تعهد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، خلال حملته الانتخابية لرئاسيات 12 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، بتعديل دستوري عميق يهدف إلى إلغاء الصلاحيات الواسعة التي منحها سابقه لنفسه في الدستور المعدل سنة 2016، كحرية تعيين رئيس الوزراء والاكتفاء فقط باستشارة الأغلبية دون أن يلزمه الدستور باختياره، كما احتفظ الرئيس السابق لنفسه بمنصب مسؤول الدفاع والقائد الأعلى للقوات المسلحة.
ويمثل تقليص صلاحيات القاضي الأول للبلاد في الجزائر، أهم المحاور التي تشغل بال الطبقة السياسية في الجزائر وتشكل أبرز مطالبها، خاصة بعد الأزمة الكبيرة والخانقة التي عاشتها البلاد خلال العقدين الماضيين من الزمن، بسبب الصلاحيات الواسعة التي منحها القاضي الأول للبلاد لنفسه، حيث استحدث جلسات مساءلة الطاقم الحكومي وأسقط المادة التي تحدد الولايات الرئاسية باثنتين، كذلك ألغى منصب رئيس الحكومة واستحدث بدلًا منه منصب رئيس الوزراء أو ما يعرف حاليًّا بـ”الوزير الأول” وبصلاحيات محدودة، في حين استحوذ على كل الصلاحيات القضائية والتنفيذية.
أدخلت هذه الصلاحيات البلاد في أزمة صعبة خاصة بعدما أصيب الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة سنة 2011 بوعكة صحية وأصبح غير قادر على التحكم بزمام الأمور، مما أدى إلى استحواذ شقيقه على الحكم، ومن بين ما استولى عليه ختم الرئاسة، حيث أودع شهر مارس/آذار 2019، جزائريون شكوى ضد السعيد بوتفليقة لدى النيابة العامة بمجلس قضاء الجزائر العاصمة، اتهموه فيها بالتزوير واستعمال المزور وانتحال شخصية من خلال الاستيلاء على ختم الجمهورية وانتحال صفة القاضي الأول للبلاد.
وفي الـ19 من مارس/آذار الماضي، قال الناطق الرسمي السابق باسم التجمع الوطني الديمقراطي (الحزب الشريك في التحالف الداعم للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة) صديق شهاب: “أخطأنا بترشيح الرئيس، ولم تكن لدينا الشجاعة الكافية للإدلاء بقوة بكل ما كان يخالجنا، لم نكن مقتنعين بذلك وهو في هذه الحالة”، ملمحًا إلى أن البلاد لم تكن تدار من طرف بوتفليقة، بل كانت تسير من طرف زمرة استولت على كل صلاحياته الدستورية وكانت تستخدمها لمصالحها الشخصية.
رسالة طمأنة
مباشرة بعد انتخابه رئيسًا للجمهورية في 12 من ديسمبر/كانون الأول الماضي، تنازل الرئيس عبد المجيد تبون عن صلاحيات التعيين في بعض الوظائف السامية لصالح رئيس الوزراء الجزائري عبد العزيز جراد، وأثارت هذه الخطوة تساؤلات عن خلفيات هذا القرار وعما إذا شرع الرئيس في تنفيذ وعوده وأنه يتجه نحو تقليص الصلاحيات الخاصة بمنصب الرئيس، وهي الصلاحيات التي اتسعت رقعتها خلال العقدين الماضيين من الزمن، أم أنه مجرد قرار شكلي فقط.
وجاء في بيان مجلس الوزراء: “بعد استنفاد جدول أعمال اجتماع الوزراء، أعلن رئيس الجمهورية أنه وبهدف تخفيف إجراءات التعيين في المناصب السامية للدولة وتسريع حركة مستخدمي الوظائف العمومية السامية، قرر تحويل سلطة تعيين عدد معين من إطارات الدولة إلى رئيس الوزراء، وهذا في إطار احترام الأحكام الدستورية المعمول بها”.
يقول المحلل السياسي والإعلامي الجزائري أحسن خلاص في تصريح لـ”نون بوست” إن هناك مجموعة من الشروط لا بد أن تتوافر ليتنازل رئيس الجمهورية عن صلاحياته الواسعة، منها أن تكون له أغلبية موالية ووفية في البرلمان والمجالس المنتخبة وأن يستند إلى تحالف رئاسي قوي أو حزب سياسي وأن تكون المؤسسات الأخرى كالحكومة والبرلمان قويتين وقادرتين على تحمل تلك السلطات لما تعود إليها.
إن فتح العهدات والصلاحيات الإمبراطورية التي منحها بوتفليقة لنفسه إضافة إلى الفساد المالي والتزوير كانت وراء تصحير الساحة السياسية
ويعتقد المتحدث أنه وفي حالة ميلاد أغلبية برلمانية في الانتخابات البرلمانية القادمة وتنبثق عنها حكومة ذات صلاحيات واسعة سيجد الرئيس نفسه معزولًا ويصبح مجرد وزير للخارجية، ويرى أحسن خلاص أن النظام الأنسب هو الذي يوزع الصلاحيات بشكل متوازن بين الرئيس والحكومة والبرلمان ويعطي للسلطة القضائية والإعلام استقلالية تامة.
وكان مقترح تقليص صلاحيات القاضي الأول للبلاد في الجزائر من بين النقاط التي أثيرت في اللقاءات التي جمعت الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بشخصيات معارضة على غرار رئيس حركة مجتمع السلم (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد) عبد الرزاق مقري ورئيس حزب جيل جديد سفيان جيلالي ورئيس جبهة العدالة والتنمية عبد الله جاب الله.
صلاحيات خطيرة
كشف رئيس حزب “جيل جديد” سفيان جيلالي الذي يعتبر أول شخصية حزبية استقبلها القاضي الأول للبلاد عبد المجيد تبون في إطار المشاورات التي باشرها، في تصريح لـ”نون بوست” أن الرئيس أظهر رغبة كبيرة في التنازل عن الصلاحيات الممنوحة لحاكم البلاد في الدستور، فيقول: “الرئيس واع إلى عدم شرعية وصدقية هذه الصلاحيات”.
ويشير إلى أن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة منح نفسه صلاحيات واسعة، فكانت له المسؤولية المطلقة في التعيين في المناصب المدنية والعسكرية، ويؤكد أن هذه الصلاحيات أدخلت البلاد في شلل تام خلال الخمس سنوات الأخيرة وعرضت الأمن القومي للخطر بعد استيلاء زمرته الواسعة على كل صلاحياته الدستورية واستخدمتها لمصالحها الخاصة.
ويصف المعارض الجزائري البارز ورئيس حزب “جيل جديد” والمرشح الرئاسي الأسبق سفيان جيلالي، الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة بـ”الإمبراطور” الذي أراد الانفراد بالحكم والخلود على الكرسي.
وعاد سفيان جيلالي للحديث عن النقاط التي تناولها في أثناء لقائه بالرئيس عبد المجيد تبون بمقر الرئاسة، أهمها تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لمصلحة البرلمان وإنشاء منصب رئيس الحكومة الذي كان معمولًا به في وقت سابق بدل الوزير الأول ومنحه صلاحيات واسعة، وأن ينبثق من الأغلبية في المجلس الشعبي الوطني (الغرفة الأولى للبرلمان)، ناهيك عن إزالة الغموض الذي يحوم حول العلاقة بين الجهاز التنفيذي والقضاء ويندرج هذا في سياق الفصل بين السلطات خاصة بين السلطتين التنفيذية والقضائية.
ويقترح الناشط الحقوقي عمار خبابة، لتقليص صلاحيات الرئيس العودة إلى منصب رئيس الحكومة مع التأكيد أن يكون للغالبية البرلمانية حق تعيينه، وأن تمنح له صلاحية التعيين في المناصب السامية وأن تمنح له كذلك صلاحية إصدار المراسيم التنظيمية في بعض المجالات إضافة إلى المراسيم التنفيذية مع إمكانية مساءلته من طرف البرلمان، بينما يكتفي الرئيس الجزائري بتحديد ومتابعة السياسية الخارجية وملف الدفاع الوطني.
يقول عمار خبابة في تصريح لـ”نون بوست” إن فتح العهدات والصلاحيات الإمبراطورية التي منحها بوتفليقة لنفسه إضافة إلى الفساد المالي والتزوير كانت وراء تصحير الساحة السياسية وتعفين الوضع إلى أن شهدت البلاد انتفاضة عارمة، ويشير إلى أن الرئيس يعد وفقًا للصلاحيات الحاليّة رئيس السلطة التنفيذية وحتى القضائية ويملك حق التشريع بالأوامر الرئاسية ويرأس المجلس الأعلى للقضاء.