لا شك أن النظام السياسي في العراق واجه العديد من التغيرات الرئيسية خلال العقدين الماضيين، لكن بالمقابل لم يحصل تطور إيجابي في البنية السياسية للدولة العراقية بعد 2003، وعلى الرغم من أن المحتل الأمريكي جاء بفكرة تطبيق نظام سياسي ديمقراطي بدلًا من النظام الديكتاتوري، لكن حقيقة ما عملت الولايات المتحدة على ترسيخه كان أقرب إلى نظام فوضوي، مولّد للأزمات ومبني على ركائز غير ثابتة ومقومات طائفية وقومية لا تساعد في بناء قرار سياسي مستقل قادر على بناء دولة ذات سيادة كاملة.
المظاهرات الواسعة التي انطلقت منذ أكتوبر/تشرين الأول عام 2019، تحولت من المطالبة بتحسين الخدمات والقضاء على البطالة والفساد إلى حركة ضغط شعبي تهدف إلى تغيير شكل النظام السياسي والمؤسسات المساندة لها، لما ترتكبه من ممارسات اعتبرها الشعب ممارسات سلبية ومغلوطة تشكل خطرًا على إدامة العيش الكريم للمجتمع العراقي.
وكنتيجة للخلل في مدخلات هذا النظام، لم تنشط بيئة سياسية سليمة قادرة على إيجاد أدوات الضبط والمراقبة والتأثير في تقويم السلطات التنفيذية والتشريعية في الحكومات والبرلمانات المتعاقبة.
واحدة من أهم أدوات الضبط للنظام السياسي الفعال، هو وجود ما يصطلح عليه “جماعات الضغط”، التي لها مصالح سياسية أو اقتصادية تعمل على أن تكون لها علاقات دائمة مع رجال السلطة، وتمارس الضغط بشكل مستمر للحصول على المزيد من الامتيازات، وتستعمل هذه الجماعات النشاط السياسي كوسيلة لتحقيق أهداف اقتصادية واجتماعية، كما تؤدي دورًا مهمًا في عملية تطوير الأنظمة السياسية والاجتماعية.
وعلى خلاف الأنظمة الديمقراطية، لم تنشأ في عراق ما بعد 2003 جماعات ضغط حقيقية، قائمة على أُسس ومبادئ وطنية وتبني مصالح مشتركة تحت إطار قانوني، وإنما تشكلت بدلًا منها جماعات مصالح تسعى إلى تثبيت السلطة الحاكمة أو الوصول والمشاركة في السلطة.
وفي غياب الديمقراطية الحقيقية في العراق، تمكنت القوى السياسية الشيعية من فرض وجهة نظرها نتيجة عوامل تعلقت بقدرتها على احتكار القوة الشرعية والفصائل المسلحة، والتأثير من خلال مركزها المالي أو نفوذها الديني والاجتماعي، ما عمّق الفجوة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية من جهة والمواطن من جهة أخرى، وزعزع الثقة بين الناخب والطبقة السياسية بشكل كبير، وفي هذا السياق ظل تأثير المواطن العراقي محدودًا في حق ممارسة السياسية وإبداء الرأي في القضايا العامة، بسبب هيمنة الأحزاب وجماعات الضغط التابعة لها، بما يخدم مصالحها الخاصة.
نحاول في هذا المقال تسليط الضوء على أهم القوى غير الرسمية المؤثرة في السياسية العراقية، وقد لا تتفق أدبيات العلوم السياسية على تسميتها بمصطلح جماعات الضغط، إلا أنه يمكن اعتبارها جماعات أثرت وتؤثر على شكل النظام السياسي في العراق، وتعمل في صناعة الرأي العام تجاه السياسات العامة للدولة العراقية.
تطور جماعات الضغط في العراق
قبل العام 2003 كانت جماعات الضغط التي تؤثر في رسم السياسية الأمريكية حول العراق، هي الأحزاب والشخصيات المعارضة لنظام صدام حسين التي أيدت قرار احتلال العراق في مؤتمر لندن 2002. أهم هذه الشخصيات (أحمد الجلبي وإياد علاوي وجلال الطالباني ومسعود البارزاني)، والتحق بها لاحقًا حزب الدعوة والمجلس الأعلى بقيادة الحكيم، وكان لها دور في الضغط تجاه قرارات مهمة منها حل الجيش العراقي واجتثاث البعث ودمج الفصائل المسلحة، ما أثر بشكل كبير على بنية الدولة العراقية بعد 2003، وبعد ذلك تحولت جماعات الضغط هذه إلى أحزاب رسمية وشاركت في مجلس الحكم واستمرت في رئاسة الحكومات المتعاقبة.
ولكون الخطاب الديني يمتلك تأثيرًا كبيرًا في توجيه مشاعر المجتمع الشيعي سياسيًا، تعتبر المرجعيات الدينية جماعة ضغط سياسية فاعلة في رسم الإطار السياسي للبيت الشيعي الذي ضم كل الأحزاب السياسية الشيعية آنذاك، خصوصًا أن لكل حزب مرجعًا دينيًا فقهيًا لتأصيل السياسية الشرعية لعمله.
المصالح التي تتبناها جماعات الضغط الدينية في العراق، هي الغايات الأيديولوجية التي تهدف للحفاظ على المكتسبات السياسية الشيعية والدفاع عن قضايا المجتمع الشيعي الذي يعاني منها منذ قرون.
ويعتبر المرجع علي السيستاني من أهم المرجعيات للشيعة في العراق ويمتلك نسبة التأثير الأكبر على رأي الشارع العراقي، ويسمى بـ”صمام أمان” العملية السياسية لما له من العديد من المواقف الحاسمة في المشهد العراقي الحديث، كما أن المشاركة السياسية للسيستاني كانت حاضرة منذ بداية الاحتلال، حيث ساهم في بلورة موقف الطائفة الشيعية من الدولة والتنافس السياسي ومسارات الانتخابات وتشكيل الحكومات، بالإضافة إلى دور الزعيم الديني مقتدى الصدر وقاعدته الجماهيرية الواسعة ذات الولاء القوي التي تعتبر من أهم جماعات الضغط المنظمة والفاعلة في الشأن السياسي العراقي.
يمكن اعتبار المرجعيات الدينية بأنها جماعات ضغط، لكونها تمتلك مقومات الدور الفاعل الذي تؤديه داخل النظام السياسي للتأثير على قرارات السلطة
ويمكن اعتبار المرجعيات الدينية بأنها جماعات ضغط، لكونها تمتلك مقومات الدور الفاعل الذي تؤديه داخل النظام السياسي للتأثير على قرارات السلطة من خارجها، حيث تعمل على جعل قرارات هذه السلطة تتطابق مع أفكار الفئات التي تمثّلها ومصالحها، ومن هذه المقومات عنصر التنظيم الموجود من خلال شبكة الحوزات العلمية في النجف وكربلاء والكاظمية، وما تشكله أهمية الكثافة العددية لهذه الحوزات العلمية المنتشرة جغرافيًا.
حيث تستطيع أن تجيّش عددًا كبيرًا من طلابها وخطبائها من خلال أماكن العبادة والمناسبات الدينة لدعم قضاياها وبخاصة في أثناء الانتخابات أو الأزمات، وتمتلك هذه المرجعيات عنصر القوة المالية المتشكل من الاستفادة من مردودات التبرع بالخمس، والسياحة الدينية في النجف وكربلاء، وسلاسل كبيرة من الاستثمارات والشركات المتنوعة، بالإضافة إلى امتلاكها مراكز تفكير وأبحاث إستراتيجية ومؤسسات إعلامية ضخمة.
ولعل أهم ما تمتلكه المرجعية الدينية كعنصر قوة ضاغط هو السمعة والصورة الإيجابية التي تتمتّع بها في ذهن المجتمع الشيعي، وذلك نتيجة لمسارها التاريخي المتراكم، فالعمق التاريخي يلعب دورًا ويساعد على إرساء هيبة وصورة المرجع، لكن الأحداث الأخيرة جعلت هذه الصورة تهتز داخل مشاعر المجتمع بصورة عامة، وبالأخص فقدان الثقة الكبير تجاه المرجع مقتدى الصدر وموقفه من تظاهرت ثورة تشرين 2019.
من ناحية أخرى لعب شيوخ العشائر دور جماعات الضغط لكن بشكل نسبي ومحدود، حيث اقتصر دورهم على القرى والأرياف والمدن ذات الطابع القَبلي، وكان دورها في توجيه أفراد العشيرة في انتخاب المرشح عن العشيرة أو الضغط على المسؤول في الحكومة الذي ينتمي للعشيرة للحصول على مصالح اقتصادية خاصة أو الحصول على وظائف لشباب العشيرة.
وكنتيجة لتغير موازين القوى الأمنية بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من العراق عام 2011، برزت جماعات ضغط جديدة على المعادلة السياسية متمثلة بالمليشيات المسلحة، التي من أيديولوجيتها دعم الأحزاب الشيعية للبقاء بسدة الحكم، وإقصاء الأطراف الأخرى، ناهيك عن كونها جماعات ضغط تابعة للسياسية الإيرانية في العراق، وتحديدًا مليشيات بدر وعصائب أهل الحق.
تأثير جماعات الضغط المسلحة وصل إلى تهديد القوى السياسية السنية بالتصفية الجسدية والاعتقال، ومن ضمنها تلك المشاركة في الحكومة، كما حصل مع وزير المالية رافع العيساوي، ونائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي، الأمر الذي أدى إلى تآكل الثقة بين الأطراف السياسية الشيعية والسنية والكردية.
وقد أقامت الحكومات في فترة رئاسة نوري المالكي علاقة وثيقة مع هذه المليشيات، ما مكنها من السيطرة على مفاصل أمنية حساسة في الدولة، وقد عزز دور هذه المليشيات حالة عدم الاستقرار الاجتماعي وانهيار بنية النظام السياسي، وتحديدًا الانهيار الأمني عام 2014 الذي تمثل بدخول تنظيم داعش للموصل وسيطرته على ثلث مساحة العراق، ومع اقترب خطر داعش إلى تهديد نظام الدولة ككل، عادت جماعة الضغط الدينية لدعم النظام السياسي الشيعي وتوحيد الرأي العام لمواجهة هذا التحدي الكبير، من خلال فتوى “الجهاد الكفائي” التي تم تشكيل مليشيات الحشد الشعبي على إثرها.
إن تشكيل الحشد الشعبي الذي يحتوي على فصائل ذات ولاء خارجي شكل تحديًا كبيرًا لبنية النظام السياسي العراقي، خاصة أن هذه المليشيات أسست أحزابًا سياسية شاركت في انتخابات 2018 التي شابها الكثير من اتهامات التزوير واستخدام أساليب الضغط والتهديد على مواطني المناطق السنية لانتخاب المرشحين التابعين لهذه المليشيات.
بالاستناد لعنصر القوة التنظيمية والعددية لمليشيات الحشد الشعبي كجماعة ضغط، استثمرت هذه المليشيات النصر الذي تحقق على داعش سياسيًا، وكسبت زخمًا شعبيًا قادها للحصول على مقاعد في البرلمان ووزارات في الحكومة. اقتصاديًا كونت فصائل الحشد الشعبي شبكة من الاستثمارات الداخلية والخارجية بالإضافة لحصتها من الموازنة العامة، بالإضافة لمجموعة المؤسسات الإعلامية الداعمة ضمن ما يسمى إعلام المقاومة، وبناءً على هذا يمكن القول إن فصائل الحشد الشعبي شكلت قوة عسكرية ضاغطة على القرار السياسي وصناعة السياسة العامة للدولة، وهذا ما يبدو واضحًا من مواقفها من الصراع الأمريكي الإيراني في العراق.
المظاهرات وإعادة تشكيل جماعات الضغط الجديدة
شكلت التحركات الشعبية ممثلة بالتظاهرات أداة فعالة من أدوات التغيير السياسي على المستوى الإقليمي والدولي في القرن الواحد والعشرين، والربيع العربي خير مثال على ذلك.
إن تراجع جماعات الضغط الحقيقية في العراق مثل النقابات والحركات الطلابية والجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني والإعلام، التي لها الشرعية القانونية والحاضنة الشعبية، جاء نتيجة عدم نضوج السلوك الديمقراطي للنظام السياسي العراقي والتغييب الواضح لدور هذه الجماعات، كما أن الانقسام السياسي المجتمعي في العراق بسبب التحزب وارتهان شرائح اجتماعية وشبابية بمرجعيات سياسية ودينية وعشائرية أدت إلى غياب دورها، حيث تريد المرجعيات إبقاء قوة الشباب تحت سيطرتها، وفي بعض الاحيان تحويلها إلى مجرد أداة للمساومة مع الحكومة أو أطراف سياسية خارجية.
التحول الاجتماعي والسياسي والأمني، في عراق ما بعد الثورة، يستدعي بناء جماعات ضغط جديدة على جميع المستويات
لكن الأداء الضعيف للأحزاب السياسية العراقية وعلى مدى تاريخها الطويل نسبيًا، أصبح سببًا رئيسًا لنشوء انطباع سلبي لدى المجتمع بعدم الثقة في غايات جماعات الضغط على إحداث التغيير المطلوب، كما أن واقع الأحداث الأخيرة بيّنَ لها أن معظم الأحزاب السياسية، الشيعية منها خصوصًا، لها ارتباط لتنفيذ أجندة سياسية خارجية، ولم تنس الذاكرة الشعبية الدور السلبي الذي قامت به أحزاب السلطة في خنق الحريات ومصادرة الحقوق وغيرها من مظاهر الاستبداد والعنف والتسلط.
ختامًا، ما يحصل في المشهد العراقي الحاليّ هو إعادة تشكل النظام السياسي، نتيجة لتغيّرات اجتماعية داخلية وتغيرات في موازين القوة الخارجية، وهو بالمحصلة حد من مستوى تأثير جماعات الضغط الدينية والعشائرية والفصائل المسلحة، كما أن ارتفاع منسوب الوعي المجتمعي نتيجة الروح الوطنية العابرة للطائفية التي خلقتها أجواء التظاهرات، كشف العديد من الغايات الحقيقية لجماعات الضغط التي كانت تستثمر الحراك الاجتماعي لمصالحها الخاصة.
هذا التحول الاجتماعي والسياسي والأمني، في عراق ما بعد الثورة، يستدعي بناء جماعات ضغط جديدة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، قادرة على تنبي قضايا للمجتمع وتحقيقها بعيدًا عن المصالح الفئوية والحزبية، ما يساهم في خلق مساحة أكبر للمواطن العراقي في حق ممارسة إبداء رأيه في السياسية العامة للدولة.