تولي رابطة الكومنولث أهمية فائقة للاقتصاد الأزرق حيث تعتبره “مفهومًا ناشئًا يُشجّع الإشراف الأفضل على محيطنا (أو الموارد الزرقاء)” ويسلط الضوء بشكل خاص على الروابط الوثيقة بين المحيط وتغير المناخ ورفاهية شعب الرابطة، هذا بجانب ما تعكسه من تجسيد وتأكيد لقيم دول الكومنولث، على رأسها الإنصاف والمشاركة العامة في صنع القرارات البحرية والساحلية.
وتدعم توجهات الرابطة في هذا المضمار جميع “أهداف التنمية المستدامة” الخاصة بالأمم المتحدة ، لا سيما الهدف 14 منها وهو “الحياة تحت الماء”، منوهة إلى أن هذا يتطلب إجراءات طموحة ومنسقة لإدارة الثروات المائية وحمايتها والحفاظ عليها بشكل مستدام من أجل الأجيال الحاليّة والمستقبلية.
ويتجاوز الاقتصاد الأزرق – وفق مفهوم الكومنولث – النظر إلى اقتصاد المحيطات كآلية للنمو الاقتصادي فقط، إذ يشمل العديد من المجالات الأخرى، وقد شهدت الدول الصناعية واسعة النطاق تنمية اقتصادات المحيطات من خلال استغلال الموارد البحرية من خلال الشحن والصيد التجاري والنفط والغاز والمعادن والتعدين.
وتملك الدول الجزيرة الصغيرة، أعضاء الرابطة، نسبة إلى مساحة أراضيها، موارد هائلة للمحيطات، مما يتيح فرصة كبيرة لتعزيز نموها الاقتصادي ومعالجة البطالة والأمن الغذائي والفقر، وفي الوقت ذاته فإن الخسائر ربما تكون أكثر تأثيرًا حال تدهور تلك الموارد، فالاقتصاد هنا لا يتعلق بفرص السوق فقط، بل ينص على حماية وتطوير موارد “غير زرقاء” غير ملموسة مثل الطرق التقليدية للحياة وعزل الكربون والمرونة الساحلية لمساعدة الدول الضعيفة في التخفيف من الآثار المدمرة لتغير المناخ.
ويهدف هذا النوع من الاقتصاد في العقلية الكومنولثية على غرار “الاقتصاد الأخضر”، إلى تحسين رفاهية الإنسان والعدالة الاجتماعية، مع تقليل المخاطر البيئية والندرة البيئية بشكل كبير، إنه يوفر نموذجًا شاملًا يمكن أن تبدأ فيه الدول الساحلية – التي تفتقر أحيانًا إلى القدرة على إدارة مواردها الغنية بالمحيطات – في توسيع نطاق الاستفادة من هذه الموارد للجميع.
الأمين العام للرابطة باتريشيا إسكتلندا، تعلق على توجه منظمتها حيال هذا النوع الوليد من الاقتصاد قائلة: “سوف يساعد الميثاق الأزرق البلدان على تطوير نهج متكامل لبناء الاقتصاد الأزرق، الذي يأخذ بعين الاعتبار قيمة القطاعات التي كثيرًا ما يتم تجاهلها مثل الصيد الحرفي وكذلك دور النساء والشباب”.
وتضم رابطة الشعوب البريطانيّة المعروفة بدول الكومنولث 53 دولة بعضها من أغنى دول العالم، وتمثل نحو ثلث دول العالم، ويصل تعداد شعوب هذه الدول مجتمعة إلى 1.7 مليار نسمة يشكلون ربع سكان العالم، وهناك 34 دولة من بين الأعضاء تصنف على أنها دول صغيرة (أغلبها دول جزر تعداد سكانها 1.5 مليون نسمة أو أقل).
جدير بالذكر أن القيمة الاقتصادية للمحطيات حول العالم تقدر بنحو 1.5 تريليون دولار سنويًا، فيما تمر 80% من التجارة العالمية عن طريق البحر، بينما هناك 350 مليون وظيفة في جميع أنحاء العالم مرتبطة بمصايد الأسماك، وبحلول عام 2025، يقدر أن 34% من إنتاج النفط الخام سوف يأتي من الحقول البحرية، ويعتبر الاستزراع المائي من أسرع القطاعات الغذائية نموًا ويوفر ما يقارب 50% من الأسماك للاستهلاك البشري.
دعا بحث نشرته أمانة الكومنولث إلى ضرورة إجراء “تغييرات جوهرية” في طريقة إدارة محيطات العالم وبحاره ومناطقه الساحلية، بهدف تحقيق أقصى استفادة ممكنة
برنامج الاقتصادات البحرية
في مارس 2019 قام ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز بجولة في منطقة الكاريبي شملت عددًا من الدول والجزر أعضاء الرابطة، بهدف التشجيع على “الاقتصاد الأزرق الحيوي” المبني على الاستغلال المستدام لموارد المحيط لدعم النمو الاقتصادي كجزء من الحل في إطار جهود التصدي للتغير المناخي، مشيرًا إلى أن ارتفاع مستويات البحر يمثل تهديدًا خطيرًا على نحو خاص للدول والجزر القريبة.
وأثنى تشارلز في جولته التي استغرقت 12 يومًا وشملت سانتلوسيا وسانت فينسنتوجر نادينس وسانت كيتس ونيفيس وجرينايدا وبربادوس، علاوة على كوبا التي تخضع للحكم الشيوعي، على الجهود المبذولة لخلق زراعة مستدامة، مشيدًا بالرواد المحليين الذين يخاطرون من أجل حماية البيئة.
وفي كلمته التي ألقاها في فو فورت على الطرف الجنوبي من جزيرة سانتلوسيا قال: “تغير المناخ يشكل تهديدًا وجوديًا لهذه الجزيرة، وكذلك لكل جزء من هذه المنطقة”، كاشفًا النقاب عن مشروع جديد يهدف إلى وضع خريطة لقاع البحر عند الجزيرة ويدعم برنامج الكومنولث للاقتصادات البحرية.
يذكر أنه في 2016 دشنت الحكومة البريطانية برنامجًا بهدف دعم الاقتصادات البحرية التي يطلق عليها اسم الاقتصادات الزرقاء، للدول الجزر الصغيرة في الكومنولث وعددها 17 دولة، وقد نجح هذا البرنامج في تحقيق العديد من النجاحات في هذا المضمار في ظل ما تمتلكه تلك الجزر من موارد مائية وثروات بحرية كبيرة.
إدارة جديدة للاقتصاد الأزرق
في بحث نشرته أمانة الكومنولث دعا إلى ضرورة إجراء “تغييرات جوهرية” في طريقة إدارة محيطات العالم وبحاره ومناطقه الساحلية، بهدف تحقيق أقصى استفادة ممكنة، وفي الوقت ذاته الحفاظ على تلك الموارد المائية من الاستهلاك الجائر بما يضمن حقوق الأجيال القادمة.
الورقة البحثية المنشورة على موقع الأمانة أوصت بتبني قطاعات بحرية جديدة مثل تربية الأحياء المائية والتكنولوجيا الحيوية والطاقة المتجددة القائمة على المحيطات، مع حث الحكومات على تحسين طريقة عملها لضمان بقاء الصيد العالمي والنقل البحري والسياحة الساحلية.
الأمينة العامة للكومنولث أشارت في معرض حديثها عما تضمنته تلك الورقة إنه “في الوقت الذي يبدأ فيه العالم في مواجهة تغير المناخ وهشاشة البلدان الصغيرة والنامية للكوارث الطبيعية والأزمات المالية، من الأهمية بمكان أن ندرك شريان الحياة الذي توفره المحيطات، وهي مصدر الأمن الغذائي والازدهار الاقتصادي”.
في إفريقيا هناك العديد من الدول التي تمتلك موارد مائية هائلة، منها غينيا وجنوب إفريقيا وأوغندا وكينيا وغانا ومالاوي
وأضاف معدو البحث أن تحديات مثل الاحتباس الحراري والصيد الجائر وسوء الإدارة البيئية تهدد موردًا، إذا تمت إدارته بشكل مستدام، يمكن أن يكون مصدرًا لفرصة هائلة، مؤكدين أنهم في هذه السلسلة البحثية الجديدة، يسعون لتطوير التغييرات الأساسية والعملية في السياسة التي يُعتقد أن أي حكومة لها منطقة بحرية يجب أن تتبعها.
وقد شملت سلسلة الاقتصاد الأزرق للكومنولث المكونة من خمس مجلدات عددًا من التوصيات، منها: وضع خريطة طريق بحرية متجددة للرياح البحرية وطاقة المد والجزر والأمواج بطريقة تبني مهارات السكان الأصليين وتستفيد من المعرفة المحلية، كذلك دعم قطاع التكنولوجيا الحيوية بالحصاد المستدام للطحالب والميكروبات البحرية للأدوية وغيرها من الصناعات.
علاوة على تحسين صحة المصايد لتجنب الإفراط في الاستغلال والتقليل من النفايات والتلوث من خلال إستراتيجية لمصايد الأسماك ذات الاقتصاد الأزرق، بجانب دعم صناعة الاستزراع المائي، بما في ذلك القشريات والنباتات المائية، عبر تطوير الأسواق المحلية وكذلك المنتجات ذات العلامات البيئية المتخصصة.
موارد هائلة
تمتلك دول الكومنولث إمكانات كبيرة وموارد عظيمة من المسطحات المائية والثروات البحرية، تمهد لها الطريق نحو تحقيق العديد من الإنجازات والنجاحات في هذا المجال، خاصة أن هناك توجهًا عامًا لدى الأسرة الملكية البريطانية لتعزيز تلك القطاعات وتشجيع الاستثمار فيها لما لها من تداعيات إيجابية على مستقبل اقتصادات تلك الدول.
وتملك الرابطة بعض التجارب الناجحة في هذا الاقتصاد، منها التجربة الأسترالية التي بدأت في 2015، حين أطلقت الحكومة الأسترالية الخطة الوطنية العشرية لعلوم البحار 2015-2025 ، وهي خطة تستهدف دعم تطوير الاقتصاد الأزرق في أستراليا وتطويره خلال السنوات العشرة منذ انطلاقها.
وبحلول عام 2025، من المتوقع أن تساهم الصناعات البحرية الأسترالية بنحو 100 مليار دولار كل عام في اقتصاد البلاد، حيث توفر المحيطات والسواحل الأسترالية خدمات إيكولوجية بقيمة 25 مليار دولار إضافية، إضافة إلى تحديد خطة الأمن الغذائي كواحد من التحديات الكبرى السبع، إلى جانب الحفاظ على التنوع البيولوجي والصحة البيئية.
كذلك هناك التجربة الكندية، ساعدها في ذلك ما تتمتع به من موقع جغرافي متميز، حيث تتشارك حدودها البرية مع الولايات الأمريكية المتجاورة من جهة الجنوب، ومع ولاية ألاسكا الأمريكية من جهة الشمال الغربي، وتمتد من المحيط الأطلسي من جهة الشرق وحتى المحيط الهادئ من جهة الغرب، ويحدها من جهة الشمال المحيط المتجمد الشمالي، وتحدها غرينلاند من جهة الشمال الشرقي وإلى الجنوب الشرقي تتشارك كندا الحدود البحرية مع مجموعة سانت بيير وميكلون الخارجية لجمهورية فرنسا، آخر بقايا فرنسا الجديدة.
تعد السياحة الساحلية أحد أبرز الإمكانات التي من الممكن أن تدر دخولًا كبيرةً لجزر الرابطة الـ17 التي تمتلك حدودًا بحرية وشاطئية لها
هذا بجانب حزمة من البحيرات والممرات المائية ذات الأهمية الإستراتيجية، حيث البحيرات العظمى (يحدها تمامًا أونتاريو على الجانب الكندي) وحوض نهر سانت لورنس (يُسمى عادة منخفضات سانت لورنس)، بجانب عدد من السهول الغنية الأخرى، التي تحتوي على ثروات متعددة.
وفي إفريقيا هناك العديد من الدول التي تمتلك موارد مائية هائلة، منها غينيا وجنوب إفريقيا وأوغندا وكينيا وغانا ومالاوي، حتى الدول المصنفة بأنها دول فقيرة تتمتع هي الأخرى بمكانة بحرية جيدة يمكنها حال توظيفها بشكل عملي ومدروس تحقيق العديد من النجاحات في هذا المجال.
ومن أمثلة تلك الدول، موزمبيق التي تقع جنوب شرق القارة وتطل على المحيط الهندي بساحل يزيد على ألفي كيلومتر شرقًا، وتشترك حدودها الشمالية مع تنزانيا، وفي الغرب تشترك حدودها مع زامبيا وملاوي وزيمبابوي وفي الجنوب سوازي لاند وجمهورية اتحاد جنوب إفريقيا.
وثمثل موزمبيق مخرجًا ساحليًا للعديد من دول جنوب إفريقيا الداخلية مثل ملاوي وزامبيا وزمبابوي وبتسوانا وكذلك مخرجًا لولاية ترنسفال في جمهورية اتحاد جنوب إفريقيا، وتبلغ مساحة موزمبيق (801.590 كم) وسكانها سنة 1408هـ -1988 م (14.851.000) نسمة، وعاصمة البلاد مدينة مابوتو وأهم موانئها بيرا، وتنقسم البلاد إلى 10 ولايات.
السياحة الساحلية
تعد السياحة الساحلية أحد أبرز الإمكانات التي من الممكن أن تدر دخولًا كبيرة لجزر الرابطة الـ17 التي تمتلك حدودًا بحرية وشاطئية لها، وهو ما نوهت إليه الأمم المتحدة في أكثر من موضع، حين أشارت إلى أن مطالب السياحة هي الأقوى في المناطق الساحلية، ولا سيما في الجزر.
وأضافت المنظمة في مقال نشرته على موقعها الإلكتروني أن السواحل في العالم تتمتع بأكبر تركيز للاستثمار والمرافق، ومع استمرار توسع قطاع السياحة، سافر 1.2 مليار سائح دولي حول العالم في عام 2016، وتابعت “إننا بحاجة إلى مواجهة التحدي المتمثل في تحقيق التنمية المستدامة في الوجهات الساحلية والجزرية، وخاصة فيما يتعلق بتغير المناخ والتنوع البيولوجي، مع زيادة إمكانات السياحة إلى أقصى حد ممكن والمساهمة فيما يسمى “الاقتصاد الأزرق” وخلق فرص العمل التي تشتد الحاجة إليها”.
كما أوضحت أن المحيطات حساسة للغاية وهشة، وغالبًا ما تكون الأراضي والمياه العذبة والموارد الطبيعية الأخرى نادرة على السواحل، مرجعة ذلك إلى ضغوط التنمية وغيرها من الأنشطة في هذه المجالات، بما في ذلك السياحة، وعليه ترى أنه من الضروري تعزيز أطر السياسات وتوفير إدارة فعالة لدعم السياحة الساحلية المستدامة.
وقد استعرضت في مقالها عددًا من الإستراتيجيات التي يمكن لدول الرابطة من خلالها تعزيز الاستدامة في مجال السياحة الشاطئية أو الساحلية، منها إدماج التخطيط للسياحة في سياق أوسع لإدارة المناطق الساحلية، وتعزيز تقييم مشاريع التنمية السياحية، وتحسين رصد وإدارة المشاريع السياحية، ومواصلة تحقيق فوائد أكبر لحفظ الموارد والمجتمعات المحلية.
ويتوقف نجاح مثل تلك التحركات على تنسيق الجهود من القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني ووكالات التنمية الدولية لدعم أشكال السياحة الساحلية المستدامة، وبفضل تلك الجهود حال تفعيلها بالشكل الملائم، يمكن للسياحة أن تكون مفيدة في حماية التنوع البيولوجي البحري والأرضي الفريد للمناطق الساحلية والجزر.