إنّ لإرادة الشعوب قوة وصلابة لا يستطيع فهمها من تربى في الذلّ والخنوع، وإنّ لانتصار إرادة الشعوب معنى لا يستشفه من عاش كالأيتام على مأدبة اللئام، يقتات مما يلقيه إليه سادته من فتات.
كثيرة هي الشعوب التي تعطي الدروس اليوم للخانعين والخاضعين والمتذللين، ولنا مثال في الشعب التركي الذي رزح لسنوات تحت حكم مصطفى كمال أتاتورك الذي دمّر الخلافة الإسلامية العثمانية واستبدلها بوطن قومي للأتراك ذو توجه يساري معادي للإسلام، مصطفى كمال الذي أمر بترجمة الأذان إلى اللغة التركيّة مع الإبقاء على عبارة “حي على الصلاة، حي على الفلاح” بالعربيّة حتى لا يفهم الأتراك أنّ في الصلاة فلاح ونجاح.
إنّ إرادة الأتراك الذين عاشوا أربعة انقلابات عسكريّة ضربت خلالها أي مكوّنات مجتمعية ذات توجه إسلامي، رغم ذلك استطاع الأتراك أن يتحدّوا موروث أتاتورك والنكسات الاقتصادية والتصحر العقائدي ليبنوا نظامًا سياسيًا مزج بين الأصالة الدينية الثقافية والحداثة التقنية التكنولوجية.
فأصبح لتركيا اليوم طائرة حربية ودبابة العسكرية صنعت بسواعد تركية، كما نجح الأتراك في الإنتاج التلفزيوني وفي السياحة والتجارة مع الحفاظ على تماسك المجتمع والأسرة في آن واحد، وتستمر إرادة الشعب التركي متماسكة وصامدة من خلال وصول رجب الطيّب أردوغان كأوّل رئيس منتخب لتركيا منذ تأسيس الجمهورية.
هناك غير بعيد عن تركيا حيث أرض العزة والكرامة حيث غزة بني هاشم، حيث يخط أحفاد الأسود ملحمة في الصمود، ففي زمن الأيادي المرتعشة والهمم المتراخية، تبرز غزة أرضًا للإباء تنير أرجاء السماء، هناك في غزة حيث استطاعت الفصائل الفلسطنية ومن ورائها كل أطياف الشعب من التوحد لقتال العدو الأزلي وهو الكيان الصهيوني.
هناك حيث استطاعت الإرادة الفلسطنية الغزاويّة الوقوف في وجه الصهاينة العرب والإسرائليين على حدّ سواء، فالغزاويون قد تآكلت عليهم الأمم عربانًا قبل الغربيين، فمصر والإمارات والسعوديّة عملت كأذرع للكيان الصهيوني تضرب المقاومة ماليًا وسياسيًا واجتماعيًا، في حين تُركت المهمة العسكرية للصهاينة.
لكنّ إرادة الشعوب لا تهزم ولا تقهر حيث انتصرت غزة، وانكسرت إسرائيل، فاحتقرت كلّ الشعوب القيادة المصريّة واشمئزت من الإمارات والسعوديّة، ليخرج الشعب في غزة مهللاً مبتهجًا بانتصار مقاومته وعدم انكسارها.
وفي السياق ذاته، لن يغفل المتابع للشأن العربي عن صلابة إرادة الشعب التونسي الذي أحدث فعلاً تاريخيًا غير مسبوق، شعب أزاح سنوات من حكم دكتاتوري من خلال ثورة سلميّة أبهرت العالم بأسره وفتحت الباب مشرّعًا أمام شعوب أخرى لتتقف أثره.
ولم تتوقف إرادة التونسيين عند الثورة، حيث نجح الشعب في انتخاب مجلس تأسيسي مهمته كتابة دستور جديد للبلاد، وحقق المجلس المنتخب مطلب شعبه وخطّ دستورًا توافقيًا أدهش العالم من خلال مضامينه، وأردفه بقانون انتخابي لم يتضمّن العزل السياسي في خطوة تؤكد ثقة قادة تونس الجدد في إرادة شعب يعوّل عليه في أن يحصّن ثورته ولا يعيد جلادي الأمس ليحكموا البلاد اليوم.
ومن جديد تجد إرادة الشعب التونسي نفسها أمام استحقاق انتخابي جديد تسعى من خلاله إلى إقامة مؤسسات منتخبة والقطع مع الحكم المؤقت، فأمام التونسيين اليوم خيارين: إما مواصلة مسار الثورة ومسيرة الإنجاز وبناء الديمقراطيّة، وإما العودة إلى النقطة الصفر وتنتكس الثورة وتقبر كما قبرت بانقلاب مصر والنزاع الطائفي في سوريا وإبقاء على أركان النظام السابق في اليمن والحرب الأهلية في ليبيا، كلّ ذلك يحدث أمام ناظري نظام عالمي ذو طابع إمبريالي يرفض أن تسود الديمقراطيّة وأن تحكم الإرادة الشعبيّة في المنطقة العربية.