ألقت أحداث الشغب التي شهدها ملعب محمد بن زايد بالإمارات الذي استضاف السوبر المصري بين الزمالك والأهلي في 20 من فبراير الحاليّ، بظلالها القاتمة على المشهد الكروي المصري لتؤجج مشاعر الاحتقان مرة أخرى بين جمهوري أكبر ناديين عربيين وسط مخاوف من تجاوز هذه المشاعر لحدودها الدافئة المعتادة طيلة السنوات الماضية.
تأتي هذه الأحداث غير المتوقعة بعد ستة أيام فقط من الأجواء المثالية التي شهدتها مباراة السوبر الإفريقي التي أقيمت في قطر في 14 من هذا الشهر، بين الزمالك والترجي التونسي، التي تحولت إلى كرنفال جماهيري مميز لاقى إعجاب وتقدير الكثيرين، ليفرض ملف عودة الحضور الجماهيري للملاعب المصرية نفسه مرة أخرى على مائدة النقاش.
المباراة التي أقيمت في الإمارات تحولت مع مرور الوقت إلى حرب شوارع ومعركة بالأيدي والأقدام، شارك فيها لاعبو الناديين وبعض الإداريين، ولو تطورت الأحداث أكثر من ذلك لربما كان للجمهور الذي حضر المباراة دور في تلك المواجهات التي صدرت صورة سيئة عن الكرة المصرية خارجيًا.
ورغم حالة التلاحم التي تظهر عليها الجماهير المصرية منذ مجزرة بورسعيد التي أودت بحياة 74 مشجعًا أهلاويًا ومن بعدها أحداث الدفاع الجوي التي سقط فيها 20 زملكاويًا، وتتجسد في إضاءة أضواء الهواتف خلال المباريات في الدقيقتين 20 و74 تذكيرًا بتلك الأحداث، فإن ذلك لم يغط على حالة الاحتقان التي بات عليها مشجعو الفريقين.
المتابع للشأن الكروي المصري يستشعر خلال الآونة الأخيرة حالة من تفاقم مشاعر التعصب بين جماهير مختلف الأندية لا سيما القطبين الكبيرين، هذا التعصب عززته مواقف وسلوكيات وقرارات هنا وهناك، تبادلت الجماهير على إثرها التراشق فيما بينها بالسب والقذف، بل وصل الحد إلى التخوين والزج باسم الوطنية في تلك المعاركة الوهمية.
المقربون من دوائر صنع القرار، الكروي والأمني، يميليون إلى أن الأحداث التي شهدها معلب بن زايد ستقضي على آمال المصريين في عودة الجماهير للملاعب مرة أخرى، وهو المطلب الذي طالما نادى به المصريون ودومًا ما يتم رفضه من السلطات الأمنية لأسباب غير معلومة.. ليبقى السؤال: من المستفيد من إذكاء الفتنة الرياضية في مصر؟
التفاصيل الكاملة لاحتفال عبدالله جمعة.. وإشارة خارجة من #شيكابالا لجماهير #الأهلي عقب الفوز بـ #السوبر pic.twitter.com/8IfiPivPMu
— المصري اليوم (@AlMasryAlYoum) February 20, 2020
الإعلام الرياضي.. المسؤول الأبرز
اتفق المشاركون في “منتدى إعلام مصر“، الذي عقد بالقاهرة نوفمبر الماضي، تحت عنوان “الصحافة الجيدة.. المحتوى والممارسات ونماذج الأعمال”، على أن الإعلام الرياضي هو المسؤول الأبرز عن تفشي حالة التعصب الكروي بين جماهير الأندية ومشجعيها.
خبراء الرياضة والإعلام الذين شاركوا في المنتدى أشاروا إلى أن الوصول إلى إعلام خالٍ من التعصب مسؤولية مشتركة بين الأندية والإعلاميين والمجلس الأعلى للإعلام الذي يضع الأطر القانونية، وأن ما يحدث داخل مدرجات الملاعب نتيجة منطقية لما يخطط له خارجها.
الناقد الرياضي حسن المستكاوي، يرى أن “هناك تصورًا بأن من يكتب في الرياضة يفكر بعضلاته وهذا غير صحيح، فالصحفي الرياضي يقرأ ويطلع ويتابع شأنه شأن الصحفيين من المتخصصين في المجالات الأخرى”، لافتًا إلى أن منظومة الإعلام الرياضي العربي بشكل عام تعاني من خلل، حيث ما زالت تعمل بالنهج القديم الذي يتجه لتحميل الشيء أكثر مما ينبغي.
أما عن المضمون المقدم وما يتخلله من مزايدات، كشف المستكاوي أن البعض لديه خليط بين الوطنية والرياضة، “فالوطن لا بد أن نبتعد به عن أي مناوشات”، موضحًا أن الإعلام الرياضي على مدار 40 عامًا تسبب في صناعة التعصب، شارحًا مثال على فكرة التعصب حينما يتم استخدام أقوال في غير مواضعها هدفًا لمزيد من التأجج، موضحًا أن سبب انسحابه من لجنة الإعلام الرياضي عدم تفعيل مدونة السلوك الرياضي التي نحتاجها بشكل جدي.
عضو مجلس إدارة النادي الأهلي محمد سراج الدين، يرى أن غياب الجمهور عن الملاعب لم يحل أزمة الفتنة والتعصب بل أدى لتفاقمها على منصات التواصل الاجتماعي قائلًا: “من وجهة نظري شغب بعض المسؤولين على الشاشات أخطر من شغب الجماهير في المدرجات”.
آل الشيخ.. رأس حربة الفتنة
“مش قادر أصدق أني كل ما أدخل تويتر ألاقي أكبر جمهورين في الوطن العربي بيشتموا بعض طول الوقت… هي خلاص حياتنا بقينا نصحى الصبح نشوف هنشتم بعض إزاي؟” جسد اللاعب الدولي المصري محمد صلاح، نجم نادي ليفربول الإنجليزي، بتغريدته تلك التي نشرها على حسابه الرسمي على “تويتر” في 11 من نوفمبر الماضي، واقع ما وصل إليه الشارع الرياضي في مصر خلال الآونة الأخيرة.
مش قادر أصدق أني كل ما أدخل تويتر ألاقي أكبر جمهورين في الوطن العربي بيشتموا بعض طول الوقت… هي خلاص حياتنا بقينا نصحى الصبح نشوف هنشتم بعض ازاي؟
— Mohamed Salah (@MoSalah) February 11, 2019
منذ دخول تركي آل الشيخ، رئيس هيئة الترفيه السعودي ورئيس الاتحادين السعودي والعربي لكرة القدم سابقًا، مستثمرًا في الرياضة المصرية ودعمه للأهلي ثم انقلابه على مجلس الإدارة، والاتجاه للتعاون مع الزمالك، ثم شراء نادي الأسيوطي وتحويل اسمه إلى “بيراميدز” وإنفاق ملايين الدولارات، وحالة الاحتقان بين الجماهير تتزايد كل يوم.
في مارس 2018 فرض آل الشيخ نفسه على خريطة الإعلام الرياضي المصري، بزيارته للنادي الأهلي مستقلًا سيارته الفارهة لتفتح له أبواب النادي وتفرش السجادة الحمراء ويجلس الرجل على مقعد رئيس النادي بعد أن منح الرئاسة الشرفية له، في مشهد أثار الكثير من التساؤلات حينها.
منذ تلك الوهلة دخل الرجل ميدان الرياضة المصرية بسرعة الصاروخ، هبط على ساحات الكرة بـ”الباراشوت”، أمواله التي حملها ووعوده الخيالية كانت جواز سفره لأن يصبح الشخصية الأكثر حضورًا في الإعلام المصري في وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات.
وما بين “حرامية الساعات” و”دلدول الكفيل” اشتعلت ساحات السجال بين جمهور ناديي الأهلي والزمالك المصريين، لتتجاوز منصات السوشيال ميديا إلى الملاعب والمدرجات وشاشات الفضائيات والمواقع الإخبارية، حتى وصل الحال إلى التحذير من إحداث فتنة كروية جماهيرية لا يمكن توقع تبعاتها خاصة أن جمهور الناديين يتجاوز عشرات الملايين.
رغم المنافسة حامية الوطيس بين مشجعي الفريقين طيلة العقود الطويلة الماضية ومنذ نشأة الناديين، فإنها استقرت عند المنطقة الدافئة
وبعد انسحاب مؤقت من المشهد على ضوء هجوم تعرض له رأس حربة قوى محمد بن سلمان الناعمة في مصر، عاد مرة أخرى للساحة عبر مغازلة الأهلي على حساب غريمه الأبيض، ليجد الأبواب مفتوحة أمامه مرة أخرى من مسؤولي القلعة الحمراء دون أي اعتبارات للإهانات التي وجهها لقيادات وجماهيري النادي الأكثر جماهيرية في الوطن العربي.
ومنذ ذلك الوقت بدأ في استفزاز جماهير الزمالك عبر تغريدات قلل بها من مستوى الفارس الأبيض، وفي المقابل قدم وعودًا وتعهدات بدعم الفريق الأهلاوي بصفقات ومنح ومعونات، وصلت إلى مغازلة لاعبيه بمكافآت خيالية حال الفوز على الزمالك في السوبر الأخير، وما أثير بشأن توفير وجبات غذائية للجماهير الحاضرة في الملعب ووسائل مواصلات على نفقته الخاصة.
هذا النفخ في النار تجسد على منصات السوشيال ميديا بصورة فجة، التي تحولت إلى سجال قوي بين جمهوري الناديين، فريق يتهم الآخر بالتخلي عن مبادئه لأجل حفنة من المال وإسقاط شعارات الوطنية والمبادئ التي طالما كان يرفعها الأهلي، وفي المقابل تعرض جمهور الزمالك لانتقادات مشابهة كونه من فتح الباب أمام تركي قبل ذلك وتخصيص مبنى إداري بالنادي باسمه، وإن تم إزالته بعد ذلك بعد انقلابه على الزمالك.
هذا السجال عمق الفتنة والاحتقان في نفوس الجميع، وهو ما تكشف بصورة كبيرة في ملعب بن زايد، حيث أفرغت الجماهير شحنة غضبها في صورة هتافات مسيئة وزجاجات تلقى في الملعب الذي بدوره تحول إلى ساحة للكر والفر بين لاعبي وإداريي الناديين، في مشهد غاب عن الساحة المصرية منذ سنوات.
يذكر أنه ورغم المنافسة حامية الوطيس بين مشجعي الفريقين طيلة العقود الطويلة الماضية ومنذ نشأة الناديين، فإنها استقرت عند المنطقة الدافئة، مكتفية بشعارات التأييد والدعم وفي أقسى الظروف استخدام الألعاب النارية والشماريخ، لكن الوضع تغير تمامًا خلال الأشهر الماضية.
قطبا الكرة في قفص الاتهام
يأتي إداريو الناديين الكبيريين على قائمة المتورطين في إذكاء روح الفتنة الكروية في مصر، على رأسهم رئيس نادي الزمالك، مرتضى منصور، الذي لا يكل ولا يمل من توجيه الانتقادات والاتهامات التي تصل في بعض الأحوال إلى سب وقذف مسؤولي ولاعبي الأهلي واتحاد الكرة المصري.
اعتاد منصور مستندًا إلى حصانته البرلمانية كونه عضوًا في مجلس النواب (البرلمان) الهجوم على مجلس إدارة الأهلي واتهامه بالتآمر والخيانة، هذا بخلاف إجادته لفن الابتزاز باسم الوطنية في إسكات معارضيه، مرتكزًا في ذلك إلى حالة السيولة التي تعاني منها البلاد هذه الأيام فيما يتعلق بالوطنية والتهم سهلة التوجه للآخرين.
عُرف عن رئيس الزمالك صناعته للأزمات وتراجعه عن قراراته بصورة مستمرة، فهو الذي أقسم قبل ذلك بعدم لعب فريقه مباراة السوبر في قطر، موضحًا أنه لن يقبل بذلك حتى لو هبط الزمالك من بطولة الدوري، وهو الذي اتهم بعض لاعبي الأهلي بالتآمر مع جهات خارجية على أبنائه (أمير وأحمد) بجانب لاعبي الفريق.
وفي فبراير الماضي أطلق مشجعو النادي الأهلي على مواقع التواصل الاجتماعي هاشتاغ #مرتضي_منصور_صانع_الفتنه الذي تصدر قائمة أكثر الهاشتاغات انتشارًا في مصر حاصدًا أكثر من 158 ألف تغريدة عبر من خلالها المستخدمون عن استيائهم من رئيس الزمالك ولغة الشتم التي يستخدمها دائمًا.
من المستفيد؟
ما يزيد على 7 سنوات كاملة مُنع فيها الجمهور من حضور مبارايات كرة القدم، دون ذكر أسباب معلنة، ورغم أن مبررات قبول هذا الإجراء بداية الأمر كانت قوية في ظل حالة الاضطراب الأمني التي كانت تشهدها البلاد في هذا التوقيت، فإن الوضع الآن – على حد وصف السلطات الرسمية – بات أكثر هدوءًا، فما المانع من عودة الجماهير مرة أخرى؟
تمثل الجماهير عمومًا والروابط المنضوية تحت اسم “الأولتراس” على وجه الخصوص صداعًا في رأس النظام، كونها تعكس حالة من التمرد على الواقع وإذكاء روح الثورة في نفوس الشباب عبر الشعارات القوية والرنانة التي تهز جنبات الملعب فتعيد الأذهان إلى أجواء يناير وما بعدها.
وعليه قررت الدولة، خاصة بعد الـ3 من يوليو، أن روابط الأولتراس عدوٌ مبدئي لها، وعليه وضعتها في نفس المكانة التي أولتها إلى خصومها السياسيين التقليديين، ومن ثم كان سحقهم وإبعادهم عن الملاعب قرارًا مهمًا في النظام الجديد، وهو ما حدث بالفعل، وكان لرئيس نادي الزمالك دورًا محوريًا في هذا الاتجاه.
في مساعي الدولة لوأد أي منفذ من شأنه أن يمثل حال توظيفه بشكل أو بآخر قلقًا عليها كان رفض عودة الجماهير للملاعب مرة أخرى
التجمعات بصورة عامة تقلق السلطات الحاليّة، تساوى في ذلك أولتراس الرياضة أو المهرجانات الغنائية، وهو ما جسدته الحملة ضد هذه النوعية من الأغاني، خاصة أنهما يشتركان في عدد من السمات، مثل الفئة العُمرية المتقاربة، وهي مرحلة المراهقة والشباب بشكل عام، والاعتماد على الإنترنت في الظهور، كما تجتمع الفئتان على بُنية العنف الداخلي كذلك.
وفي مساعي الدولة لوأد أي منفذ من شأنه أن يمثل حال توظيفه بشكل أو بآخر قلقًا عليها كان رفض عودة الجماهير للملاعب مرة أخرى، لكن الاستمرار في هذا التوجه دون مبرر قوي سيشكك في صورة الدولة وقدرتها على التأمين، ومن ثم كان لا بد من مبرر حجة قوية يجتمع عليها الجميع لتأجيل فكرة فتح الملاعب أمام الجماهير.
ورغم المحاولات المبذولة بين الحين والآخر لتقنين عملية دخول الجماهير للملاعب من خلال تطبيقات إلكترونية يسجل من خلالها الراغبون في شراء تذاكر المبارة عبر صورة من هويتهم الشخصية وفرض قيود شديدة، فإن حالة القلق من خروج الوضع عن السيطرة ما زالت تخيم على الأجواء.
الإبقاء على الفتنة الكروية بوضعيتها الحاليّة يخدم تلك التوجهات بلا شك، وسيكون مبررًا قويًا للاتفاق على قرار منع الحضور الجماهيري مهما كانت المطالب، فالخوف من تفاقم الوضع إلى حد الاشتباك بين جمهوري الناديين خط أحمر لا يمكن القفز عليه من أجل متعة كروية أو تحسين صورة خارجية.
اللافت للنظر أنه رغم معرفة الشارع المصري برؤوس الفتنة الكروية بصورة واضحة لا تقبل الشك أو التأويل، فإن أحدًا لم يتحرك للتصدي لهم، وعلى العكس من ذلك، تفتح أمامهم الأبواب وتمهد الطرق نحو مزيد من سكب الزيت على النار، وهو ما أثار الشكوك بشأن مدى جدية الدولة في وأد هذا التعصب وتجفيف منابعه.