بينما تموج منطقة الشرق الأوسط في أمواج متلاطمة من الاضطرابات السياسية والأمنية، تسير دولة الاحتلال الإسرائيلي بخطوات ثابتة في ترسيخ حضورها داخل القارة الإفريقية، مستندة في ذلك إلى حزمة من الأدوات والإستراتيجيات التي نجحت من خلالها في فتح قنوات اتصال دبلوماسي مع دول وشعوب كان من الصعب قبل ذلك الحديث عن أي انفتاح بينها وبين تل أبيب.
“إسرائيل تعود إلى إفريقيا بشكل كبير، وإفريقيا قد عادت إلى أحضان إسرائيل” جسدت كلمات رئيس وزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال حديثه للصحفيين قبيل مغادرته إلى أوغندا في 3 من فبراير الحاليّ، حجم الإنجازات التي حققها الكيان المحتل في غزو القارة السمراء واختراقها من أكثر من اتجاه.
ارتكزت الجهود الدبلوماسية لنتنياهو على الجالية اليهودية في إفريقيا التي منحته دعمًا كبيرًا في تمرير مخططه القاري، حيث تحتضن القارة عددًا من الجاليات اليهودية، لا سيما يهود (الفلاشا) في إثيوبيا، واليهود في جنوب إفريقيا وزيمبابوي وكينيا، إضافة إلى توظيف تلك الأعداد الكبيرة في تحقيق مصالح تل أبيب وتنفيذ أجندتها الخارجية والتأثير على الأنظمة الإفريقية في المجالات المختلفة.
يذكر أن الجالية اليهودية في إفريقيا تتمتع بنفوذ كبير، ففي جنوب إفريقيا على سبيل المثال واحدة من أغنى الجاليات اليهودية في العالم ذات التأثير المباشر على الاقتصاد الإسرائيلي، فهي تحتل المرتبة الثانية من مساهمة يهود الجاليات في خزانة الدولة العبرية بعد الجالية اليهودية في الولايات المتحدة.
وفي الجهة الأخرى ما كان للقوى الناعمة التي توظفها “إسرائيل” أن تحقق تلك النجاحات داخل القارة السمراء دون استعداد مسبق من حكومات تلك الدول للتخلّي عن بعض مُثُلهم السياسية والأخلاقية من أجل الفوز بوعود الدعم السياسي والأمني، والاستثمارات والتكنولوجيا التي تعرضها عليهم الحكومة الإسرائيلية.
4 سنوات من الجهد الدبلوماسي
كان عام 2016 علامة فارقة في العلاقات الإسرائيلية الإفريقية، ففيه أصبح نتنياهو أول رئيس وزراء إسرائيلي يزور إفريقيا بعد نحو ثلاثة عقود، حيث قام بجولة شملت أوغندا وإثيوبيا وكينيا ورواندا، وبعدها بعام واحد فقط كان على رأس المشاركين في اجتماع رؤساء دول الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (الإيكواس) في ليبيريا.
وما إن انتهى هذا الاجتماع الذي كان إيجابيًا جدًا بالنسبة لتل أبيب، حتى وقع مسؤولون إسرائيليون عددًا من مذكرات التفاهم بشأن استثمار قرابة مليار دولار بحلول عام 2021 لتعزيز مشاريع الطاقة والتنمية الاقتصادية في الدول الأعضاء الـ15 في الإيكواس.
وفي نوفمبر 2017 سافر رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى العاصمة الكينية نيروبي لحضور حفل تنصيب الرئيس أوهورو كينياتا، هذه الزيارة التي كان لها مردود دبلوماسي قوي، حيث أسفرت عن فتح أربع سفارات إفريقية جديدة في “إسرائيل”، وبعدها بعام واحد فقط قرر نتنياهو والرئيس الرواندي بول كاجامي بدء الرحلات الجوية المباشرة بين تل أبيب وكيغالي، وفتح بعثات دبلوماسية في كلا البلدين.
مع مرور الوقت لم تَعُد القضية الفلسطينية عنصرًا مهيمنًا في علاقات إفريقيا مع العالم العربي والإسلامي
وقد شهد العام المنقضي (2019) تحركات دبلوماسية مكثفة داخل القارة السمراء أسفرت عن نتائج تجاوزت سقف التوقعات داخل مراكز الأبحاث الإسرائيلية، حيث وصفت بالتحول الدراماتيكي في العلاقات بين الطرفين، وفيها أقامت دولة الاحتلال علاقات قوية مع التشاد في أعقاب زيارة نتنياهو للعاصمة إنجامينا يناير من نفس العام.
وفي فبراير الحاليّ جاءت الزيارة المهمة التي قام بها رئيس وزراء الكيان المحتل لأوغندا لتكلل هذا الجهد الدبلوماسي المكثف، فالزيارة بجانب أنها جاءت في سياق الترويج لصفقة القرن والبحث عن حلفاء جدد، وهو ما يتضح من خلال أمرين مهمين: أولهما حثّ أوغندا على فتح سفارة لها في القدس مقابل فتح “إسرائيل” سفارة في كمبالا، إلا أنها حملت تفاصيل أخرى أكثر أهمية.
فعلى هامشها شهدت لقاء عنتيبي الشهير والمثير للجدل، بين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني الفريق عبد الفتاح البرهان، والاتفاق على تطبيع العلاقات بين البلدين، وهي الخطوة التي يراها البعض إنجازًا يحسب لرئيس الوزراء بما يغض الطرف عن اتهامات الفساد المتورط فيها والتمهيد نحو ولاية جديدة له.
ومع مرور الوقت لم تَعُد القضية الفلسطينية – بسبب انقسام الداخل الفلسطيني من جهة، وتبعات ما بعد الربيع العربي من جهة أخرى – عنصرًا مهيمنًا في علاقات إفريقيا مع العالم العربي والإسلامي، ومن ثم أصيبت منظومة تلك العلاقات بالفتور، الأمر الذي استغله الجانب الإسرائيلي بتكثيف قواه الناعمة لتتنفيذ أجنداته الخارجية.
القوى الناعمة.. سلاح نتنياهو
كانت ردود الفعل المتباينة من الدول الإفريقية حيال عملية التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن وضع القدس، التي أُجرِيت في ديسمبر 2018، بعد اعتراف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنها عاصمة لـ”إسرائيل”، نقطة كاشفة لتغير النظرة الإفريقية لدولة الاحتلال.
ساعدهم في ذلك تغيُّر مواقف بعض الدول العربية نفسها من “إسرائيل”، ما دفع بكثير من دول القارة أن تحذو حذوها، وعلى الرغم من أن العديد من البلدان الإفريقية، لا تزال تقف خلف الخطاب الرسمي التقليدي “لدعم الحقوق الفلسطينية”، إلا أنها في الواقع العملي أصبحت غير مبالية نسبيًّا بالضغط الذي يُمارَس عليها من أجل عدم الارتباط بـ”إسرائيل”.
علاوة على ذلك فإن جاذبية النموذج الإسرائيلي في المجال التنموي كان له فعل السحر في تعميق التغلغل داخل القارة، حيث أغرق الإسرائيليون دول القارة بمنح لا تعد ولا تحصى في مجال الابتكار الزراعي وتكنولوجيا المياه وتقدُّم تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والأمن السيبراني والصناعات العسكرية المتقدمة.
العديد من الشواهد تذهب في هذا الاتجاه، حيث أنشأت تل أبيب في السنوات الأخيرة فرق طوارئ سريعة الاستجابة لمساعدة البلدان الإفريقية في أوقات الكوارث الطبيعية، وهذه المساعدة – رغم محدوديتها – موضع تقدير من الأفارقة، هذا بالإضافة إلى ارتكاز خطاب السياسة الخارجية لتل أبيب على أن نماذج التنمية الإسرائيلية ألهمت العديد من المشاريع التنموية في إفريقيا.
العامل الثقافي كان هو الآخر أحد أدوات القوى الناعمة التي استخدمتها تل أبيب في سياستها الجديدة مع دول القارة، حيث لجأت إلى استحضار بعض الأساليب المتنوعة منها الترويج لفكرة “التاريخ المشترك” لاستقطاب التعاطف الإفريقي، حيث يسعى الإسرائيليون لإقناع الأفارقة بأن كلاهما عانى من الاضطهاد الديني والتمييز، وبالتالي من السهل أن يكون هناك تفاهم متبادل بينهما.
مرت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية منذ نشأتها بخمس مراحل متلاحقة، شكلت كل مرحلة فيها حجرًا محوريًا في بناء تلك العلاقة التي تزداد تماسكًا
هذا بجانب محاولة إضفاء المسحة الصهيونية علي الحركة الجامعة الإفريقية، وهو ما تؤديه المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية على أكمل وجه، حيث تحرص دومًا على تصدير نفسها بأنها مثال يقتدي به في الديمقراطية، وأنها مركز للإشعاع الحضاري للفكر والجهد والمهارة ومن الدول الداعية للسلام، وتحرص كذلك على نشره في الدول النامية والعالم ككل، كما أنها دولة عصرية متقدمة تكنولوجيًا.
وفي كتابه “الخرق الاسرائيلي لافريقيا” يستعرض الباحث حمدي عبد الرحمن، وسائل الاختراق الإسرائيلي لإفريقيا، فيرى أن دولة الاحتلال تستخدم برنامج التعاون الدولي لتحقيق أهداف سياستها الخارجية تجاه أفريقيا، ويعني ذلك أن سياسة المساعدات التنموية التي تقدمها “إسرائيل” للدول الإفريقية تمثل تطبيقًا عمليًا لمفهوم القوة الناعمة.
ويشير الباحث إلى أن مما يزيد فاعلية هذه السياسة أن “إسرائيل” تضفي عليها بُعدًا ثقافيًا وأخلاقيًا من خلال التأكيد على أنها – وهي دولة محدودة الموارد – ترسل ما لديها من خبراء وفنيين بدلًا من الأموال التي تفتقر إليها، من أجل مساعدة الدول الإفريقية في مجالات تنموية متعددة مثل الري والزراعة والصحة العامة وتنمية المجتمعات المحلية وما إلى ذلك.
علاوة على طرح المفهوم الرسالي للشعب اليهودي وفكرة الخلاص، وهو ما يتضح في كتابات الجيل المؤسس للدولة العبرية، بجانب تقديم المساعدات التنموية باعتبارها تمثل منظومة “قيم الشعب اليهودي” في مختلف أنحاء العالم، لا سيما في مجال الزراعة، حيث دأب الخبراء الإسرائيليون على إنشاء مشروعات زراعية متخصصة تقوم على التكنولوجيا الملائمة وتبني محاصيل جديدة وإنشاء مزارع ومراكز تدريبية وتنظيم المؤسسات الريفية وتخطيط مشروعات التنمية الريفية الشاملة.
تاريخ من التأرجح في العلاقات
مرت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية منذ نشأتها بداية خمسينيات القرن الماضي بخمس مراحل متلاحقة، شكلت كل مرحلة فيها حجرًا محوريًا في بناء تلك العلاقة التي تزداد تماسكًا وقوًة عامًا بعد آخر، غير أنها اتسمت في المجمل بالتغير الواضح بين التقارب تارة والقطيعة تارة أخرى والتأرجح بين الطرفين تارة ثالثة.
المرحلة الأولى في تاريخ تلك العلاقات، كانت مع تأسيس الكيان المحتل في 1948، حيث شهدت تلك المرحلة تطورًا تدريجيًا في العلاقات مع دول القارة من خلال تزايد الاعترافات بدولة “إسرائيل” وتخللها تقديم بعض المساعدات الإسرائيلية في المجالات العسكرية والتقنية، واستمرت تلك المرحلة حتى عام 1967.
أما المرحلة الثانية التي اتسمت بالتراجع والتدهور التدريجي في العلاقات فكانت خلال الفترة من 1967 وحتى 1977، وذلك بعد تغير مدركات الأفارقة فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، ويعزى ذلك إلى نجاح الجهود العربية في كلٍ من منظمة الوحدة الإفريقية والأمم المتحدة في استصدار قرارات بإدانة دولة الاحتلال وسياساتها التوسعية من جرّاء احتلالها لأراضٍ عربية جديدة في حرب عام 1967.
وتعزز هذا التدهور بعد حرب 1973 وما تلاها من صدور قرار منظمة الوحدة الإفريقية بالتضامن مع مصر، حيث بلغ عدد الدول الإفريقية التي قطعت علاقتها بـ”إسرائيل” إلى 42 دولة، وهي جميع الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الإفريقية آنذاك فيما عدا جنوب إفريقيا والدول المرتبطة معها بعلاقات خاصة مثل مالاوي وليسوتو وسوازيلاند.
ثم تأتي المرحلة الثالثة وهي مرحلة الترميم وتحسين العلاقات مع دول القارة، التي بدأت مع زيارة الرئيس المصري الراحل محمد أنو السادات للقدس في نوفمبر1977 لتشكل نقطة تحول في التقارب بين الطرفين، حيث ساهمت تلك الزيارة في حدوث انفراجة كييرة في العلاقات الثنائية بين الدول الإفريقية وتل أبيب.
وقد شهد عقد الثمانينيات من القرن الماضي مرحلة بناء وازدهار هذه العلاقات، فزاد عدد الدول الإفريقية التي استأنفت علاقاتها مع الكيان المحتل، كما زادت وتنوعت أشكال المساعدات الإسرائيلية لتلك الدول لتبدأ مسيرة الخطوات العكسية في إعادة العلاقات، واستمرت هذه المرحلة حتى عام 1991.
لا تزال هناك محاور قوية تتصدى لهذا المشروع، على رأسها نيجيريا وبنين وجنوب إفريقيا والنيجر
ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم شهدت الساحة عددًا من الأحداث، ساهمت بشكل كبير في إثراء العلاقات الإسرائيلية الإفريقية على رأسها مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد عام 1991، واتفاق أوسلو، وهي الأحداث التي ساعدت الإسرائيليين على تخطي قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي اتخذته عام 1975 واعتبرت بموجبه الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية.
وبحلول عام 2010 كانت “إسرائيل” قد نجحت في استئناف علاقتها مع 44 دولة إفريقية، لتنجح في الخروج من عزلتها المفروضة عليها والحصول علي الشرعية الدولية، وهنا يقول زعيم الصهيونية الأول، ديفيد بن جوريون في كتابه (“إسرائيل” وسنوات التحدي) الذي صدر عام 1962: “إن “إسرائيل” دولة صغيرة الحجم ومحدودة السكان، كما أنها لا تمتلك قوة عسكرية أو اقتصادية كبرى، بَيدَ أنها تمثل على المدى البعيد قوة روحية خلاّقة، ولسوف يعود عليها إسهامها في تأسيس عالمٍ جديدٍ، بالسلام والأمن واحترام العالم”.
وخلال السنوات الخمسة الأخيرة استطاع نتنياهو اختراق العديد من العواصم العربية بصورة غير مسبوقة، فبنى تحالفات قوية مع الرياض وأبو ظبي والمنامة ومسقط، بخلاف العلاقات الدافئة التي تعززت مع القاهرة تحت حكم الرئيس الحاليّ عبد الفتاح السيسي، بجانب تبني هذا المحور الذي بات يعرف بتحالفه مع تل أبيب للعديد من التوجهات التي تخدم الأهداف الأمريكية والصهيوينية في المنطقة، إذ بات المروج الأكبر لما يسمى إعلاميًا “صفقة القرن”.
ورغم هذا النجاح الملحوظ للدبلوماسية الإسرائيلية في اختراق القارة السمراء، فإن الطريق لم يكن مفروشًا بالورود كما يظن البعض، فهناك تحديات جسيمة تعرقل مسار التطبيع مع الدول الإفريقية، إذ لا تزال هناك محاور قوية تتصدى لهذا المشروع، على رأسها نيجيريا وبنين وجنوب إفريقيا والنيجر.