يمر عام على حراك الشعب الجزائري الذي انطلق في 22 من فبراير 2019 ضد الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ولتكريس الديمقراطية الحقة في البلاد، وهو المطلب الذي يبقى من أجله الكثير من الجزائريين إلى اليوم يخرجون أسبوعيًا في مسيرات سلمية رغم تحقيق جزء من مطالبهم وقدوم رئيس جديد منتخب وعد بجعل كل انشغالاتهم أحلامًا تتحقق على أرض الواقع.
ومع استمرار الحراك الشعبي وهو يطفئ شمعته الأولى رغم وعود السلطة، تتبادر تساؤلات عن الغد الذي ينتظر الجزائر بالنظر إلى تكلفة هذا الوضع المستمر السياسية والاقتصادية، وكذا عن مدى قدرة الرئيس عبد المجيد تبون في الخروج بالبلاد إلى بر الأمان وجعل مأساة فترة بوتفليقة جزءًا من الماضي.
استمرار
لا أحد يستطيع أن ينكر اليوم أن حجم المشاركين في مسيرات الحراك الشعبي الأسبوعية سواء يوم الجمعة أم في تظاهرات الطلبة يوم الثلاثاء لم يبق كما كان عليه مع الأسابيع الأولى لانطلاق الحراك، والأيام التي تلتها قبل اضطرار الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة للاستقالة والإجراءات التي تلت ذلك، غير أنه أيضًا لا أحد ينكر أن من يتظاهرون أسبوعيًا في عدة ولايات بالبلاد يعدون بالآلاف ويمثلون جزءًا مهمًا من الجزائريين الرافضين للمنحى الذي اتخذته السلطة لحل الأزمة بعد بوتفليقة.
ويوم أول أمس، في الجمعة الـ53 عشية الاحتفال بالذكرى الأولى للحراك، عرفت شوارع عدة ولايات مسيرات حاشدة للتأكيد على مطالب بناء جزائر ديمقراطية حقيقية لا شكلية كما كان يتم خلال السنوات الماضية، وفي العاصمة الجزائر، نظمت تظاهرات بساحتي البريد المركزي وموريس أودان وشوارع ديدوش مراد وأول ماي، والأمر ذاته كان في ولايات قسنطينة ووهران وبجاية وغيرها أين طالب المتظاهرون برحيل النظام، وعبروا عن عدم اقتناعهم بخطة الطريق التي يعتمدها الرئيس تبون لحل الأزمة.
ومنذ الخميس حتى السبت، ظل وسم #حراك_22_فيفري ضمن ترند الجزائر، وأكثر التغريدات التي تناولها الجزائريون في حساباتهم على تويتر، والخميس الماضي، أصدر نشطاء ما أسموه “بيان حراك 22 فيفري” الذي أعلنوا فيه مواصلة التجنيد السلمي من أجل التغيير الجذري لمنظومة الحكم.
وشدد البيان على احترام وضمان حقوق الإنسان والمواطن والحرّيات الفردية والجماعية والمساواة بين المواطنين، رافضًا في الوقت ذاته ما أسماه “الزيف والتزييف، لأن الجزائريين يريدون الدولة التي ضحّى من أجلها أجيال من المناضلين”.
وحسب البيان، فإن الجزائريين “يريدون جمهورية المواطنين والمواطنات، لذلك وجب الانخراط الكلّي في التجنيد السلمي، لتكريس أحقيّة الجزائريين في وضع عقدٍ سياسي جديد، يكرس الإرادة الشعبية والسيادة الكاملة للشعب، في إطار نظام ديمقراطي اجتماعي مدني، يمر عبر انتقالٍ ديمقراطي سلس، يضمن استمرارية الدولة وحق المواطنين في بناء المؤسسات واختيار من يتولى الشأن العام بكل حرية”.
غير أن التساؤل الذي يطرح في كل مرة: كم عدد الجزائريين أو حتى المتظاهرين الذين يؤيدون ما جاء في هذا البيان؟ وما مدى الشرعية التي يملكها لطرحه كورقة تفاوض أو أرضية مطالب؟
وسط العصا
في المقابل، تبقى السلطة ممثلة في الرئيس عبد المجيد تبون مصرة على مسك العصا من الوسط، فهي لا تقول بتاتًا إنها ضد الحراك الشعبي، إلا أنها في الوقت ذاته لم تنل حتى اليوم رضاه، بل تحذر في الوقت ذاته من اختراقه من جهات داخلية وخارجية دون أن تسميها، ولا يتردد الرئيس عبد المجيد تبون في كل مرة من وصف حراك 22 فبراير بـ”المبارك” الذي أنقذ الدولة الوطنية من الانهيار.
وقال تبون في مقابلات صحفية مع عدة وسائل إعلام محلية وأجنبية عشية ذكرى حراك 22 فبراير: “الحراك المبارك حمى البلاد من الانهيار الكلي، لأن الدولة الوطنية كادت أن تسقط نهائيًا مثلما حدث في بعض الدول التي تبحث اليوم عن وساطات لحل مشاكلها”، وبين تبون أن “انهيار الدولة الوطنية يعني انهيار كل مؤسساتها، لكن الحمد لله، الشعب كان واعيًا وأوقف المؤامرة كما نجح في تحقيق الكثير من مطالبه”.
مضيفًا “ما تبقى من مطالب الحراك نحن بصدد تحقيقه لأنني التزمت شخصيًا بتحقيق كل مطالب الحراك”، مشيرًا “هناك مطالب كانت مطروحة في البداية لا يمكن لشخص غير منتخب ولا يملك السلطة والشرعية الكافية تحقيقها، أما اليوم فنحن بصدد تنفيذها بداية بالدستور وقانون الانتخابات وإعادة تنظيم المؤسسات التي نحاول أن نجعلها جوارية تمكن المواطن من أن يشارك فيها من خلال مشاركته في التفكير والحل والتسيير والرقابة”.
بعد مرور 60 يومًا على تسلم الرئيس تبون السلطة يبدو أنه استطاع أن يقنع جزءًا من الجزائريين بخططه لإنقاذ البلاد
وأصدر تبون مرسومًا رئاسيًا يقضي بالاحتفال الرسمي سنويًا بذكرى حراك 22 فبراير بمناسبة ما سمي “اليوم الوطني للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية”، وذلك اعترافًا بأن الجيش ساند الشعب في حراكه ضد الرئيس السابق، رغم أن الدستور ينص على أن رئيس البلاد هو القائد الأعلى للقوات المسلحة.
وإن كان كلام تبون فيه جانب من الصحة بأن بعض مطالب الحراك تحققت مثل إسقاط الولاية الخامسة لبوتفليقة ورحيل الباءات ومحاكمة الفاسدين وهو ما تم بحبس جنرالات ورؤساء حكومات ووزراء ورجال أعمال فاسدين، إلا أن ذلك يبقى برأي كثيرين غير كاف وشكلي، بالنظر إلى أن رأس النظام الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لا يزال حرًا طليقًا دون محاسبة أو معاتبة أو معاقبة.
ولا ينحصر موقف المتظاهرين في هذا الجانب، بل بعضهم يشكك أيضًا حتى في شرعية الرئيس تبون، غير أن الأخير يبدو غير منزعج من ذلك، إذ علق على المواطنين الذين لا يزالون يشاركون في الحراك كل أسبوع أن ذلك “من حقهم، لأن هذا الأمر هو أساس الديمقراطية، لا سيما حينما يتعلق الأمر بالأشخاص الذين يتظاهرون بنظام ودون تكسير أو فوضى”.
وأضاف “الحراك ظاهرة صحية وليس لدي أي لوم عليه، لكن أوصي أبنائي الذين يتظاهرون يوم الجمعة بالحذر من الاختراق لأن هناك بوادر اختراق من الداخل والخارج”.
وبعد مرور 60 يومًا على تسلم الرئيس تبون يبدو أنه استطاع أن يقنع جزءًا من الجزائريين بخططه لإنقاذ البلاد، الذين يتأملون خيرًا بما يقوم به ويبررون له بعض الهفوات التي يرجعونها إلى مقاومة بقايا النظام السابق، إلا أنه في الوقت ذاته يبقى إلى اليوم غير قادر على إقناع قدر كبير من المشاركين أسبوعيًا في الحراك.
واقع وخيارات
ربما من حق المشاركين في الحراك الشعبي رمي الاتهامات المتتالية على السلطة في إفشال تحقيق مطالبهم بالسرعة القصوى، إلا أن ذلك لا ينفي أيضًا أن هذا الحراك بقي هو الآخر جامدًا ولم يستطع أن يتطور أكثر من مجرد حركة احتجاجية فقط، فبعد مرور عام بأشهره الكاملة ما زال الحراك يفتقد لممثلين عنه، فحتى موقعي “بيان حراك 22 فيفري”، حرصوا على القول إنهم لا يدعون أنهم يمثلون الحراك.
ومنح غياب قادة يمثلون الحراك الحجة للسلطة للقول إنها تمد يدها للجميع لتحقيق المطالب، إلا أنها لم تجد من تحاور ويجلس إلى الطاولة، كما سمح هذا الوضع بانسحاب عدد كثير من الجزائريين من الحراك، خاصة بعد أن بدأت بعض التيارات المشاركة فيه تحاول توجيهه نحو التيار العلماني الذي استفاد من الدعم الإعلامي الذي يملكه مقارنة بباقي التيارات.
يجد الحراك الشعبي اليوم نفسه بعد عام أمام خيار التجديد وضرورة الانتقال إلى مرحلة التمثيل والقيادة ليشكل حركة حقيقية يكون لها وزن في المفاوضات مع السلطة
وأصبح التركيز على السخرية من “التيار الباديسي” الذي يمثل التوجه الإسلامي نسبة إلى شيخ الإصلاح في الحركة التحررية الجزائرية عبد الحميد بن باديس، ومن “التيار النوفمبري” الذي يستند إلى بيان أول نوفمبر الذي أعلن انطلاق الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي في 1954 سمة بارزة لدى بعض الأطراف خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، في حين ربما لا يلقى أنصار التيار العلماني الانتقاد نفسه.
ولعل هذا الاختلاف وعدم التجانس بين المشاركين في الحراك الذي كان من المفروض أن يشكل إضافة هو العامل الذي سمح بعدم تقديم الحراك ممثلين عنه، وزاده اعتقال السلطة لبعض النشطاء تحت مبررات مختلفة.
وأمام هذا الوضع، يجد الحراك الشعبي اليوم نفسه بعد عام أمام خيار التجديد وضرورة الانتقال إلى مرحلة التمثيل والقيادة ليشكل حركة حقيقية يكون لها وزن في المفاوضات مع السلطة التي يبدو أنها ماضية في الخطة التي تراها الحل للخروج من الأزمة، فالرئيس عبد المجيد تبون الذي نصب لجنة لتعديل الدستور أعلن تنظيم انتخابات تشريعية قبل نهاية العام الحاليّ، وهو ما يحتم على الحراك التجند ليكون حاضرًا في برلمان يمثله حقيقة، لأن سياسة الكرسي الشاغر أثبتت عدم فعاليتها.
وبالنظر إلى الوضع الراهن الذي يوجد عليه الحراك والسلطة، فتبدو ثلاثة خيارات للمتظاهرين مطروحة عليهم اختيارها الأولى تشكيل من يمثلونهم للتحاور مع السلطة مع عدم ترك الشارع لأنه يمثل نقطة قوتهم، أو رفع مستوى التظاهر والاحتجاج إلى أساليب أخرى لأن الخروج الأسبوعي في مسيرات أصبح لا يقلق السلطة، فهو يشكل لها فقط تحديًا أمنيًا يتمثل في الإنهاك المستمر لقوات حفظ النظام، غير أنه جانب تستطيع التحكم فيه وأثبت الميدان ذلك، أم الخيار الثالث فسيكون الاضمحلال والزوال لأن الطبيعة لا تقبل الروتين والجمود والبقاء عند حراك الاحتجاج فقط.
وإلى أن تتضح رؤية كل طرف سواء السلطة أم الحراك بشكل جلي لما ينتظر الجزائريين هذا العام، يبقى الجانب الاقتصادي والوضع الاجتماعي يمثل عاملًا بارزًا في رسم الغد المنتظر، لأن الكثيرين ملوا من وعود السلطة ومن تشتت بعض المتظاهرين وفرقتهم.