هل يسمح الاستبداد بخلاص المستضعَفين؟ الجواب قطعًا لن يسمح. ولكن من قال إنَّ التاريخ يتحرك بإرادة المستبد فقط؟ فحركة التاريخ مزيج من تقاطع معطيات معقدة تفرز من حين إلى آخر عاملًا جديدًا مؤثرًا مبهرًا وغير متوقع في الزمان والمكان، وما ذلك إلا تجسيد لبنية الفساد والتهالك ذاته التي تفرز هذا العامل أو ذاك دون قصد وإدراك، وأحيانًا بحماقة واستكبار.
وهذه سنَّة من سنن الله في الكون التي لا تقبل مخالفة قانون من القوانين إلا أعادته إلى حالة التوازن شاء من شاء وأبى من أبى، ولطالما علَّمنا التاريخ أنه حتى الفساد يفسد، بل ربما هو الأسرع فسادًا، خاصة إذا لم يتلق تلك الطاقة التي تعينه على الحياة والمستمدة أساسًا من المستضعَفين أنفسهم، وهنا كلمة السر في خلاصهم.
إن الأقدار الإلهية أقامت هذا الكون على التوازن الإيجابي الذي يتحرك دائمًا تجاه الخير والنمو والازدهار شريطة ألا يتدخل هذا الإنسان بطريقة سخيفة خاطئة، وتلك الأقدار – أساسًا – معينة على الخلاص من الانحرافات بكل أنواعها (السياسية والاقتصادية والبيئية والاجتماعية، إلخ) لكن بشروط موضوعية حيادية لا تحابي أحدًا أبدًا، فما الذي يجب على الإنسان المستضعَف (فرد/جماعة) فِعْلَهُ حتى تعمل السنن والقوانين الكونية لصالحه لا ضده؟ هنا يكمن سر الخلاص الذي يقسم إلى شقين أساسين من العمل الواجب فعله والالتزام به.
الخلاص لا يكون إلا بإرادة وقدرة، فردية بداية ثم جماعية، وهي المؤثر الحقيقي في النتيجة المرجوة. ولكن قبل التفصيل في ذلك لنطرح سؤالين مهمين: هل يُعقل وجود مستضعَف لا يريد الخلاص؟ وهل يُعقل أن المستضعَف لديه القدرة على ذلك أو القدرة على تحصيل القدرة لذلك، وقد سدَّ عليه المستبد كل مَنْفَذٍ يمكن أن يستنشق منه قُدْرَةً فعالة؟ والجواب – للأسف – نعم على السؤالين، فكثير من المستضعَفين لم يخطر ببالهم الخلاص، ولأنهم فقدوا الإرادة لم يخطر ببالهم تحصيل القدرات اللازمة لذلك، وفي هذا تفصيل فيما يلي:
إرادة الخلاص
ليس سهلًا أن تريد شيئًا كما تتوقع، فإرادة عظيمة كإرادة الخلاص ليست نتيجة ضغط حاجة طبيعية فقط كضغط الحاجة للطعام مثلًا، فالجوع يحركك آليًا للبحث عن الطعام أو للعمل الذي تُحَصِّلُ به ثمنه، وذلك لا يكون في الخلاص من الاستضعاف. فهذا النوع من الإرادة يحتاج إلى معرفة ووعي وإدراك من نوع خاص، وهذا ما أدركه ووعاه الطغاة والمستبدون دائمًا، فعملوا على كتم الحقيقة وإبراز الأوهام الفكرية المحرَّفة عبر آلياتهم الإعلامية والتعليمية والإرشادية. فلا إرادة سليمة إلا بعلم وفكر سليمين، وهنا جذر المشكلة.
فالإرادة أساسًا هي فكرة، وإخفاؤها ونشر أخرى محرَّفة مشوهة يجعل المستضعَف مريدًا لشيء مغاير، وغالبًا هو ما يتمناه ويخطط له المستبد، وما ذلك إلا لأن الحقيقة ضُيِّعت أو شُوِّهت، فصار لزامًا على الأفراد المستثنين من النوم والخداع (المصطفين الأخيار) أن ينشروا تلك الفكرة الحارقة المارقة ويوقظوا بها ذلك الخامل الذي لا يعمل، أو ذلك النشط الفعَّال الذي يعمل لصالح المستبد دون هدى أو رشاد.
الحقيقة الحقَّة جذر الإرادة السليمة التي تثمر سلوكًا سليمًا فعَّالًا يُغيِّر الواقع، وبه تجد أن الأقدار والسنن الإلهية توافقت معك وليس ضدك. وأول حقيقة عمل المصطفون الأخيار على نشرها – ودفع بعضهم حياته ثمنًا لها – هي حقيقة منبع القوة في هذا الكون ومصدرها الذي لا ينضب، وذلك أكثر ما حرص المستبد – عبر التاريخ – على إخفائه، وأعانه عليه كثيرون ممن تشوهت إراداتهم.
أحذر أيها المستضعَف أن يغرَّك أحد ما بوهم حب وإرادة فكرة أو زعيم مصطنع لشيء واحد هو استمرار عبوديتك ودوام غفوتك
تتمتع الحقيقة والإرادة بأنها فكرة – إذا انتشرت – أصابت الكثيرين بعدوى خير تنفعهم وتنتقل من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل بشرط أساسي وهو أن يستمر حَمَلَتُها بنشرها ودفع ثمنها ولو كان حياتهم. ولهذا حرص المستبد – دومًا – على قتل كل من يفضح الحقيقة أو تهجيره أو استمالته إن أمكن ذلك، وهذا أقصى ما يتمناه، لأنه بذلك يكون قد كتم الحق وأفشى الباطل، وما علماء السلاطين وجبناء المتعلمين وأخساء النفوس من ذوي الرتب والشهادات إلا مادته الدسمة وبضاعته الرائجة عبر التاريخ.
فانتشار فكرة ما لا يعود إلى صحتها وصدقها، بقدر ما يعود إلى فعاليَّةِ حملتها وثباتهم واستمراريتهم، وكم من أفكار باطلة خلقت إرادات مشوهة سادت ومادت، فقط لأنها وجدت عنيدًا ملحًا لا يكلُّ ولا يملُّ، ووجدت قدرة منحتها طاقة النمو والاستمرار، خاصة إذا كانت هذه القوة مقدمة – كمنحة شؤم – من المستبد نفسه.
القدرة على الخلاص
تختلف القدرة عن الإرادة بأنها ليست فكرة فقط، بل سلوك ومادة ملموسان يتم تحصيلهما بعمل دؤوب، وغالبًا بجو مضطرب لا يسمح إلا للشجعان الأفذاذ بالاستمرار والحياة. فالقدرة – مادية ومعنوية – لا تنتقل من شخص إلى آخر بمجرد القناعة والتفكُّر، بل بتكرار العمل الدؤوب من الفرد والجماعة.
وهنا يحرص المستبد على تأسيس قدرات وهمية (في التعليم النظري ابتداءً) لا تسمن ولا تغني من جوع. والمصيبة أن المستبَد فاقدَ الإرادة السليمة، يعتبرها هبة من ربِّه المتوهم، يفاخر بها أقرانه والأجيال من بعده، والنتيجة هباء منثور لمن حسب نفسه أنه يحسن صنعا، لذا كان الحلُّ أساسًا، بامتلاك إرادة سليمة تقود لتحصيل قدرات حقيقية فعَّالة تخدم إنسان الخلاص الذي قرر إنهاء مهزلة الاستبداد، وما كيد الاستبداد بقوي كما يتوهم الكثيرون.
فكم من مستبِد أهلك نفسه بنفسه، وكم من دولة كانت تسمى عظمى تهاوت فإذا هي كجبل من رمال، وكم من أمة عظيمة العسكرة والاقتصاد وقفت عاجزة أمام فيروس لا يُرى بالعين المجردة. ولكن كل ذلك لا يصنع الخلاص، إنْ لم يفعل أهل الحق ما يجب عليهم لتحصيل إرادتهم السليمة وقدراتهم المكافئة. فضرب الظالم قد يكون عملًا قدريًا بحتًا لتجاوزه الحدود، ولكن الخلاص الحقيقي للمستضعَفين له قوانينه بتحصيل الإرادة والقدرة، وإلا فسيكون استبدال مستبد بمستبد آخر، كما حصل بوهم الاستقلال عن الغرب الذي نحتفل به سنويًا، دون أن نعرف أن هكذا احتفال هو جزء من التخدير اللازم لاستمرار نفس القصة ونفس الألم.
وفي الختام، هل يستطيع المستضعَف امتلاك الإرادة. نعم إذا سمع واستمع وأصغى ووعى وأدرك الحقيقة، وهذه الخطوة الأولى لبناء القدرة النافعة. فاحذر أيها المستضعَف أن يغرَّك أحد ما بوهم حب وإرادة فكرة أو زعيم مصطنع لشيء واحد هو استمرار عبوديتك ودوام غفوتك. وما نموذج الناصرية منا ببعيد، وما هو ببعيد أيضًا أن ذلك يكرر دائمًا وأبدًا، ولكن الغريب أن المستضعَف يقع في نفس الجُحر مرات ومرات! ولا أدري أبقي اسم المؤمن ينطبق عليه أم لا؟ فالإيمان له درجات ودرجات، أعلاها توحيد الله وحده وعبادته وحده، ولكن دهاة البشر يصنعون لك صنمًا تلو الآخر، فلا تظن نفسك بمنجاة من عبادته.