حين أطلق الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مقولته الشهيرة عام 1981: “الدولة ليست الحل لمشاكلنا، الدولة هي المشكلة”، كان ذلك إيذانًا بنهاية صراع طويل بين اثنين من أكثر الأيديولوجيات التي سيطرت على الاقتصاد العالمي في القرن العشرين رفقة الاشتراكية، نحن هنا نتحدث عن التيار الليبرالي الجديد “النيوليبرالية” “neolibralism” والكينيزية “Keynesian economy”.
لا يمكن الحديث عن الاقتصاد دون ذكر ابيه المؤسس آدم سميث الذي أحدث كتابه “ثروة الأمم” ثورة لا تزال آثارها ماضية حتى يومنا هذا. يلخص سميث نظريته بضرورة إنهاء دور الدولة في الاقتصاد وتركه يوازن نفسه بنفسه عن طريق العرض والطلب، فالأمة الغنية كما يعتقد المفكر الإسكتلندي، تلك التي يعمل فيها مواطنوها بشكل منتج لتحسين وضعهم الاقتصادي وتلبية احتياجاتهم المالية. في هذا النوع من الاقتصاد، وفقًا له، يستثمر الأغنياء ثروتهم في المؤسسة التي تساعدهم على كسب أعلى عائد من خلال توظيف الكفاءات الملائمة في اقتصاد وسوق حر لا تتدخل الدولة فيه إلا للحفاظ على الممتلكات والحياة والحرية الفردية وهو ما اختصره بعبارة “laissezfair”.
بخلاف ذلك، يجب السماح للقوانين الطبيعية الثابتة بحكم السوق والعمليات الاقتصادية، التي أطلق عليها آدم سميث فيما بعد: “اليد الخفية” “invisible hand”.
ظلت نظرية سميث التي أطلقها بالتزامن مع الثورة الصناعية المحرك الأساسي في الاقتصاد، رافق ذك قيام الثورة الفرنسية التي ساهمت بصعود كبير للتيار الليبرالي على الصعيد السياسي حتى جاءت فترة ما بين الحربين التي شهدت الأزمة الأقتصادية العالمية عام 1929 أو ما عُرف بـ”الكساد العظيم”.
فتش عن كينيز
أدت مرحلة الكساد العظيم إلى مراجعة شاملة لنظرية آدم سميث، فخلال السنوات العشرة التي تلت الخميس الأسود عام 1929، ارتفعت نسبة البطالة من 3% إلى 25%، وانخفض الناتج القومي الأمريكي بنسبة 50% ليصل إلى 55 مليار دولار فقط، وتراجعت التجارة العالمية بنسبة 66%، كما تسبب الكساد في فقدان العديد من المزارعين لمزارعهم. في الوقت نفسه، خلقت سنوات من الإفراط في الزراعة والجفاف غبارًا صحراويًا في الغرب الأوسط، مما أدى إلى تدمير الإنتاج الزراعي في منطقة كانت خصبة في السابق.
هاجر الآلاف من هؤلاء المزارعين وغيرهم من العمال العاطلين عن العمل إلى كاليفورنيا لينتهي المطاف بالكثير منهم بالعيش بلا مأوى، بينما انتقل آخرون إلى مدن الأكواخ المسماة “هوفرفيل”، نسبة للرئيس الأمريكي آنذاك هربرت هوفر.
مع تلك الآثار، برز تساؤل عن قدرة الاقتصاد أن يوازن نفسه، خاصة مع حصول العكس بالضبط عند بداية الأزمة، فعندما تحطم سوق الأسهم تحول المستثمرون إلى أسواق العملات، في ذلك الوقت، كان الذهب يدعم قيمة احتياطي النقد من الدولار في الخزينة الأمريكية، بدأ المضاربون في التداول بالدولار مقابل الذهب في سبتمبر 1931 ما أدى إلى ارتفاع الدولار، فاضطر البنك الفيدرالي إلى رفع أسعار الفائدة مرة بعد الأخرى للحفاظ على قيمته لكن هذا أدى إلى تقييد سيولة الأموال لدى الشركات فأعلن كثير منها الإفلاس.
بالمقابل لم يقم البنك الفيدرالي بزيادة المعروض من الأموال لمكافحة الانكماش، فسحب المستثمرون ودائعهم من البنوك، فشل البنوك خلق بدوره المزيد من الذعر، ومع تجاهل الفيدرالي الأمريكي لتلك المشكلة أدى الأمر لتدمير ثقة المستهلك المتبقية في المؤسسات المالية فسحب معظم الناس أموالهم ما أدى بالنتيجة إلى مزيد من انخفاض المعروض من النقود، ومرة أخرى لم يطرح البنك الفيدرالي أموالًا كافية للتداول فانخفض المعروض من الدولار بنسبة 30%، وهكذا أخذ الاقتصاد بالتدهور وليس التحسن كما يُفترض أن تفعل “اليد الخفية”، عندها قرر أحد علماء بريطانيا التدخل: جون مينار كينيز.
تقول نظرية كينيز إن على الحكومة زيادة الطلب لتعزيز النمو، إذ إن طلب المستهلكين هو القوة الدافعة الأساسية في الاقتصاد
كان أول ما حاول كينز علاجه معضلة المعادلة بين العرض والطلب، فقد كان واضحًا أن وجود العرض لا يعني بالضرورة وجود الطلب كما يقول آدام سميث وإلا لما حصل الكساد! بالتالي على الحكومة أن تتدخل بنفسها لتحقيق التوازن وهذا هو مبدأ الاقتصاد الكينيزي الذي أنقذ اقتصاد العالم لاحقًا في الازمة الاقتصادية عام 2008.
تقول نظرية كينيز إن على الحكومة زيادة الطلب لتعزيز النمو، إذ إن طلب المستهلكين هو القوة الدافعة الأساسية في الاقتصاد. نتيجة لذلك، تدعم نظريته السياسة المالية التوسعية التي تتمثل أدواتها الرئيسية في الإنفاق الحكومي على البنية التحتية واستحقاقات البطالة والتعليم، وهو ما فعله الرئيس فرانكلين روزفلت لبناء برنامج New Deal الشهير.
في أول 100 يوم من توليه منصبه، تم إنفاق 4 مليارات دولار لإنشاء 16 وكالة وقانون جديد وكانت النتائج رائعة، على سبيل المثال، استطاع مكتب التوظيف الحكومي تشغيل 8.5 مليون شخص، كما وفرت إدارة الأشغال المدنية 4 ملايين فرصة عمل في قطاع البناء، بهذه الطريقة تم تدعيم القدرة الشرائية وبالتالي زاد النمو واستطاع الاقتصاد الأمريكي التعافي ليبزغ حينها نجم الاقتصاد الكينيزي في أغلب الدول الرأسمالية.
قصف بالأسلحة الثقيلة: فريدريك حايك وميلتون فريدمان
في العام 1938 وبينما كان الاقتصاد الكينيزي يجتاح أوروبا وأمريكا، اجتمع مجموعة من الأغنياء والمفكرين في باريس بحضور اثنين من الأكادميين: لودفيج فون ميسيس وفريدريش حايك. رأت المجموعة أن الديمقراطية الاجتماعية التي تجسدها الصفقة الجديدة لفرانكلين روزفلت، لا تختلف شيئًا عن صعود الشيوعية والنازية وسيطرتهما على الدولة.
في كتابه “الطريق إلى العبودية” الذي نشر عام 1944، قال حايك إن التخطيط الحكومي من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى سيطرة شمولية عن طريق سحق الفردية وعلى الحكومة إحالة الأمر لأصحاب رؤوس الأموال وتقليل الضرائب عنهم لأن تحقيق الفائدة لمصلحتهم يعني ببساطة على الجميع باعتبارهم القوة الحقيقية التي تطور الاقتصاد وليس العكس.
انتشر كتاب “الطريق إلى العبودية” على نطاق واسع، بالأخص بين الأغنياء الأثرياء الذين رأوا في الفلسفة فرصة لتحرير أنفسهم من القوانين والضرائب، عندها أسس حايك أول منظمة تختص بنشر عقيدة الليبرالية الجديدة – جمعية مونت بيلرين – وبالطبع لاقت دعمًا ماليًا كبيرًا من المليونيرات ومؤسساتهم. وبمساعدتهم، بدأ في خلق شبكة من الأكاديميين ورجال الأعمال والصحفيين والناشطين، كما مول الداعمون الأثرياء سلسلة من مراكز الفكر من بينها معهد أمريكان إنتربرايز ومؤسسة التراث ومعهد كاتو ومعهد الشؤون الاقتصادية ومركز دراسات السياسات ومعهد آدم سميث، كما مولوا المناصب والأقسام الأكاديمية، وخاصة في جامعتي شيكاغو وفرجينيا.
كانت اللحظة التي سقط فيها جدار برلين عام 1989، إيذانًا ليس بسقوط الاتحاد السوفيتي وحسب، وإنما سقوط الشيوعية ومعها الاقتصاد الاشتراكي – المنافس القوي للاقتصاد الرأسمالي –
ومع توسعة أمريكا، تطور الفكر النيوليبرالي ليصح أكثر تشددًا على يد ميلتون فريدمان الذي انتقل من مرحلة مطالبة الحكومة بتنظيم المنافسة لصالح احتكارات رؤوس الأموال، إلى ترك المشهد بالكامل لأن احتكار مجموعة ما ليس دليلًا على الفشل وإنما دليل على الكفاءة.
خلال السبعينيات، ومع ظهور الأزمات الاقتصادية على جانبي الأطلسي، صعدت إدارات جديدة في بريطانيا وأمريكا: جيمي كارتر في واشنطن وجيم كالاهان في لندن، وكلاهما من المقربين للتيار النيوليبرالي، تبعهما اثنان من أكثر الليبراليين الجدد تشددًا: رونالد ريغان في الولايات المتحدة ومارغريت تاثشر في بريطانيا، حينها أعلن مشروع حايك وفريدمان نفسه على لسان رئيس أكبر دولة في العالم: “الدولة هي المشكلة.. وليس الحل”!
الأغنياء يملكون العالم
كانت اللحظة التي سقط فيها جدار برلين عام 1989، إيذانًا ليس بسقوط الاتحاد السوفيتي وحسب، وإنما سقوط الشيوعية ومعها الاقتصاد الاشتراكي – المنافس القوي للاقتصاد الرأسمالي -.
منذ ذلك التاريخ بدأ القطاع الخاص بالانتشار على حساب الحكومات، فتشير البيانات الاقتصادية أن الكيانات الخاصة تزايدت من بضع مئات عام 1989 إلى 6500 كيان عام 2017، متحكمة بأصول تبلغ قيمتها 4.6 ترليون دولار، ليس هذا وحسب، إنما توسعت السيطرة لتشمل أغلب المجالات الحيوية: المعلومات والصحة والاتصالات والنقل، والأخطر الأمن، على سبيل المثال: يمتلك 1% من أغنياء العالم أكثر من نصف ثروة الكوكب أو ما يعادل 46% من الطبقة التي تتقاضى راتبًا بمقدار 10 آلاف دولار، جيف بيزوس مالك أمازون مثلًا: يملك ثروة تُقدر بـ112 مليار دولار، ما يعادل موازنة العراق – 40 مليون نسمة – لعام 2019!
في مجال الأمن: يشكل المتعاقدون الأمنيون من القطاع الخاص 52% من القوى العاملة في العراق وأفغانستان، أما في مجالات التكنولوجيا والاتصالات والإعلام فلا حاجة للقول إن شركات ومؤسسات مثل: آبل وسامسونغ وغوغل وفيسبوك وتويتر وجنرال إليكتريك وواشنطن بوست ونيويورك تايمز، إلخ، مملوكة كلها من القطاع الخاص أو بمعنى آخر من الأثرياء.
لكن ما الذي يعنيه هذا؟
يعني أن الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرًا، في تقرير لمعهد أوكسفام أوضح أن 1% من الأثرياء حصلوا على 82% من الثروة التي تم إنتجاها عام 2018، بينما لم يحصل 50% من الطبقة الفقيرة في العالم على أي شيء! في العام ذاته، زادت ثروة المليارديرات وعددهم 2200 شخص، بمقدار 900 مليار دولار بواقع 2.5 مليار يوميًا – زيادة بمقدار 12% -، بينما قلت أموال الفقراء بنسبة 11%.
إن خطورة صعود القطاع الخاص وسيطرته التي تستحكم تدريجيًا على كل شيء تكمن في نفس المبدأ الذي جعل منه عاملًا في تطور الغرب وكثير من بلدان آسيا وإفريقيا: تحقيق الربح. فحين يكون الربح الدافع الرئيس لتلك الكيانات الاقتصادية، يحل معها كل شيء آخر في المرتبة الثانية، كما يعني نفوذًا غير مسبوق في العمل السياسي والعلاقات الدولية، ليس أدل على ذلك من تلاعب مؤسسة كامبردج أناليتكا بمساعدة فيسبوك بتوجه الناخبين في عدة دول من العالم: الانتخابات الأمريكية واستفتاء البريكست وانتخابات كينيا وانتخابات ترينيداد وتوباغو، تدخل من أصحاب رؤوس الاموال أفضى لوصول أفراد يجعلون من الحكومات وسيلة لخدمة القطاع الخاص أو بمعنى أصح لملّاك الشركات والإقطاعيين الجدد.
للمفارقة، كانت حقائق هذه المقدرة الخطيرة قد تكشفت منذ البداية أمام الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور، قائد جيوش الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية وهو ما أشار إليه في خطابه الوداعي عام 1961: “بينما ندرك الحاجة الملحة للعلاقة بين الدولة والمجمع الصناعي – العسكري.. يجب ألا نفشل في فهم تداعياتها الخطيرة التي تحتم علينا حمايتها من اكتساب نفوذ لا مبرر له، من المهم ألا نترك هذا التحالف أبدًا يعرض حرياتنا أو عمليتنا الديمقراطية للخطر، فالقطاع الصناعي – العسكري بدأ يكتسب قوة كبيرة في غير محلها.. إنه يستمر بالتوسع”.
وقد كان!