الدولة الزنكية، الإمارة الزنكية، الدولة الأتابكية.. أسماء ومفاهيم عرف بها الزنكيون، تلك الإماراة الإسلامية التي أسسها عماد الدين زنكي في الموصل، وامتدت لاحقًا لتشمل كامل الجزيرة الفراتية والشام، ثم بلغت مصر في عهد الملك العادل نور الدين محمود الذي ضمها على يد تابعه وربيبه يوسف بن نجم الدين الأيوبي (صلاح الدين فيما بعد)، بعد وفاة آخر الخلفاء الفاطميين أبو محمد عبد الله العاضد لدين الله.
نشأت تلك الدولة (1127-1250) كامتداد لدولة السلاجقة (1037 – 1194) التي ترعرعت في كنف الخلافة العباسية، وكان لها دور كبير في محاربة بلاد فارس وتغلبوا على الغزنويين والبويهيين، وتوغلوا داخل أراضي الدولة البيزنطية، غير أنها سرعان ما تفتت نتيجة ضعف حكامها وانقسامها إلى دويلات وإمارات صغيرة، من بينها سلطنة سلاجقة كرمان وسلطنة سلاجقة خراسان وإمارة حلب وإمارة دمشق وسلطنة سلاجقة الروم.
كانت تتبع تلك الإمارات نظام الإقطاعيات الوراثية التي يسيطر عليها أمراء صغار السن أو ضعاف الشخصية، ما نجم عنه حكمًا مستبدًا فشل في إدارة البلاد، وهو ما قاد في النهاية إلى سقوط الدولة ونشأة عدد من الكيانات الجديدة كان من بينها الدولة الزنكية التي خرجت للنور على يد عماد الدين زنكي.
استطاع عماد الدين أن يضع اللبنة الأولى لبناء هذه الدولة التي دامت 123 عامًا، فرفع راية الجهاد ووضع حجر الأساس، ليأتي بعده ولده نور الدين محمود فاستلم الراية، ليواصل مسيرة والده الحافلة بالانتصارات حتى جاء المتمم صلاح الدين الأيوبي، لينثر ثمار عطائه ويجني حصاد الدولة التي نجحت في دحر الصليبيين وطردهم شر طردة من أراضي العرب والمسلمين.
البداية.. نهاية السلاجقة
كان والد عماد الدين زنكي، قسيم الدولة آق سنقر، من المقربين من السلطان السلجوقي ملك شاه الأول، بل كان من أخص أصدقائه، ولذا عينه حاجبًا له، وكان يتمتع بمكانة كبيرة من المقربين وبات مع مرور الوقت كاتم أسراره الأول والمخلص الأمين له، خاصة في ظل ما كان يتمتع به من مهارات قتالية كبيرة.
وتذهب شهادات المؤرخين إلى أن آق سنقر كان يتميز بالحنكة والدهاء السياسي، يقول ابن الأثير: “وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسةً لرعيته، وحفظًا لهم، وكانت بلاده بين رخصٍ عام وعدلٍ شامل وأمنٍ واسع”، ويقول ابن كثير: “كان من أحسن الملوك سيرةً، وأجودهم سريرة، وكانت الرعية في أمنٍ وعدلٍ ورخص”.
لكن وفي خضم الصراعات السياسية لملك شاه دخل والد عماد الدين في مواجهة عسكرية مع حاكم دمشق تتش بن ألب أرسلان، حيث أسر في معركة تل السلطان قرب حلب سنة 487هـ، فسأله تتش: لو ظفرت بي ما كنت صنعت بي؟ فأجابه في شجاعةٍ: كنت أرى قتلك، قال: فأنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله صبرًا.
وبعد وفاة قسيم الدولة رافق ولده عماد الدين رئيس شرطة بغداد آق البرسقي عام 516، وأحسن إليه ورباه جيدًا، إخلاصًا لوالده ومكانته في الدولة، حيث شارك في المعارك التي دارت ضد الأمير “دبيس بن صدقة” أمير الحلة، ورأى البرسقي في الشاب الشجاع مهارة قتالية فائقة، فولاه “واسط” ثم أضاف إليه البصرة.
وبعد وفاة أمير الموصل عز الدين مسعود، سعى البعض إلى تعيين ولده مكانه، لكن عندما ذهب قاضي الموصل بهاء الدين الشهرزوري، وصلاح الدين محمد الياغسياني إلى السلطان محمود وطلبا منه تعيين أمير قوي وكفء للموصل التي على حدود الشام حيث الوجود الصليبي، فقرر السلطان محمود أن يسند ولاية الموصل وأعمالها إلى عماد الدين زنكي، وذلك عام 521هـ/1127م، وهنا بدأت الدولة الزنكية.
الدفاع عن الأمة
كان عماد الدين زنكي قائدًا محنكًا من دواهي العصر فطنةً وذكاءً وحدة بصيرة، كما كان من أشجع الناس وأقواهم وأجرأهم على القتال، كما تراوحت علاقته بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية بين التعاون المثمر والعداء الشديد وفقًا للمصلحة العامة والشخصية في نفس الوقت، على أن هذه التقلبات لم تؤثر على مركزه في ولاية الموصل والجزيرة وبلاد الشام.
تبنى عماد الدين خطة عسكرية لمواجهة الصليبيين تنقسم إلى شقين، الأول: إنشاء دولة وراثية وتوسيعها بصورة كبيرة عن طريق ضم الإمارات المسلمة في الجزيرة الفراتية والشام والمناطق الشرقية وتوحيدها مع إمارة الموصل، أما الشق الثاني فهو الاستعداد لمجابهة الصليبيين وطردهم من بلاد المسلمين.
وبالفعل بدأ في تنفيذ الشق الأول من الخطة، فبدأ بضم نصيبين التابعة لإمارة ماردين الأرتقية، واختارها أولًا كونها أقرب المواقع إلى الجهات التابعة لحكمه، تلاها بلدة البوازيج عام 521هـ الموافقة لسنة 1127م، وهي تقع قرب تكريت على طريق الموصل عند مصب نهر الزاب الأسفل.
وقعت حلب في حالة شديدة من الفوضى بعد وفاة عز الدين مسعود البرسقي وأصبحت ميدانًا للتنافس بين سليمان بن عبد الجبار الأرتقي وإبراهيم بن رضوان السلجوقي
بعد ذلك تطلع إلى حلب، ذات الأهمية العسكرية والسياسية البالغة، بفضل ما تتمتع به من حصانة عسكرية ومركز متميز وإمكانات اقتصادية وسياسية وبشرية مهمة، بخلاف موقعها على خطوط المواصلات بين فارس والعراق من جهة والشام وآسيا الصغرى من جهةٍ أخرى.
وكانت حلب قد وقعت في حالة شديدة من الفوضى بعد وفاة عز الدين مسعود البرسقي وأصبحت ميدانًا للتنافس بين سليمان بن عبد الجبار الأرتقي وإبراهيم بن رضوان السلجوقي، حتى طمع فيها الصليبيان: جوسلين الثاني أمير الرها وبوهيمند الثاني أمير أنطاكيا.
ظل الأمر على هذه الحالة حتى عقدت هدنة بين سليمان وجوسلين تنازل الأول بموجبها عن بعض المناطق الزراعية المحيطة بالجهات الغربية لحلب، وهو ما كان دافعًا لتدخل عماد الدين الذي فوت الفرصة على الجميع، فمكن لنفسه مستغلًا تقليد السلطان له بحكم الموصل والجزيرة والشام، فسار نحو حلب وخرج أهل حلب إليه، فالتقوه واستبشروا بقدومه وأظهروا من الفرح ما لا يعلمه إلا الله – كما يقول ابن الأثير – ودخل البلد واستولى عليه ورتب أموره.
إعداد العدة
منذ الوهلة الأولى فطن عماد الدين وأمراء الدولة الزنكية إلى أن أمراض الأمة الإسلامية تنحصر في محورين، الأول وهو تشرذم المسلمين، وهو العامل الأخطر، والثاني الاحتلال الصليبي للبلاد الذي أسفر عن انقسام سياسي وميلاد دويلات هشة وحكام ضعاف يعملون لصالح الصليبيين وينفذون أجنداتهم.
وعلى الفور بدأ العلاج بدواء الوحدة، حيث عمد زنكي إلى توحيد صفوف المسلمين ووحدة كلمتهم والتغاضي عن الخلافات السياسية والمذهبية بين المدن والدول، من أجل بناء دولة موحدة قادرة على مواجهة الغزو الصليبي الذي تزداد رقعته في بلاد المسلمين يومًا بعد يوم.
وبعد تعبيد الأرض سياسيًا عبر نبذ الخلاف، بدأت المرحلة التالية المتعلقة بإعداد القوة العسكرية الضاربة، فتم استحداث بعض القطاعات في الجيش لتقويته، منها ديوان الجيش الذي أسسه زنكي ليشرف على أمور الجند وتنظيمهم وتوزيع رواتبهم وأعطياتهم بانتظام، وجعل على رأس هذا الديوان موظفًا أعلى يطلق عليه “أمير حاجب”.
علاوة على تعزيز تسليح الجيش بالأسلحة المستخدمة في هذا العصر، فاستخدم الدبوس وهو آلة من حديد ذات أضلاع، والرماح والسيوف والقوس والسهم والنشاب والمنجنيق والدبابة والكبش والقلعة المتحركة التي كانت تستخدم لنقل الجند والمعدات الحربية إلى الأسوار لتحميهم من سهام الأعداء ونيرانهم، كما استعمل زنكي النار العادية لحرق الأسوار بعد نقبها وملئها بالخشب.
وفي مساء 6 من ربيع الآخر 541هـ الموافق فيه 15 من سبتمبر 1146م، قتل عماد الدين على يد مملوك من مماليكه، وهو ما أحدث هزة عنيفة في القصر الحاكم وفوضى داخل صفوف الجيش، لكن سرعان ما تم السيطرة عليه، وقد ترك أربعة أولادٍ من الذكور هم: سيف الدين غازي وهو أكبرهم، ثم نور الدين محمود، ونصرة الدين أمير أميران، وأبو الملوك قطب الدين مودود وهو أصغرهم.
ورغم القلق من وجود صعوبات في الاحتفاظ بالملك، لم يصادف هؤلاء الإخوة أي مشقة في ذلك، بفضل مساعدة اثنين من رجال عماد الدين الأوفياء هما: جمال الدين محمد الأصفهاني رئيس الديوان، وصلاح الدين الياغسياني الأمير الحاجب، لتبدأ مرحلة التصدي للحملات الصليبية.
مجابهة الحملات الصليبية
كان لانتصارات المسلمين وتوسعة رقعتهم صدى كبيرًا في أوروبا، ما دفع الغرب الأوروبي لإرسال عدد من الحملات الصليبية لمواجهة جيوش المسلمين، خاصة بعد سقوط الرها في أيدي المسلمين، وهي أول إمارة أسسها الصليبيون في المشرق الإسلامي، هذا بجانب مكانتها المسيحية لديهم.
وبالفعل أرسلت أوروبا حملة صليبية كبيرة تتألف من جيشين كبيرين: جيش فرنسا وروما المقدسة، وقادهما أكبر عاهلين كاثوليكيين هما كونراد الثالث إمبراطور ألمانيا ولويس السابع ملك فرنسا، فيما خرج الجيش الألماني أولًا متجهًا نحو المشرق، ولما عبر إلى آسيا الصغرى قرر كونراد الثالث ألا ينتظر مجيء الفرنسيين وأن يسير نحو قونية عاصمة سلاجقة الروم، وهو ما كان في صالح المسلمين حيث استفردوا به وأذاقوه شر هزيمة.
بدأ صلاح الدين في تنفيذ مخططه الذي انتهى في آخر المطاف بدحر الصليبيين وإعلاء راية الإسلام بعد سنوات طويلة من الجهاد
خاضت جيوش المسلمين العديد من الحروب الجانبية والفتوحات التوسعية تمهيدًا لملاقاة الصليبيين، استمرت لعدة عقود، وبوفاة نور الدين محمود في 11 من شوال 569هـ/15 من مايو 1174م، سادت مخاوف عدة من تفتت الدولة وتمزقها، فلم يكن بين رجال الأسرة الزنكية من يصلح أن يكون خلفًا لنور الدين الذي لم يترك إلا ابن طفلٍ في الحادية عشرة من عمره اسمه إسماعيل، لا يصلح بعد للقيادة.
وبينما كانت الأمور تزداد سوءًا تطلع القائد صلاح الدين الأيوبي إلى بسط سيطرته على الشام وإعادة الوحدة بينها وبين مصر بهدف استمرار السياسة التي بدأها عماد الدين الزنكي، وجرى عليها نور الدين محمود، التي تقضي بتوحيد كلمة المسلمين والقضاء على الصليبيين.
وبالفعل أرسل صلاح الدين كتابًا إلى الخليفة العباسي أبو العباس أحمد الناصر لدين الله يخبره فيه عزمه المسير إلى الشام وعزل الأمراء المتخاصمين وتوحيد البلاد وكلمة المسلمين لأن استرداد بيت المقدس من الصليبيين لن يكون ممكننًا في ظل هذه الظروف، فأجاز له الخليفة ذلك، وبدأ صلاح الدين في تنفيذ مخططه الذي انتهى في آخر المطاف بدحر الصليبيين وإعلاء راية الإسلام بعد سنوات طويلة من الجهاد.
وفي 1233م كتب الأمير بدر الدين لؤلؤ، آخر أمراء الدولة الزنكية، الفصل الأخير من الدولة التي حاربت الصليبيين وقدمت للمسلمين دروسًا في الجهاد والتصدي والزود عن الإسلام والأمة، وذلك حين أعلن لؤلؤ وفاة ناصر الدين محمود بن عز الدين مسعود، وتسلم الحكم في الموصل دون أن يخشى أحدًا.
حينها أرسل إلى الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور المستنصر بالله، طالبًا منه تقليده حكم الموصل، وعلى الفور تم الاستجابة لطلبه، وظل بحكم المدينة حتى 1258م، حتى خضع للمغول بعدها إثر اجتياحهم الدولة العباسية وأسقطوا الخلافة الإسلامية بها لتزول معها الدولة الزنكية بعد تاريخ من العمل المشرف ورفعة لراية الإسلام.