيسية التي تعد من أحد فروع حزب العمال الكردستاني الذي يخوض حربا مع الحكومة التركية منذ سنة 1984)، ورفض مطالب الأكراد الإقليمية في الشمال.
في خضم كل ذلك، تحدت الحكومة التركية واشنطن من خلال القبض على عدد من الموظفين المحليين في وزارة الخارجية الأمريكية واحتجاز القسّ الأمريكي أندرو برونسون في السجن لأكثر من سنتين على الرغم من الدعوات المتكررة رفيعة المستوى لإطلاق سراحه.
نتيجة لهذه السياسات، واجهت تركيا عواقب حقيقية، حيث أدى شراءها لصواريخ إس-400 إلى حرمانها من دورها كمنتج مشارك للطائرة المقاتلة من طراز إف-35، مما قد يكلف أنقرة أكثر من 10 مليارات دولار من المبيعات في نهاية الأمر.
بعد أن هاجمت تركيا وحدات حماية الشعب في تشرين الأول / أكتوبر سنة 2019، علّق البنتاغون عملية سرية لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع أنقرة، بينما نظر الكونغرس في فرض مجموعة من العقوبات، التي لا يزال من الممكن تنفيذها.
من خلال تحمل هذه العواقب وغيرها ستثبت تركيا لواشنطن أنها لن تخضع للضغوط الأمريكية.
علاوة على ذلك، لم تسترد عملة تركيا عافيتها بعد الخسارة الهائلة التي تكبدتها عندما هدد ترامب بتدمير” الاقتصاد التركي في صائفة سنة 2018 لضمان إطلاق سراح القس برونسون. من وجهة نظر أنقرة، من المحتمل أن يكون هذا مجردّ وضع مؤقت.
من خلال تحمل هذه العواقب وغيرها ستثبت تركيا لواشنطن أنها لن تخضع للضغوط الأمريكية، وهو ما سيمكنها من ضمان فوائد طويلة الأجل تشمل ربط علاقة أكثر مساواة مع الولايات المتحدة.
من جهتها، اتبعت أنقرة نهجا صارما حول مجموعة من المسائل التي تتعلق بالشؤون الإقليمية، لذلك عندما بادرت جمهورية قبرص، بالتنسيق مع “إسرائيل” واليونان، لاستغلال موارد الهيدروكربون التي وقع اكتشافها في الآونة الأخيرة قبالة ساحلها الجنوبي الشرقي، أعلنت أنقرة أنها ستحبط هذه الجهود إلى أن يعترفوا بمصالحها البحرية في المنطقة. في أعقاب ذلك، قامت تركيا بإرسال سفن حربية بهدف ترهيب الشركات الأجنبية المسؤولة عن عمليات التنقيب الاستكشافية في المياه القبرصية. تبعا لذلك، قامت بإرسال سفن الحفر للتأكيد على مطالبها.
أنقرة تثبت وجودها في مناطق أخرى
واصلت أنقرة بذل المزيد من الجهود بهدف توسيع نفوذها في شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال السياسة التي وضعتها فيما يتعلق بالصراع الليبي. في خريف سنة 2019، ضاعفت تركيا دعمها لحكومة الوفاق الوطني المدعومة من قبل البرلمان التركي في نزاعها ضد الجيش الوطني الليبين الذي يحظى بدعم مصر والسعودية والإمارات العربية المتحدة وروسيا، من خلال إرسال بعث طائرات مسيرة ومستشارين عسكريين وألفي مقاتل سوري من صفوف المتمردين، أبدى أردوغان مدى استعداده لنشر قوات تركية للدفاع عن حكومة الوفاق الوطني المدعومة من قبل البرلمان التركي.
ستنهار السياسة التي تعتمدها تركيا تجاه سوريا وسيستمر اللاجئين في التوافد مع تقدّم قوات الأسد من إدلب.
في غضون ذلك، أبرمت تركيا اتفاقية مع حكومة طرابلس بهدف تحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة لكلا الطرفين في البحر الأبيض المتوسط، واتفقا على عزل المنطقة الاقتصادية التي تستفيد منها اليونان، على الأقل بموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سيحق لها الحصول على المناطق المحيطة بجزيرة كريت. نتيجة لذلك، ستسمح هذه الاتفاق لتركيا بوضع حدٍّ للخطط الرامية لربط أنابيب الغاز الممتدة من قبرص و”إسرائيل” ومصر إلى جنوب شرق أوروبا.
في الوقت الحالي، ستواجه استراتيجية تركيا فيما يتعلق بالقوة الصلبة اختبارًا أكثر خطورة في شمال غرب سوريا. على إثر دعم تركيا المتمردين السوريين في حربهم ضد نظام الأسد واستقبالها لملايين اللاجئين السوريين، ستنهار السياسة التي تعتمدها تركيا تجاه سوريا وسيستمر اللاجئين في التوافد مع تقدّم قوات الأسد من إدلب الخاضعة لسيطرة المتمردين.
في البداية، علقت تركيا آمالها في سلسلة المفاوضات التي نظمتها موسكو بغية وقف إطلاق النار والحد من تقدّم الأسد. مع تفاقم حالة الفوضى، حذّر أردوغان من أن تركيا ستستخدم القوة العسكرية المباشرة للتحقق من النظام وحماية إدلب، إذا لزم الأمر.
تركيا تكتشف أوجه قصورها
خلال الأشهر القادمة، ستجد تركيا صعوبة في تحقيق توازن، ذلك أنها على شفير مواجهة مع القوات المدعومة من قبل روسيا في ليبيا وسوريا. من جهة أخرى، تواجه تركيا فرض عقوبات أكثر جدية من الكونغرس الأمريكي ما إذا مضت قدما في مخطط شراءها لصواريخ إس-400 تريومف في نيسان/أبريل.
في محاولة لإدارة هذا الموقف، من غير المرجح أن تعيد أنقرة تقييم علاقاتها مع الغرب، كما قد يأمل البعض في واشنطن، طالما أن روسيا تحتفظ بالقدرة على سحب تركيا خارج إدلب (لا تزال واشنطن لا تحبذ الاستثمار في هذا النوع من الموارد، على الرغم أن ذلك من شأنه أن يغير هذا الوضع)، فمن المرجح أن تقبل أنقرة في النهاية إبرام اتفاق وقف إطلاق نار جديد بوساطة روسية.
لا بد أن يكون الوضع في إدلب وسيلة للتذكير بأنه في حال كانت أنقرة ترغب في انتهاج سياسة خارجية مستقلة بالفعل.
وهذا ما من شأنه أن يحافظ على بعض مكاسب النظام، بينما يعترف، ولو بشكل مؤقت على الأقل، بتقلص مجال النفوذ التركي. أو بعبارة أخرى، من غير المحتمل أن تختلف أنقرة مع روسيا بشكل دائم فيما يتعلق بهذا النزاع، أو حتى تتخذ خطوات مثل التراجع عن صفقة عملية شراء إس-400 تريومف، التي تفتح المجال بحدوث تقارب حقيقي مع واشنطن.
مع إدراكها لهذه الحقيقة، مازالت واشنطن قادرة على الاستفادة من توتر العلاقات التركية الروسية والحدود التي باتت واضحة حديثًا لسياسة القوة الصلبة التي تعتمدها تركيا. كما يتعين على مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية والبنتاغون إعلام نظرائهم الأتراك أنه ينبغي على أنقرة كبح سياساتها الأكثر عدوانية، حفاظا على إمكانية ضمان حصولها على الدعم الأمريكي في حال حدوث أزمة مع روسيا في المستقبل.
ويشمل هذا عدم شراء أنظمة أسلحة روسية جديدة ووقف المساهمة في تصاعد التوترات في شرق البحر الأبيض المتوسط، وعدم استغلال حق الفيتو في حلف الناتو.
تجدر الإشارة إلى أن شكوك تركيا المتعلقة بالولايات المتحدة والتزامها الجديد بتأكيد مصالحها بقوة لن تنتهي عن قريب. مع ذلك، لا بد أن يكون الوضع في إدلب وسيلة للتذكير بأنه في حال كانت أنقرة ترغب في انتهاج سياسة خارجية مستقلة بالفعل، فيمكنها القيام بذلك بشكل أكثر فاعلية إذا لم تسعى إلى عزل واشنطن دون مبرر.
المصدر: موقع مركز السياسة العالمية