“الفكر تحرر، والفن تحرر، والمجتمع تحرر، وكل شيء في العالم أفلت من يد الاستعباد والرق”.
انطلاقًا من هذه الحتمية التاريخية يعيد الباحث والأكاديمي المغربي كمال عبد اللطيف في كتابه “أسئلة الحداثة في الفكر العربي من إدراك الفارق إلى وعي الذات” الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث طرح بعض أسئلة الحداثة في الفكر العربي والمجسدة في سؤال الحداثة السياسية وإشكالية وضع المرأة العربية في الفكر والمجتمع، كما يطرح أيضًا سؤال الحرية في الفكر السياسي العربي، وقد سبق لمؤلف هذا الكتاب الاهتمام بالموضوع ذاته في كتابيه السابقين “أسئلة النهضة العربية: التاريخ. الحداثة. التواصل” و”أسئلة الفكر الفلسفي في المغرب”.
إرهاصات الحداثة السياسية
قبل الحديث عن الكتاب يجب التعريج قليلًا على مصطلح الحداثة الذي نشأ في أوروبا في فترة ما بعد العصور الوسطى وقت كانت الكنيسة تسيطر على كل مقاليد الأمور، وحين انتهت تلك الفترة دخلت أوروبا عصر التجربة والعلم أو ما عُرف بالحداثة كإعلان لنهاية عصر الميتافيزيقيا وبداية عهد إرادة الإنسان بصفته كائنًا عاقلًا لا تحكمه إرادة الآلهة ولا الأساطير، وعليه يُطلق مفهوم الحداثة على مسيرة المجتمعات الغربية بداية من عصر النهضة وحتى اليوم ويغطي مختلف مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية والفنية والاقتصادية وبشكل عام توصف الحداثة بأنها ممارسة اجتماعية ونمطًا من الحياة يرتكز على أساسي الابتكار والتغيير.
عربيًا، ما زال مفهوم الحداثة يُطرَح للنقاش إن لم يكن مُثيرًا للجدل، ففي الفصل الأول من الكتاب يخبرنا الباحث كمال عبد اللطيف بالهواجس التي تسكن عقله عن كيفية أقلمة قيم العصر وتوطينها داخل الثقافة العربية المعاصرة بأقصى ما يمكن من اليقظة الفكرية والوعي التاريخي، ويقدم الكاتب طرحه النقدي لأسئلة الحداثة في الفكر السياسي العربي من خلال محاولة تشخيص عوائق الحداثة في المجتمع والفكر وتلمس مختلف السبل العملية والنظرية التي تسهل تجاوز وهم الانكفاء على الذات نحو عالم أكثر إنسانية وفكر أكثر رحابة إضافة لترسيخ قيم الحداثة في الفكر والثقافة العربية.
التيارات العقلانية في الفكر العربي المعاصر
يحتل موضوع التيارات العقلانية في الفكر العربي المعاصر قسمًا مهمًا من الكتاب، إذ يتحدث الباحث من خلال هذا القسم عن أشكال التيارات العقلانية النقدية منها والوضعية، كما يتطرق إلى قيادات ورموز تلك التيارات مثل فؤاد زكريا وزكي نجيب محمود وعبد الله العروى وقسطنطين زريق ومحمد عابد الجبري الذي اهتم بنقد العقل التراثي.
يعتمد الكاتب بشكل كبير في تشييد معالم بنائه الفكري على المنهج التاريخي الدقيق بقواعده ومعاييره منطلقًا من إيمانه العميق بقيم الحداثة والحرية والمساواة والعدالة والعقلانية، ويرى الكاتب أن مشكلات التطرف والتخلف والدكتاتوريات في العالم العربي لن تُحل دون تحقيق التحديث والنهضة والإصلاح السياسي الذي انطلق منه مفكرو عصر النهضة، وفي تحليله السياسي المعمق يرى الكاتب أن تراجع وخفوت مشروع الإصلاح السياسي العربي هو ما رسخ استقواء النزعات السياسية الرجعية لينتهي الأمر بهزيمة 1967 وتعود بعدها فكرة النهضة العربية الثانية إلى السطح من جديد.
وقد ارتكزت فكرة النهضة العربية الثانية على نقد وإعادة تقييم نظمنا الفكرية وأوضاعنا السياسية والاجتماعية، وارتبطت نزعة النقد هذه بإعادة النظر في التراث ورفض أنظمة الحزب الواحد والفكر الواحد وأدت تلك المرحلة إلى طرح العديد من القضايا منها: رفض النزعة السطحية التوفيقية والتدرج التاريخي في عملية التغيير وضرورة الانفتاح على مرجعيات الحداثة السياسية والفلسفية وهو الأمر الذي يخلق ديناميكية تحمي الفكر من التكلس والانغلاق الذي من شأنه أن يعيد إنتاج التخلف مرة أخرى عوضًا عن دفع الأنظمة والشعوب إلى الأمام في قاطرة الحداثة.
لحظتان فارقتان
يحدد الباحث كمال عبد اللطيف لحظتين فارقتين في عملية استجابة الفكر العربي لأسئلة الحداثة هما: لحظة إدراك الفارق ثم تأتي لحظة وعي الذات، وبين اللحظتين هناك الكثير من المحطات التي يصعب اختزالها ذلك أن التغيرات الفكرية تحدث بصورة متداخلة ومركبة ومرتبة لتصورات ناظمة للمتحول والمختلف والمتناقض.
وتبدأ لحظة إدراك الفارق مع بداية الاحتكاك بالحداثة الغربية لكونها قطعت شوطًا هائلًا في طريق الحداثة، ومن خلال هذه اللحظة سيدرك المفكر العربي أن المجتمعات الأوروبية تقدمت حين وضعت أسس مظاهر النهضة متبعة برامج في الإصلاح الاجتماعي والفكري والسياسي، أما لحظة وعي الذات فهي تشير إلى مفترق طرق كبير يتشكل فيه الفكر العربي المعاصر بعد أن يستوعب مكاسب لحظة إدراك الفارق ثم يتجه إلى تخطيها صوب استحضار المكون الذاتي ومحاولة بناء أسئلته الخاصة في علاقته بمعطيات الحاضر، وينظر الكاتب إلى وعي الذات بصفته أفقًا صانعًا للكثير من مظاهر الإبداع، فمن خلال هذا الوعي فقط يمكن إدراك التميز والحث على المواصلة.
إشكالية المواطنة والأقليات
في ظل التحولات الجيوسياسية والحروب يطرح المؤلف تساؤلًا عن الأقليات الإثنية التي أضحت من القضايا المهمة في الآونة الأخيرة، ويذكر المؤلف أن الأنظمة السياسية تستغل موضوع الإثنيات من أجل زرع الفتن بين الجماعات المكونة لتلك الأقليات وبالتالي سهولة السيطرة عليها، ويرى أن الصراعات السياسية بين الأقليات والجنس المهيمن هدفها إضعاف فكرة الانتماء الجماعي والمواطنة، ولذلك فالمشروع السياسي الحداثي يرتكز على تفكيك الكثير من مسلمات العقائد الإثنية أملًا في الوصول إلى بناء مشترك إنساني.
في الوقت نفسه يؤكد الكاتب أنه في الوقت الذي كان فيه التنوع الإثني سببًا في تطور المجتمعات الأوروبية وثراء مخزونها الثقافي والاجتماعي فإنه كان وبالًا على المجتمعات العربية وسرطانًا يتغذى على أوردتها الدموية ويقف أمام تقدمها، وفي حين تصارع الإقليات الإثنية في أوروبا أمواج العولمة العاتية التي تسعى لسحق الهويات الصغرى فإن الإقليات الإثنية العربية لا تخوض ذلك الصراع إذ إنها لم تنتج أي مناعة تحميها من المحو والاختفاء.
قضية المرأة في الفكر العربي المعاصر
يفرد الكاتب أيضًا فصلًا خاصًا في كتابة للحديث عن تحرر المرأة في الوطن العربي وذلك من خلال مراجعة النظر والتدقيق في الخطاب السياسي والفقهي والمجتمعي الذي يتناول أوضاع المرأة، فمن وجهة نظره مسألة قضية المرأة تتجاوز مسألة العمل والجانب الاقتصادي وتتعداه إلى إنتاج نمط تفكير يستفيض في تحليل مفهوم التمكين، وتاريخيًا يرى الكاتب أن مسألة قضية المرأة في الفكر العربي مرتبطة بصورة نمطية سائدة تعد محصلة لتاريخ من التدبير السياسي والاجتماعي والثقافي المعبر عن شكل الصراع الدائر داخل المجتمع.
في النهاية يصل الكاتب إلى نتيجة مفادها أن الحداثة ليست مجرد مفهوم أو مجموعة من المفاهيم الموصولة ببعض الوقائع التاريخية والأنساق والمنظومات الفكرية والسياسية والفلسفية ولكنها تستوعب ذلك ثم تتجاوزه إلى بناء على معطيات التاريخ الذي ساهم في عملية بلورتها، ويرى المؤلف في النهاية أن الفكر العربي يجب أن ينشغل بكيفية المساهمة في إنتاج المعرفة والعلم والمعنى داخل القيم الكونية وذلك عوضًا عن إهدار طاقته في التفكير بثنائية الشرق والغرب.
وعلى الرغم من أن الكاتب يسعى إلى تطوير ونهضة الفكر العربي، فإنه ومن غير قصد نادى بين طيات كتابه إلى هدم الماضي بكل أوهامه لتقويض دعائم الاستبداد وفسح المجال أمام إعادة بناء مجتمع إنساني واحد وهي دعوة يشوبها الكثير من الضبابية، فالتراث العربي يحمل الكثير من هويتنا أما عملية محو مسلمات عقائد الإقليات أملًا في القضاء على الاستبداد فهي غير مأمونة العواقب.