يوم الخميس الماضي، كان السودان على موعد مع حقبة جديدة من تاريخه، ليس فقط فيما يتعلق بإصلاح علاقته مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن في انتهاج سياسة جديدة تحاول تصفية كل الخطايا التاريخية على أسس سياسية ودبلوماسية، بعدما أعلن التوصل إلى تسوية مع عائلات قتلى تفجير المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” التي استُهدفت عام 2000، في إطار مساعي الحكومة للخروج من قائمة الإرهاب الأمريكية التي تخوف المستثمرين وتجهض محاولات الشراكة مع المؤسسات الدولية المانحة، فضلًا عن التعبير عمليًا عن السودان الجديد الذي ينبذ العنف والتطرف والتقوقع على الذات.
ما علاقة السودان في قصة المدمرة كول؟
في الـ12 من أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، لقي 17 بحارًا أمريكيًا حتفهم، وأصيب أكثر من 36، بعدما فجر رجلان حملهما قارب صغير مواد ناسفة بالقرب من المدمرة كول التابعة للبحرية الأمريكية والمزودة بصواريخ موجهة، كانت الضربة موجهة بدقة، واستغلت توجه المدمرة للتزود بالوقود في ميناء عدن بجنوب اليمن، مما أحدث فجوة فيها، قبل أن يتم إصلاحها لاحقًا، وتدخل مجددًا إلى الخدمة.
نحو 15 من بحارة المدمرة الذين أصيبوا في الأحداث وثلاث من زوجاتهم، رفعوا دعوى ضد حكومة السودان في واشنطن عام 2010، ولكن القضية أصبحت محل نزاع قانوني، فيما إن كان إرسال الدعوى لسفارة السودان سينتهك قانون الحصانة السيادية الأجنبية الذي ينظم عملية مقاضاة الحكومات الأجنبية أمام محاكم أمريكية أم لا، ورغم ذلك استمر القضاء الأمريكي في الانتقام لكل الأطراف التي تضررت من العملية، وقبل سنوات أقر بمسؤولية السودان عن الهجوم، واتهمه بتوفير التدريب للمهاجمين، وهو ما نفته حكومة البشير آنذاك.
تطورت القضية واتخذت شكلًا تصعيديًا عام 2012، بعدما أصدر قاض آخر في واشنطن حكمًا يلزم السودان بدفع مبلغ يزيد على 300 مليون دولار لعائلات الضحايا، كما أصدر قاضٍ آخر في نفس العام، حكمًا ابتدائيًا بتعويض قدره 314.7 مليون دولار على حكومة السودان، بواقع من 4 ملايين إلى 30 مليون دولار لكل ضحية، واستمرت الدعاوى القضائية المنهمرة على رأس حكومة البشير، بعدما أمر قاضٍ آخر بعض البنوك الأمريكية بتسليم أصول سودانية بحوزتها، للوفاء بالحكم جزئيًا، وأيدت محكمة استئناف الدائرة الأمريكية الثانية في نيويورك تلك الأحكام في 2015.
بعيدًا عن القضاء، تحركت الأجهزة الأمنية الأمريكية للانتقام من منفذي الهجوم وتعقبت المدبر الأول للهجوم جمال البدوي اليمني الذي ولد عام 1960 في مديرية مكيراس بمحافظة مأرب، وكان يحتل قائمة مكتب التحقيقات الفيدرالي لأهم المطلوبين الإرهابيين، من أبرز قادة تنظيم القاعدة، لا سيما أنه كان أيضًا ضمن منفذي هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
طوال 18 عامًا، ظل الجيش الأمريكي يتتبع البدوي، حتى تمكن أخيرًا من تنفيذ ضربة في محافظة مأرب، وقتل فيها القيادي بالقاعدة، ليحقق لترامب نصرًا آخر، جعله يخرج منتشيًا بتغريدة يؤكد فيها أن الجيش انتقم لضحايا سفينة “يو إس إس كول”.
هل اعترف السودان بالمسؤولية؟
بمجرد قراءة بيان وزارة العدل السودانية، عن تفاصيل الاتفاق بين السودان وواشنطن، بشأن التسوية مع أهالي ضحايا الهجوم على “كول” يمكنك على الفور التسلل إلى الأجواء التي سيطرت على الإدارة السودانية خلال إبرام هذا الاتفاق، وكارت ترامب الذي لعب به من أجل الحصول على شعبية أخرى تناسب مساره الذي يقدس لغة الأرقام والمال دون غيره، ولهذا تكتم الجميع على مبلغ التسوية، وإن كانت بعض التسريبات أشارت إلى دفع السودان 30 مليون دولار.
لم يفرق كثيرًا مع ترامب اعتراف حكومة حمدوك من عدمه، بمسؤولية بلاده عن استهداف المدمرة، ومنحه الحق في صياغة ذكية تخرج السودان من التداعيات السلبية للاعتراف لاحقًا واعتبارها محاولة لإثبات حسن النوايا للإدارة الجديدة للبلاد، انطلاقًا من حرصها على تسوية مزاعم الإرهاب التاريخية التي خلفتها سلوكيات النظام السابق، فالهدف من اتفاق يخرج بهذه الصيغة ليس العدالة واستيفاء شروطها، وإنما حلب الحكومة السودانية لصالح المتضرريين الأمريكان من الهجوم، بغض النظر عن وصول كل الأطراف لصيغة تؤكد مسؤولية السودان عما حدث، وهو منهج معتمد لدى ترامب ويطبقه دائمًا ويساهم أيضًا في تضخم شعبيته.
يمكن القول إنه يحسب سياسيًا للمفاوض السوداني، الحرفية في إخراج بلاده من هذه الورطة، وقد يكون من حظ السودان وجود رئيس مثل ترامب يهمه المال أولًا قبل أي شيء آخر، ولهذا اهتمت وزارة العدل بالتأكيد صراحةً في اتفاقية التسوية المبرمة على عدم مسؤولية الحكومة عن هذه الحادثة أو أي أفعال إرهاب أخرى، وأنها دخلت في هذه المفاوضات انطلاقًا من الحرص على تسوية مزاعم الإرهاب التاريخية، بغرض استيفاء الشروط التي وضعتها الإدارة الأمريكية لحذف السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة وبقية دول العالم، كان يلزمه الوفاء بالشروط السبع التي وضعتها الإدارة الأمريكية قبل بدء التفاوض لإزالة السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، وبعد أزمة المدمرة “كول” وما يتعلق بها من نواحٍ تتعلق بموقف البلاد من التطرف ورعاية الإرهاب، تتبقى مسائل حقوق الإنسان والحريات الدينية والعلاقة مع كوريا الشمالية والبدء بشكل جاد في عملية السلام بين أبناء السودان والإغاثة.
ما الذي يهم السودان من الاتفاق؟
يعاني السودان من أزمة اقتصادية قاسية بعد مرور أكثر من عام على المظاهرات التي اشتعلت في ديسمبر/كانون الأول 2018، احتجاجًا على نقص الخبز والوقود، وتحولت مثل كرة اللهب لتطيح بحكم البشير، وهذا الاتفاق يمثل بداية للاستفادة من الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في إفريقيا التي تحاول إدارة ترامب تسويقها لضرب المشروعات الصينية والروسية والفرنسية في القارة.
وتعمل إدارة ترامب على ثلاثة مبادئ توجيهية، في إفريقيا، الأولى لتطوير التجارة الأمريكية في جميع أنحاء القارة بطريقة تعود بالنفع على الولايات المتحدة والدول الإفريقية، وهذا سيمنح الشركاء الاقتصاديين في المنطقة، الفرصة للنمو، وحسب الإستراتيجية الأمريكية، ستكون المعاملات الاقتصادية قائمة على مبدأ المعاملة بالمثل وليس التبعية، وإن كان هذا حقيقيًا لن يستطيع تنفيذ ذلك وبهذه الشفافية إلا حكومة منتخبة ودولة مؤسسات والسودان أصبح يملك هذه الميزة.
وبمجرد تصفية المشكلات التي تعيق إزالة السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية، والاتجاه نحو مزيد من الاستقرار السياسي، ستستطيع الحكومة استغلال التدافع من القوى الدولية لتقديم خدماتها للبلدان الإفريقية، وتأسيس شراكات إستراتيجية تتيح لكل الأطراف الاستفادة من الكنوز السودان، خاصة في ظل اندلاع حرب اقتصادية باردة بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، والنزاع التجاري مع الصين، مما يعدد الخيارات أم بلدان المنطقة.
هذه المعطيات، تؤكد حق السودان في رفض الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إفريقيا، والاتجاه لأسواق أخرى لمضاعفة جهود الإصلاح الاقتصادي دون عوائق
ورغم اختلاف آراء الاقتصاديين والخبراء الأفارقة حيال الخيارات المتاحة للاستفادة من الصراع الدولي على القارة، فإن أغلب الآراء تؤكد أن هناك فرصًا هائلة للاستفادة من هذا الوضع، وقد يكون السودان على وجه التحديد لديه الفرصة للرد على ابتزاز ترامب لاحقًا، بعد إنهاء القضايا العالقة وإطلاق سراح البلاد من أنياب الهيمنة الأمريكية على صورتها الذهنية في العالم التي جعلتها أسيرة اللف في دوران الدول الراعية للإرهاب، رغم اندلاع ثورة ومحاكمة رئيس سابق، وإجراءات ثورية نحو الديمقراطية، مهما كانت عقبات الديمقراطيات الناشئة التي مرت بها كل دول العالم.
وهذه المعطيات، تؤكد حق السودان في رفض الإستراتيجية الأمريكية الجديدة تجاه إفريقيا والاتجاه لأسواق أخرى لمضاعفة جهود الإصلاح الاقتصادي دون عوائق، ما يجعل البلاد جزءًا في المستقبل من سلسلة التوريد العالمية “بشروطها الخاصة”، وليس في إطار شعار ترامب “أمريكا أولًا”، الأمر الذي يعني إدخال السودان بشكل أو بآخر ضمن أطراف الحروب التجارية الجارية والقادمة، وهو أمر لا يصلح ولا ينبغي التعامل على أساسه، إذا تحرر من سلسلة العقوبات التي تعيق طموحاته الخارجية وطموحات شعبيه في استقلالية وكرامة تليق به ويليق بها.