تاريخٌ عريق مليء بالأحداث التي تدل على أصالة مدينة سورية مرت عليها حقبٌ عديدة وحضارات عتيدة، ذات لون أخضر وبركة متوقدة، ومدخل إلى عوالم مختلفة عبر آثارها المتنوعة والموزعة في دلالة واضحة على أنها طريقٌ مهم في خارطة التراث العالمي.
“إدلب المنسية”، المدينة التي لا يخلو أي اجتماع سياسي اليوم من التمحور حول قضيتها، وتشخص أنظار العالم على ما يحصل فيها من أحداث ومجريات، خاصةً وأنها أصبحت ساحة صراع دولي وذات أهمية إسترايتيجية لمختلف المتصارعين الدوليين في المنطقة، وهو ما يزيد من كارثية الوضع في المدينة صاحبة أكبر كارثة إنسانية في العقود الأخيرة مترافقةً مع موجة نزوح هي الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية.
هجومٌ روسي يدعم جيش بشار الأسد على آخر معاقل المعارضة، برفقة ميلشيات إيرانية وأفغانية ولبنانية، كل ذلك لم يأت من فراغ، فعلى مدار السنوات الماضية هُجّرت كل قوى الثورة من حواضنها إلى مآواهم الأخيرة في المدينة المنسية لتكون ملاذهم الوحيد، وما إن فرغت تلك المليشيات من حصر كل معارضي الأسد في تلك البقعة حتى بدأت بشن حملةٍ عسكرية دامية على المدينة وأهلها.
لم تكن السنة الماضية وما حصل بها من أحداث في المدينة إلا امتدادًا لـ 9 سنوات من رفض وجود الأسد في السلطة من كافة أهالي المحافظة، فقد انتفضت المدينة مع كل البلدات والقرى والمراكز ملتحقة بالثورة التي خرجت بداياتها من درعا، ولم يكن لبعد المسافة بين المدينتين مانعًا من التضامن الشعبي الكبير، إلا أن الباحث في موضوع الحقد الأسدي الكبير على إدلب سوف يرى أن هذا العنف الشديد بحق المدينة إنما هو كره متجذر من آل الأسد ومراكز الحكم في البلاد تجاه هذه المدينة ويطول عمره حتى سبعينيات القرن الماضي.
حينما ضُرب حافظ الأسد
لم يستطع حافظ الأسد رئيس سوريا الراحل، أن ينسى مدينة إدلب ومافعله أهلها بحق شخصه، فخلال أحد جولاته عام 1970 حين كان يشغل منصب رئيس وزراء البلاد، والتي كان يبغي بها استمالة أهالي المدينة لمناصرته حينما يستلم الحكم، عمد سكانها إلى رشقه بالبندورة (الطماطم) والأحذية، حتى إن بعض رواة القصة يقولون إن حذاءً كاد يصيب رأسه فمنعه عنه رئيس وزرائه عبد الله الأحمر آنذاك، هذه الحادثة جعلت من إدلب عقدةً في رأس الأسد، زاد في ذلك أن أحد الذين حاولوا اغتيال حافظ الأسد في عام 1980 ينحدر من مدينة كفرنبل التابعة لمحافظة إدلب، وهو الوحيد الذي استطاع أن يهرب تاركًا سوريا.
عام 1980 كان قاسيًا على سوريا، ولم تسلم المدينة من تلك القسوة، ففي هذا العام اشتعلت مظاهرات كبرى في مدينة جسر الشغور تضامنًا مع محافظة حماة التي عانت من اضطهادٍ كبير ومجزرة راح ضحيتها الالاف على يد جنود حافظ الأسد، فيما أضربت بعض المدن ليومين، ونتيجة لما حصل نزل الجيش السوري حينها في جسر الشغور وهي إحدى كبرى مدن إدلب وقتلوا فيها أكثر من 150 من الأهالي. لم تكن جسر الشغور وحيدة وقتها إنما كان الموت يلاحق باقي المدن مثل أريحا ومعرة النعمان ومركز المحافظة ودفعت حينها فاتورةً كبيرة من القتلى والمعتقلين والمفقودين والمهجرين قسريًا.
حرم حافظ الأسد المدينة من أن تكون على مسارات الطرق الرئيسية الدولية، حيث أنه أبعد طرق “حلب دمشق، وأتوستراد حلب اللاذقية”، إلى الشرق منها بنحو 20 كم
تهميشٌ وإقصاءٌ مجتمعي
تحدثنا في “نون بوست”، إلى الدكتور قتيبة السيد عيسى وهو ابن مدينة إدلب، ليروي عن بعض مظاهر التجاهل التي عاشتها المدينة، لدرجة أن زملاءه في جامعة دمشق حينما يقول لهم إنه من مدينة إدلب يستغربون وجود مدينة بهذا الاسم في سوريا، ويقول سيد عيسى إن “إدلب كان المتعارف عنها أنها قرية كبيرة ولا تُحسب في المجتمع السوري على أنها محافظة نتيجةً للتهميش الذي عانته من أفعال نظام الأسد على مر السنين”، ويضيف: “مع العلم أن إدلب تنافس مدينة حماة على المركز الرابع من حيث عدد السكان”.
ما ذكره السيد عيسى جعلنا نبحث عن آثار هذا التهميش والإقصاء للمدينة لنصل إلى عدّة مناحي عمل عليها الأسد من أجل معاقبة المحافظة التي تمثل رافدًا غذائيًا أساسيًا للبلاد.
-
التهميش الجغرافي: حرم حافظ الأسد المدينة من أن تكون على مسارات الطرق الرئيسية الدولية، حيث أنه أبعد طرق “حلب دمشق، وأتوستراد حلب اللاذقية”، إلى الشرق منها بنحو 20 كم، وهذه الطرق حاليًا تدور عليها أشرس المعارك بين روسيا وحليفها النظام بمواجهة المعارضة وتركيا، يذكر أن المدينة أصبحت محافظة مستقلة منذ الستينات، ويذكر الدكتور قتيبة السيد عيسى أن المدينة “تعتبر صلة وصل سوريا بأوروبا باعتبارها البوابة الشمالية لبلاد الشام على تركيا”.
-
ضرب الاقتصاد: نتيجةً للإهمال الجغرافي عانى السكان اقتصاديًا وتجاريًا فلم تتميز المدينة بأسواقها كونها لا تقع على الخطوط الرئيسية كما المحافظات الأخرى، وعلى الرغم من التهميش الحكومي وإقصاء الدولة لها، كان لأهلها دورٌ بارز بالحفاظ على أن يكون لهم اسم في اقتصاد البلاد من خلال الزراعة، وبجهود أهل المدينة من الفلاحين أقيمت العديد من السدود وشبكات الري.
-
خارج الإطار التنموي: كانت المدينة خارج خطة التنمية الاجتماعية السوريّة، كما أن نظام الأسد الأب منعها من الحقوق والمشاريع التنموية أو حتى الاستثمارية التي كان من الممكن أن تساهم في تنمية المحافظة، وتأتي شوارع المدينة شاهدًا على ذلك وغيرها من شؤون البنية التحتية كالمشافي والمدارس وغيرها حتى أن بعض القرى لم تصلها الكهرباء والمياه إلا في وقت متأخر، واستمر الابن بشار الأسد بهذه السياسة.
المدينة التي حاول النظام طمسها أصبحت موئلًا ومحبوبةً لدى كل السوريين المنكوبين، وترنو عيونهم اليوم إلى حمايتها والحفاظ عليها قدر المستطاع وإيقاف الحملة الروسية الشعواء عليها
-
لا مؤسسات تعليمية: يذكر الدكتور قتيبة السيد عيسى أن جامعة إدلب كانت “متخلفةً جدًا”، وكانت تعتبر فرعًا من فروع جامعة حلب، أي أن الشهادة التي تمنحها تكون ممهورةً باسم جامعة حلب، الأمر الذي كان يدفع بشباب المدينة للتغرب أثناء فترة دراستهم الجامعية إلى محافظات أخرى، كما أن خروج المحافظة من خارطة الدولة التنموية جعل من مدارسها ذات جودة منخفضة، وعلى الرغم من كل تلك الصعوبات فقد أثبت شبابها موجوديتهم ضمن فروع دراستهم وتعليمهم.
-
الإقصاء السياسي: في تاريخ حكم الأسد لسوريا لا يذكر السيد عيسى مسؤولًا مهمًا في الدولة من مدينة إدلب، فلم يكن يصل إلى هذه المناصب أحدٌ من المدينة إلا ما ندر، وكان التوظيف في المؤسسات والدوائر الحكومية بالنسبة لابن المدينة يحتاج لموافقة الأفرع الأمنية أو بحاجة للرشاوي حتى لو أنه يحمل أعلى الشهادات ويمتلك أعلى الخبرات.
-
التهميش التراثي: تضم مدينة إدلب ثلث آثار سوريا، ومن مواقعها الجامع الكبير الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي، ومنزل العياش الذي يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر الميلادي، وكانت السلطات السورية هدمت موقع الجامع العمري في إدلب عام 1988 وهذا الجامع من أبرز الأماكن الأثرية في المدينة وكان في البداية ديرًا مسيحيًا. وبحسب الدكتور السيد عيسى كان النظام لا يذكر عن مدينة إيبلا والتي “ترجع إلى 5000 عام أنها موجودة في إدلب والتي تبعد عنها فقط 20 كم إنما كان يذكر أن إيبلا تبعد عن مدينة حلب 60 كم”.
لم تكن هذه النقاط هي الوحيدة التي عمل عليها الأسد الأب لضرب المحافظة وروافدها، بل عمل على إنهاء المدينة في عيون الشعب من باقي المحافظات، ولم يتوقف الأسد الابن عن هذه الممارسات بل استمر على نهج والده، ما دفع أهالي المدينة للخروج مبكرًا في الثورة على الحكم البعثي الذي أقصاهم من كافة مناحي الحياة، لتسنح الفرصة لبشار الأسد ونظامه الانتقام بشكل وحشي من المدينة وأهلها والمهجرين إليها، فالمدينة التي حاول النظام طمسها أصبحت موئلًا ومحبوبةً لدى كل السوريين المنكوبين، وترنو عيونهم اليوم إلى حمايتها والحفاظ عليها قدر المستطاع وإيقاف الحملة الروسية الشعواء عليها.